الولادة: 1735
الوفاة: 1826
صراعات بين المماليك والأتراك
عاش قبل منتصف القرن الثامن عشر وإلى الربع الأول من القرن التاسع عشر. عاصر فترة عصيبة معظمها تتسم بالصراعات المُرة بين المماليك والأتراك، كما عاصر الحملة الفرنسية على مصر. سادت الفوضى البلاد ولم يكن يوجد حاكم تهمه مصلحة البلاد. يُعتبر أحد علماء الكنيسة اللاهوتيين، ويُعرف بفكره اللاهوتي العميق وغيرته المتقدة للحفاظ على الإيمان المستقيم. بجانب روحانياته العميقة ونسكياته وفضائله التي اتسم بها فسمح الله بالاحتفاظ بجسده الطاهر إلى يومنا هذا.
الظروف السياسية
يمكن تقسيم الفترة التي عاش فيها هذا الأسقف من ميلاده إلى نياحته (1735 ? 1826م) إلى ثمان فترات: الفترة الأولى 1735-1743م ظهور شخصية عثمان كتخذا الإنكشارية [أي قائد الجيش العثماني الجديد الذي كان يتكوّن من الصبية المسيحيين من البلاد المفتوحة، كنوعٍ من الجزية، حيث كانوا يتربّون تربية عسكرية إسلامية، ولا يختلطون بالشعب، ولا يتزوجون، ويحسبون أنفسهم عبيداً للسلطان، وكان يعتبر من أشهر الجيوش في العالم].
ضم عثمان زعماء المماليك وسيطر على مصر، وامتاز بالحزم. لكن ثار ضده أتباع جركس ثم ظهر عثمان بك من كبار المماليك الذي تولى السلطة وكان حازماً فاستتب الأمن.
الفترة الثانية 1744-1754م ظهر فيها إبراهيم كتخذا الإنكشارية، وهو من المماليك، وسيطر على مصر.
الفترة الثالثة 1755-1772م ظهر على بك الكبير الذي تطلع إلى إعادة مجد المماليك، وفي بداية عهده قام ضده زعماء آخرون من المماليك. إذ بدأت الحرب الروسية التركية عام 1769م، طلب السلطان عبد الحميد الأول من على بك تجهيز فرق عسكرية. وإذ وشي البعض به أنه يجهزها ليستقل بمصر عزله السلطان. لكنه لم يذعن للقرار واستولى على الحجاز والشام، ثم انضم إلى الشيخ ضاهر العمر والي عكا، وتمكن الاثنان من الاستيلاء على دمشق. لكن السلطان العثماني استمال محمد بك أبو الدهب قائد على بك الكبير، فغدر به، وتمكن من هزيمة مصر، فهرب على بك إلى صديقه الشيخ ضاهر العمر عام 1772م. وساعدتهما روسيا لمحاربة الدولة العثمانية، فعاد على بك إلى مصر والتقى بقوات أبو الذهب عند الصالحية، لكنه هُزم ومات عام 1773م.
الفترة الرابعة 1772-1775م سيطر أبو الذهب على مصر في ولاءٍ للدولة العثمانية، ولإرضائها استولى على مدن كثيرة في الشام حتى توفى فجأة عام 1775م.
الفترة الخامسة 1775-1798م سيطر على مصر إبراهيم بك ومراد بك وهما من مماليك أبو الدهب. ظهر إسماعيل بك الكبير الذي تمكن من طردهما إلى صعيد مصر، ولكنهما تمكنا من الرجوع، واستمر الصراع بين أمراء المماليك. اضطر السلطان عبد الحميد الأول أن يبعث حملة عسكرية بقيادة حسن باشا الجزايرلي لوضع حد للفوضى في مصر. هزم إبراهيم بك ومراد بك، فهربا إلى الصعيد، ثم اتفق معهما أن يحكما المنطقة من جرجا إلى شلال أسوان على أن يحكم إسماعيل بك بقية البلاد. لكن عاد إبراهيم بك ومراد بك إلى مصر واستلما حكم البلاد كلها.
الفترة السادسة 1798-1801م تمكن نابليون بونابرت على الاستيلاء بجيوشه على الإسكندرية، وقام بتحصين الثغر، ثم تقدم إلى القاهرة بالرغم من المقاومة الشعبية في دمنهور والرحمانية وإمبابة. في أغسطس 1798م حطم الإنجليز الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية. لكن مضى بونابرت في حكم مصر، ثم كليبر وبعده منو، وتم جلاؤهم في سنة 1801م.
الفترة السابعة 1801-1805م فترة صراع بن العثمانيين والمماليك من أجل الحكم، سادها الفوضى السياسية، بجانب تدخل قوة بريطانية بالإسكندرية والقاهرة. في هذه الفترة ظهرت شخصيات قبطية لها دورها وصوتها المسموع مثل الجنرال يعقوب القبطي، الذي كوّن وفداً من أعيان الأقباط لمفاوضة الدول الأوروبية عامة وبريطانيا خاصة في مسألة استقلال مصر. كما ظهر عمر مكرم كزعيمٍ شعبيٍ ساهم في ثورة المصريين على أحمد خورشيد وخلعه وتولية محمد علي باشا بدلاً منه.
الفترة الثامنة 1805م بتولي محمد على الحكم بدأت مصر عهداً جديداً، دُعي عصر النهضة الحديثة في مصر.
نشأته
وُلد الطفل يوسف سنة 1735م في قرية النخيلة بمحافظة أسيوط من أبوين بارين أمام الله. وكان والده من أغنياء القرية ومشهود لهما بالتقوى والعطف على المساكين والفقراء، وكانت الأسرة تلقب بأسرة “الأبَحّ”. يظن البعض أنه دعي الأبَحّ لأنه كانا مصاباً ببَحَّة في صوته. لكن كثيرين يرفضون ذلك، لأنه لو كان كذلك لما استطاع رثاء المعلم إبراهيم الجوهري يوم نياحته في 31 مايو 1795م بكنيسة السيدة العذراء بحارة الروم أمام ألوف من وُجهاء البلاد والأراخنة، وعلى رأسهم حاكم مصر إبراهيم بك. كذلك قام الأنبا يوساب بتأبين البابا يوأنس الثالث في يوم نياحته.
تعلم الطفل مبادئ القراءة والكتابة واللغة القبطية وحفظ المزامير، وصار يتلوها في كل وقت في خشوع وهيبة، كما درس الكتاب المقدس. بالإضافة إلى التعليم، كان يوسف يساعد والده في أعمال الزراعة، وكان يتصف بالمحبة والبساطة والتواضع. وكان مواظباً على حضور الكنيسة والتناول من الأسرار المقدسة، حتى امتلأ قلبه بمحبة التكريس وزهد العالم. ثم أخذ يجاهد في الأصوام وأحب النسك، وكان يقوم في الليل مصلياً وساهراً على خلاص نفسه. ولما بلغ الخامسة والعشرين من عمره أراد والداه أن يزوّجاه، لكنه رفض إذ كان يشتاق لحياة الرهبنة، ففرح أبواه وباركا اختياره الصالح.
رهبنته
اتجه إلى دير الأنبا أنطونيوس وذهب إلى الأب إبراهيم الأنطوني رئيس الدير الذي رحب به وباركه ثم طلب من الآباء الشيوخ أن يختبروه فترة من الزمن. بعدها زكاه كل الشيوخ بفرحٍ. عاش يوسف بينهم في ابتهاج قلبٍ فاكتسب محبتهم وثقتهم. وكان يخدم الرهبان بحبٍ، فصلوا عليه وألبسوه ثياب الرهبنة باسم يوسف الأنطوني. عكف على دراسة المخطوطات الموجودة بالدير والبحث في علوم الكنيسة واللاهوت حتى نال قدراً وافراً من الثقافة الدينية والعلم الغزير والمعلومات العامة.
وبجانب جهاده الروحي من أصوام وصلوات ونسكيات كان يخدم جميع الآباء الشيوخ بالدير بكل حبٍ وبذلٍ حتى زكّوه لنعمة الكهنوت، فرُسِم قساً ثم قمصاً، ومن ثَم أخذ يقوم بخدمة المذبح وتقديس الأسرار بكل تواضعٍ وانسحاق قلب، فامتلأ من النعمة الإلهية وذاع صيته.
علاقاته بباباوات الإسكندرية
عاصر الأنبا يوساب خمسة بطاركة جلسوا على كرسي مار مرقس.
1. ولد في عهد البابا يوأنس السابع عشر 105 (1727-1745م).
2. دخل الدير في عهد البابا مرقس السابع 106 (1745-1769م).
3. قام بسيامته أسقفاً البابا يوأنس الثامن عشر 107 ( 1769-1796م).
4. اشترك في اختيار البابا مرقس الثامن 108 (1796-1809م) وسيامته. وكان على رأس الأساقفة الذين اشتركوا في تجنيزه، وقدّم مرثاة عدّد فيها فضائل البابا.
5. اشترك في اختيار البابا بطرس الجاولي السابع 109 (1809-1852م) وتنصيبه بطريركاً. مع البابا يوأنس الثامن عشر سمع بسيرته وصفاته البابا يوأنس الثامن عشر البطريرك المائة والسابع ورغب في مقابلته، فاستدعاه ودار بينهما حديث في مواضيع شتى. وقف فيها الأب البطريرك على عقليته وبصيرته فأحبه، وأسنَد إليه بعض أمور البطريركية، فقام بها خير قيام.
كانت علاقته بالبابا قوية تتسم بالحب، فكلاهما كانا يحبان الذهاب إلى دير الأنبا أنطونيوس ويهتمان برهبان الدير، وعاشا ناسكين. اتسم الأنبا يوساب الأبَحّ بالفضائل الروحية مع العلم الغزير والعمق اللاهوتي والغيرة على الإيمان الأرثوذكسي، فكان البابا معجباً به جداً، لذا ركن إليه الكثير من شئون الكنيسة، خاصة التعليم وتثبيت المؤمنين في إيمانهم الأرثوذكسي. وكان البابا هادئاً وديعاً متواضع القلب فأُعجب به الأنبا يوساب. جاء في مرثاته للبابا: “جلس البابا يوأنس فوق الكرسي خجلاً ويستحي من الشيخ، ويخجل أن يكلم الصبي. يخشى الفقير ويستحي من الغنى. ويخاف أن يكلم أحداً، قائلاً في نفسه: أنت تعرف يا رب إني إنسان حقير، ولست مستحقاً أن أُدعى لأحقر الناس عبداً، فكيف أسمع من كافة الناس إني أب وسيد لهم؟… ومع هذا القول كان يختفي من الجموع، ويستعمل النوح والبكاء، قائلاً: يا رب أنت جعلتني رئيساً على هذا الشعب، ولست أنا بمستحقٍ أن أكون راعيًا، لكن أنت يا رب ارعهم وسسهم، لأنهم شعبك وغنم رعيتك… كان هذا البار متواضعًا للغاية، ولما رأى الإله الرؤوف تواضعه ووداعته أرسل إليه نعمة الباراقليط، وملأه من الفضائل حتى أنه صار مترجماً لكل الكتب المقدسة، مفسراً لكامل ألفاظها، متشبهاً بنوح البار، بالسهر في أيام عمل السفينة. وهكذا صار البابا منذراً لنا في كل أيام رئاسته”.
سيامته أسقفاً
على كرسي جرجا وأخميم بعد نياحة أسقف كرسي جرجا وأخميم استدعاه البابا وأبلغه برغبته في سيامته أسقفاً، فاعتذر لكثرة أعبائه وزهده في المناصب، إلا أن البابا قام برسامته رغماً عن إرادته باسم الأنبا يوساب وذلك في سنة 1791م. وعندما وصل إلى مقر كرسيه في مدينة جرجا قام بافتقاد شعبه وأخذ يطوف البلاد شرقاً وغرباً، لمعالجة بلبلة أفكار الكثيرين من البسطاء، نتيجة عمل الإرساليات البابوية الرومانية. وكان يدخل القرى والنجوع ليشرح حقائق الإيمان الأرثوذكسي وتثبيت الشعب على الإيمان السليم. فاستقرت الأرثوذكسية في قلوب المؤمنين، وتمكن من إبطال بعض العادات الرديئة خاصة أثناء الصلاة، فأحبه الجميع وصار سبب بركة للكثيرين. كان رحوماً بالفقراء، وما كان يفضل منه يرسله إلى دير الأنبا أنطونيوس من أجل تعميره، ولم يكن هذا البار يملك إلا ما يستر به جسمه وما يحتاج إليه ليومه. قام أنبا يوساب بتشييد كنيسة كبيرة في كرسيه، إلى جانب رسامته لعدد من الآباء الكهنة المباركين لرعاية الشعب والسهر على خدمته.
رسالة من بابا روما
عندما أرسل بابا روما رسالة إلى البابا يوأنس الثامن عشر رسالة يدعوه فيها للاتحاد مع كنيسة روما تحت لواء بابا روما، استدعى البابا الأنبا يوساب وطلب منه كتابة رد قوي على ادعاءات كنيسة روما وتفنيد دعواها بالأدلة والبراهين، فقام الأنبا يوساب بكتابة رد مفصل ناقش فيه أهم القضايا الإيمانية المختلف عليها.
ثم طلب البابا منه أن يقوم بحملة تعليمية في الأقاليم المصرية لتثبيت المؤمنين على الإيمان الأرثوذكسي القويم، فقام بهذه الجولات في أغلب الإيبارشيات. وقد وضع كتاباً ثميناً هو “سلاح المؤمنين” يحتوي على مقالات تعالج القضايا الإيمانية المختلفة، كما وضع كتاباً آخر هو “الدرج” نَسَبَه إلى البابا يوأنس تقديراً للبابا وإنكاراً لذاته.
نياحته
إذ قد تقدم في الأيام وأدركته متاعب الشيخوخة حاملاً على كتفيه واحد وتسعين عاماً قضاها في خدمة الكنيسة التي أحبها، لزم دار البطريركية بالقاهرة في ضيافة البابا بطرس. لكنه كان يشتهي أن ينطلق إلى السماء في دير الأنبا أنطونيوس، فاتجه إلى الدير وبعد أن أقام فيه عدة أيام فاضت روحه الطاهرة في يد الرب، في 17 طوبة سنة 1542ش الموافق 24 يناير 1826م، فقام الرهبان بتجنيزه ودفنه. بعد عدة سنوات من دفنه وجدوا جسده سليماً لم يرَ فساداً فقاموا بإخراجه من المقبرة ووضعوه في مقصورة في كنيسة الدير. وقد كرَّمت الكنيسة هذا الأب الجليل والعالِم اللاهوتي البار، فجعلت يوم نياحته تذكاراً سجلته في السنكسار.
من كلماته إذ أفطرنا يا اخوتي والكنيسة صائمة نكون قد أفرزنا أنفسنا، وصرنا عثرة لغيرنا وسبب انحلال الضعفاء. لا تصم بالخبز والملح، وأنت تأكل لحوم الناس بالإدانة والمذمة. ولا تقل أنا صائم صوماً نظيفاً وأنت تتسخ بكل الذنوب.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت