الولادة: –
الوفاة: –
بفنوتي أحد أشراف الإسكندرية
عاش في الإسكندرية في أيام ثيؤدوسيوس الثاني الذي مَلَك بين السنوات 408 و430م وجيه من الأشراف الأغنياء اسمه بفنوتي، وكان قد تزوج من شابة نبيلة فاضلة مثله، ولم يرزقهما اللَّه نسلاً. فانشغل بالاهتمام بالفقراء والمعوزين وبإضافة الغرباء والعناية بالمرضى، وقَرَن كل هذه الأعمال بالصلاة والصوم ضارعاً إلى اللَّه أن يتحنن عليه ويهبه نسلاً. انقضت سنوات دون أن تتحقق له استجابة من قبل اللَّه. قصد إلى رئيس دير واعترف له برغبته في أن يرى طفلاً من نسله. استقبله رئيس الدير بالترحاب وأصغى إليه بطول أناة، ثم أخذه إلى الكنيسة وصلى الاثنان معاً في حرارة وبلجاجة، فرزق اللَّه بفنوتي وزوجته بنتاً رقيقة جميلة سمياها يوفروسينا، أي “بهجة”.
خطوبتها
حين بلغت أوفروسينا الثانية عشر من عمرها توفت والدتها، فكرس بفنوتي نفسه لتعليم ابنته وتهذيبها والتسامي بروحها نحو اللَّه، فلم تلبث أوفروسينا أن أصبحت مصدر تعزيته واعتزازه معاً، وذاع صيتها في الإسكندرية لعلمها وتواضعها. ومع صغر سنها كانت تبتعد عن المظاهر، فلا تتزين ولا تتحلى بالجواهر، بل وكانت تلبس الخيش الخشن تحت ثيابها الحريرية الناعمة.
ولما كان أبوها يستصحبها حيثما ذهب تطلعت الأنظار إليها، وبالفعل نجح شاب من مستواها أن يحوز رضاها ورضى أبيها، وفرح ثلاثتهم بهذا التوافق وأقيمت مراسم الخطوبة، وكانت أوفروسينا في الثامنة عشر من عمرها.
اشتياقها إلى حياة الرهبنة
وبعد أسابيع قليلة استصحب بفنوتي ابنته إلى ديره المفضل وتقدم إلى رئيس الدير وقال له: “ها هي ثمرة صلواتك يا أبي، ولقد أحضرتها لك لتصلي من أجل مصيرها لأنها ستتزوج بعد قليل من شاب غاية في الأدب والثبات على الإيمان”.
حدث بعد أيام أن جاء راهب من الدير نفسه إلى بيت بفنوتي ليدعوه إلى حضور الصلوات التي ستقام فيه لذكرى تأسيسه، فأخذت أوفروسينا تستوضحه عن حياة الرهبنة ثم قالت له: “إنني مشتاقة حقاً إلى حياة التبتل ولكن أبي يريد أن يراني في بيت الزوجية المقدسة”، فقال لها: “إن كان اشتياقك من القلب فانتهزي فرصة غياب أبيك عن البيت وتخفي في زي راهبة واقصدي إلى أي دير للعذارى”، وفعلاً نفّذت أوفروسينا نصيحته. قصت شعرها وذهبت إلى الدير الذي تعرفه وقالت لرئيسه: “اسمي زبرجد وأنا أتلهف على العيشة الملائكية، فأرجو من أبوتك أن تجعلني تحت رعايتك”. قال الرئيس: “سأضعك تحت رعاية أب تمرَّس في الرهبنة ليرشدك ويعلمك”، وأرسل لساعته فدعا الشيخ أغابيث وقال له: “هذا هو ابنك منذ الآن، وأنا أسلمه لك لكي يتفوق يومًا ما على معلمه”. أجاب رجل اللَّه: “ليتحقق قولك بنعمة إلهنا”.
الناسك الروحاني زبرجد
كان بفنوتي يبحث عن ابنته في كل مكان وسأل عنها في أديرة الراهبات فلم يعثر لها على أثر.
وفي يوم ما أخذه الشيخ أغابيث إلى قلاية الحبيس زبرجد ليتعزى بتعاليمه، وكانت أصوامها وصلواتها وتقشفها قد غيرت من شكلها تماماً فلم يعرفها أبوها، وأنزلت هي غطاء رأسها إلى ما تحت عينيها وجلس ثلاثتهم على الأرض.
نياحتها
تعزى قلب الوالد بكلمات هذا الناسك الروحاني وشكر اللَّه على ذلك. ثم أخذت صحة الحبيس زبرجد تتدهور بسرعة، فأرسل الآباء يستدعون بفنوتي لينال منه بركته الأخيرة، وذهب الوالد إلى قلاية ابنته وهو مازال يجهلها، فرجت منه أن يبقى معها ثلاثة أيام وفي مساء اليوم الثالث قالت له: “لقد آزرني القدير ومنحني النعمة التي بها أتممت اشتياقي إليه، فأنا ابنتك أوفروسينا وأرجوك يا أبي الحبيب أن تحفظ سري الذي لا يعرفه حتى أبي الروحي فتدفني أنت بنفسك، وأطلب إليك أن تقدم كل إمكانياتك لهذا الدير الذي تمكنت فيه من أن أسعد بالعشرة الحلوة مع اللَّه”. وانهالت دموع الوالد وابنته وضمها إلى صدره في حنان الثمانية والثلاثين سنة من الغياب عنها. وخلال المحبة التي غمرتها انطلقت روح القديسة أوفروسينا إلى الفردوس.
في الفجر التالي عندما دخل الأب أغابيث ليرى ابنه الروحي كعادته وجد بفنوتي راكعاً محتضناً الجسد الذي انطلقت منه الروح، وذهل أمام الحزن المرتسم على وجهه، فسأله السبب. وفي اندفاع المحبة أخبره بفنوتي بالواقع، وهكذا ذاع سرّ الناسكة التي عرفت أن تحافظ عليه طيلة حياتها، فمجد الآباء اللَّه الذي ساند بقوته امرأة. وأقيمت عليها الصلوات المقدسة في إكرام وتوقير، وقبل أن يدفنوها أمسك رئيس الدير بيد راهب كان قد أصيب بالعمى منذ سنوات وأوقفه إلى جانبها، فانحنى وقبَّل وجنتها وفي الحال استعاد بصره. أما بفنوتي فقد عاد إلى الإسكندرية وباع كل ماله ووزع جزء منه على الفقراء والمعوزين، ثم ذهب إلى الدير وأعطى لرئيسه ما استبقاه من المال، وعاش في القلاية التي تقدست بأنفاس ابنته، وبعد عشر سنين انتقل هو أيضاً إلى الفردوس في هدوء وسكينة فدفنوه إلى جانبها.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت