الولادة: –
الوفاة: 1092
اختياره بابا الإسكندرية
اتفق الأساقفة والإكليروس والأراخنة على اختيار الراهب الشيخ الناسك الجليل بيسوس من دير الأنبا يوأنس كاما، ولما أرادوا اقتياده قصراً للبطريركية صرخ أنه ابن عبد فقير غير مستحق لهذه الكرامة. وإنما المستحق لها هو الراهب جورجيوس من دير أنبا مقاريوس، وأوضح لهم أنه مزكى من البابا الراحل خريستوذولس. اقتادوا الراهب جورجيوس الذي كان من أهل قلاقة بحيرة إلى الإسكندرية حيث تمت رسامته باسم كيرلس الثاني سنة 1078م. وعُرِف باسم السنجاري نسبة إلى الصومعة التي كان قد توحّد فيها وهي صومعة سنجارا. تمت سيامته في عهد خلافة المستنصر بقرار مجمع انعقد في البطريركية من الأساقفة وأراخنة الشعب. قوبل اختياره بارتياح في جميع الدوائر الحكومية.
تبوأ هذا البابا الجليل السُدة المرقسية والبلاد في حالة هدوء وأمان بفضل حكم بدر الدين الجمالي الوزير الأرمني، الذي نعمت مصر في عهده بالرخاء والازدهار. بل وزار البابا الخليفة المستنصر في قصره وبارك أمه وأخته كطلبهما، كما بارك القصر أيضاً بناء على رغبتهم، وزار منزل بدر الجمالي ولقي ترحيباً كبيراً مشابهاً لِما لقيه في قصر الخلافة.
علمه وتقواه
لما كان هذا البابا قليل العلم عند انتخابه، فعل مثل البابا ديمتريوس الكرام، وفاق أترابه في العلم والمعرفة وترك لنا تراثاً كبيراً يشهد له بعمق علمه ومعرفته. كما أنه كرَّس الميرون المقدس، ومن نعمة الله عليه أن فاض الميرون وسال من الوعاء أثناء الصلوات.
رهبنة ملك النوبة
بعد سيامة البابا بقليل تنازل سلمون ملك النوبة عن عرشه لابن أخته جرجس، وآثر حياة الوحدة في دير نفريوس الواقع في البرية على الحدود بين مصر والنوبة. حاصره أهل أسوان طمعاً في ضم الدير إلى مصر، وأخذوا الملك أسيراً، وجاءوا به إلى أمير الجيوش بدر الجمّالي. قابله البابا وأراخنة الأقباط باحتفالٍ عظيمٍ، وأكرمه أمير الجيوش إكراماً زائداً، وخصص له قصراً لإقامته، وبقي في مصر إلى يوم نياحته حيث دفن بدير الخندق، المعروف حالياً بدير الأنبا رويس. إقامة الملك سلمون في مصر خلقت جواً من الودّ والحب بين الأقباط والنوبيين.
وإذ لاحظ أمير الجيوش علامات الإخاء بين الأقباط والنوبيين والأثيوبيين عقد معاهدة مع النوبة وأثيوبيا لتسهيل طرق التجارة وامتدادها إلى مصر، وقد قام أراخنة الأقباط بدور حيوي في ذلك. قدّم أمير الجيوش مالاً يستعين به على إصلاح الأديرة والكنائس المتخربة.
مشكلة كيرلس والأنبا ساويرس مطران أثيوبيا
انطلق شخص يُدعى كيرلس إلى أثيوبيا وادّعى أنه مطرانها، وتسلط على كنائسها. وإذ سمع البابا أراد أن يرسل إليهم مطراناً شرعياً يُدعى ساويرس. قاوم أمير الجيوش بدر الجمالي ذلك، ورفض أن يُسرّح له بالسفر إلا إذا وعده ببناء خمسة مساجد في أثيوبيا، وأن يرسل له المطران هدية كل سنة، فوافق البابا على ذلك مجبراً. سافر الأنبا ساويرس إلى أثيوبيا، فهرب كيرلس إلى بلدة دهلك في ديار مصر، وإذ سمع أمير الجيوش بالأمر استدعاه وأخذ كل ثروته وقتله، أما الأنبا ساويرس فعانى كثيراً في أثيوبيا، إذ أراد مقاومة بعض العادات الفاسدة مثل السراري لدى الأمراء الذين كانوا يأخذون جملة من الجاريات بجوار الزوجة الشرعية، وكانوا يدعون إنهم باقون على شريعة موسى النبي بخصوص تعدد الزوجات، وأن ذلك محرماً على الكهنة والشمامسة وحدهم، ومع هذا كانوا يعترفون بأن ما يفعلونه مخالف لروح السيد المسيح.
حدث أن أرسل الأنبا ساويرس خلال أخيه هدية إلى أمير الجيوش فلم تلقَ قبولاً. استدعى أمير الجيوش البابا ومعه عشرة أساقفة وصار يوبخهم بشدة على تقصير البابا في تنفيذ ما وعد به، وطلب منه أن يرسل أسقفين إلى أثيوبيا ليلزم المطران بالوفاء بما وعد به، وطلب أن يسدد ضريبة خمسين عاماً سلفاً، وأن يحذر ممن يتربّصون للتجار المسلمين في الدروب. أمر أن يبقى البابا والأساقفة محجوزين، وأن يدفع كل منهم أربعة دنانير نفقة إعالته اليومية حتى يرجع الأسقفين من أثيوبيا، لكنه أخيراً عدل عن هذا الرأي، واكتفي أن يضعهم تحت مراقبة الجنود، فذهبوا إلى كنيسة المعلقة، واتفقوا على إرسال الأنبا مرقس أسقف أوسيم والأنبا تادرس أسقف سنجار إلى أثيوبيا. مطران النوبة أرسل باسيل ملك النوبة ابن الملك السابق مندوباً إلى أمير الجيوش ومعه هدايا فاخرة طالباً منه أن يكلف البابا بتكريس مطران على النوبة.
خشي أمير الجيوش أن يدرك الرسول بسخطه على البابا فسمح للبابا أن يمثُل أمامه ومعه أخ الأنبا ساويرس مطران أثيوبيا. دافع الأخ عن الأنبا ساويرس بأنه بنى سبعة جوامع عوضاً عن أربعة وأن الأثيوبيين هاجوا عليه واتهموه بالتحيز للمسلمين وهدموا الجوامع وأرادوا قتله واضطر أن يهرب، وأراد الملك أن يخلصه من أيديهم فأمر بسجنه حينئذ. طلب ابن ملك النوبة من أمير الجيوش أن يطلق سراح البابا والأساقفة، فقبل أمير الجيوش ذلك.
أما الأسقفان اللذان ذهبا إلى أثيوبيا فأخبرا ملك أثيوبيا بخطورة الموقف، وأنه إن لم يُسرع ببناء الجوامع فسيهدم أمير الجيوش كل الكنائس في مصر. غضب الملك جداً وأرسل إلى بدر يقول له: “إن تجاسرت ومددت يدك بسوءٍ إلى كنيسة واحدة فاعلم إني أقلب مكّة رأساً على عقبٍ. ولا أرضى ببناء حجرٍ واحدٍ إلا إذا أخذت وزنه ذهباً”.
بدر الدين الجمالي الأرمنّي
يرى كثير من المؤرخين أن بدر الجمالي كان أرمنّي الأصل، وأن والدته أرمنيّة، وكان في أعماقه ربما مسيحياً، لكنه كان يخشى أن يفقد مركزه، لذا كان كثيراً ما يتحيّز للمسلمين. في أيامه تزايد عدد المهاجرين الأرمن إلى مصر، فاختاروا لأنفسهم بطريركاً يُدعى غريغوري.
ولما كانت علاقة الكنيستين القبطية والأرمنية ببعضهما قوية، قام البابا كيرلس بسيامة غريغوري بطريرك الأرمن، وحرّر منشوراً لكافة الكنائس يخبرها أن كنائس مصر وأثيوبيا وإنطاكية وأرمينيا متحدة في الإيمان الأرثوذكسي.
شكوى من الأساقفة ضد البابا
شكاه بعض الأساقفة إلى بدر الجمالي عندما شرط على كل من رسمه على إيبارشية أن يدفع نصف الحصيلة في الإيبارشية لدير أنبا مقاريوس أو لكنيسة القديس مرقس بالإسكندرية. كان المشتكون عليه كما جاء في مخطوط دير البراموس اثنين وعشرين أسقفاً، فرأى بدر الجمالي أنه ليس من حقه إدانته أو استجوابه وطلب من أساقفة مصر جميعهم في الوجهين البحري والقبلي عقد مجمع للنظر في الشكوى. وفعلاً عُقد المجمع ووضعوا الكتاب المقدس في الوسط يمثل حضور الديان العادل.
بدأ المشتكون يقدمون دعواهم وكان البطريرك يجيب على كل المطلوب بكل هدوء ووقار، فظهرت أن هذه الشكاوي مغرضة ومن فرط محبة البابا أنه سامح الذين أساءوا إليه واتهموه.
أعماله الرعوية
وثّق البابا علاقته بأثيوبيا وإنطاكية وبلاد النوبة. ورسم لأثيوبيا أسقفاً هو أنبا ساويرس، كما رسم أساقفة كثيرين بإيبارشيات ليس لها رعاة. ودأب على تعليم الشعب القِيَم المسيحية وقراءة الكتاب المقدس وتفسيره، كما ساند مطران أثيوبيا في القضاء على عادة التسرّي بين العظماء. من مآثر هذا البابا أنه انشغل بنشر القوانين الكنسية، وفي عهده تم تدوين أربعة وثلاثين قانوناً للإكليروس والأساقفة كما طلب من شماس بالإسكندرية واسمه موهوب ابن منصور بعمل حصر لسكان برية شيهيت. ومن القوانين التي أصدرها ونشرها الآتي: منع السيمونية لمنح رتب الكهنوت. أن يؤدب الراعي الرعية بالصليب لا بالحرم، وأن لا يربط ولا يحل من غير حق، فإن ربط أو حرم من غير حق يكون هو المربوط والمحروم من الله. أي أسقف يرفض قبول خاطئ تائب فليُقطع. على كل أسقف أن يتفقد الكنائس والأديرة الواقعة في سلطانه، وأن يراعي حال كهنته ويفحص أمورهم ويوجههم للخدمة وخيرها، ويعمل على خلاص نفسه والذين يسمعونه ويعملون معه. أوضح واجب الكنيسة تجاه الفقراء والرهبان على ألا يغادر الرهبان الدير إلا كطلب البابا أو رؤسائهم، وأن يحتكم الإكليروس والشعب للكنيسة والأساقفة.
وضع قانوناً بوجوب التمسك بالصوم وأهميته، وضرورة اهتمام الكهنة بسر الزيجة وشرعيته، وضرورة احترام الجميع للكنائس والمذابح والهياكل وعدم دخول الشعب إلى الهياكل. قام أحد أساقفته وهو أنبا مرقس بتنظيم القراءات الكنسية في أسبوع الآلام، ووضع كتاب تكريس المعمودية. وقد أرسل البابا كيرلس الثاني أساقفة لتدشين كنيسة القيامة، التي أُعيد بناؤها بعد حرقها أيام الحاكم بأمر الله. تنيح في 12 بؤونة سنة 808ش الموافق يوليو 1092م.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت