الرحيل
وأخيرا كان الرحيل... الرحيل عن مهد
الآباء والأجداد
. وضمت هذه الهجرة التاريخية المدوية
– في عدد من القوافل
المتتابعة – حوالي ستمائة أسرة
سريانية من سكان الرها
الأصليين ، منها حوالي خمس عشرة أسرة سريانية من اللاجئين
السريان من أبناء سيويرك وما يزيد عن عشرين أسرة سريانية من
رعايا الكنيسة الكاثوليكية وقدرها من الأسر من رعايا الكنيسة
الكلدانية وحوالي عشرين أسرة من السريان البروتستانت وعدد ضئيل
من الأسر التابعة للكنيسة اللاتيبية في الرها .
وتحركت القوافل الراحلة
الواحدة تلو الأخرى باتجاه ولاية حلب عبر بلدة سروج –
عين
عرب –
زور مغارة – جرابلس
خلال
شهري شباط وآذار من سنة الهجرة . وكان الرحيل طويلاً شاقاً
والشتاء لا يرحم المنكوبين والرياح الباردة العاصفة لا تبالي بمن
لا مساعد له ولا معين من الفقراء والأرامل واليتامى ممن كانوا
بحاجة على عناية روحية بقدر ما كانوا بحاجة إلى عون مادي من مأوى
ورغيف .
ونزل هؤلاء القوم على تخوم البلاد بعيالهم ، منهم العجزة والشيوخ
ومنهم النساء والأطفال منهكين من التعب ، مكدسين فوق بعضهم هنا
وهناك على قارعة الطريق على أرصفة المحطة أو في العراء على مقربة
من ساحة المحطة سواء في عين العرب –
arab
punar-
عند الخطوط الحديدية على الحدود ، أو في زور مغارة على الفرات أو
في جرابلس بعد ذلك ، وباتوا ينتظرون وصول القطار يوماً بعد يوم ،
من مطلع الفجر حتى المغيب ، لا يبالون بأحداث الدهر ولا بالعوارض
الجوية ، وبين الرها وحلب طريق طويل وما من قارئ
للغيب تنبأ متى تنتهي متاعب الرحيل . كانت الكآبة تشتد والحاجة
إلى القوت تزداد والأمراض تسري كلما طالت الرحلة ، وليس لدى رفاق
الطريق سوى ملابس الهجرة وقليل من الزاد ... ومن كان ينعم بأكثر
من رغيف دعا أخاه الفقير أو جارته الفقيرة أن يشتركا معه في
تخفيف جوعهما حتى أبواب حلب .
وعند نهاية الرحيل استقبل سكان حلب قوافل السريان النازحين
وفتحوا لهم أبواب المدينة بكل عطف وترحاب ، فقصد بعضهم الخانات
القديمة – بجوار القلعة – المخصصة لإيوائهم بينما
نزل آخرون من القطار إلى مركز
(( مخيم السريان
اللاجئين )) القريب من محطة بغداد ، حيث نال هؤلاء
قسطاً من الراحة بفضل من هب لإغاثة المهاجرين القادمين من تركيا
.
ولقي السريان في القطر العربي السوري ترحيباً حاراً
وعوناً مستمراً من إخوانهم العرب
في شتى المجالات ووجدوا في سوريا مقراً آمناً ووطناً حامياً
يساعدهم على العيش والازدهار .
وجاء في سياق الأخبار الطائفية وقتذاك أن
مار سيويريوس أفرام برصوم ، مطران سوريا ولبنان ( 1918-
1932) قصد حلب أكثر من مرة واتصل بسلطات الانتداب والزعماء
الوطنيين الأحرار لإغاثة المهاجرين القادمين من تركيا . وقد ترأس
نيافته لجنة رباعية كانت مهمتها إيجاد مأوى لمن بات تحت رحمة
السماء من أبناء الشعب السرياني.وهو الذي صرف جانبا كبيراً من
اهتمامه في إسكان مهاجري الرها في بقعة قريبة من محطة بغداد بحلب
حيث نصب لهم فيها خياماً يسكنون فيها بادئ
الأمر .
كان لهذا المخيم حسنات ولا سيما بعد أن دخل في
طور البناء والعمران
1-2-3-4
. إذ أنه حافظ على وحدة الأسرة الرهاوية من التجزئة والتشتت هنا
وهناك . كما إنه ساعد كنيسة الرها الرسولية المنقولة إلى سورية
على أن تستمر في البقاء بعد انهيار أبرشية الرها التي اندثرت هي
الأخرى مع أبرشية أضنة وسيويرك وخربوط وغيرها بسبب الهجرة بعد
الحرب العالمية الأولى .
ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى ما أصاب السريان من الكوارث
والنكبات في الأراضي التركية إبان الحرب العالمية الأولى . ولا
نبالغ في أخبارنا إذا قلنا إن السريان على اختلاف مذاهبهم ،
تألموا مادياً ومعنوياً أكثر من غيرهم من العناصر المسيحية
الأخرى في تلك الربوع وما أن انتهت الحرب حتى نزح – والأصح هرب –
من مرعيث أبرشية ماردين الكبرى والرها وسيويرك وديار بكر وطور
عبدين وخربوط وأضنة عشرات الألوف من السريان إلى سورية ولبنان ،
وهم بقايا الناجين من سلسلة طويلة من الحوادث المريرة التي حلت
بهم أثناء الحرب وبعدها .
|