الولادة: –
الوفاة: 429
بعد نياحة الأنبا أنطونيوس، كان القديس صيصوي أو الأنبا شيشوي أو سيصوي أو شوشاي أو شيشاي من أكثر أنوار الصاري المصرية ضياءً ومن مشاهير آباء البرية. “شيشوي” تعنى “ابن العالي”. كان مصرياً بالمولد، وفي شبابه ترك العالم والتجأ إلى برية شيهيت سنة 340 وهو في العشرين من عمره تقريباً، وتتلمذ للقديس مقاريوس.
وفي عام 356م إذ كان يشتهي حياة أكثر هدوءً عبر نهر النيل إلى جبل القديس أنبا أنطونيوس حيث تنيح الأنبا أنطونيوس، فكانت حياة هذا القديس وفضائله معيناً ومثبتاً له. انطلق ليمارس حياة الوحدة ومكث إلى عام 426م حيث بلغ حوالي 106 سنة، وبسبب الشيخوخة عاد إلى برية شيهيت حيث تنيح بعد قليل وكان قد اقترب من مائة وعشر سنوات. قال عنه أنبا بيمن: “فاق كل الحدود وتجاوز كل السيّر (التي للآباء القديسين)”.
الأنبا أنطونيوس مثله الأعلى
كان يحسب أن الأنبا أنطونيوس يراه ويسمع توجيهاته لتلاميذه، وكان يجاهد ليدرّب نفسه على الاقتداء بالمعلم العظيم في كل حياته: شدّته في تداريبه الروحية، التزامه الصمت، واشتياقه للصلاة. لذلك ذاع صيته حتى أتى إليه تلاميذ كثيرون ليتتلمذوا عليه، فاضطر إلى التخلي عن حبه للصمت والوحدة لتحقيق هدف أعظم وهو عمل المحبة معهم. بعد نياحة الأنبا أنطونيوس جاء إلى الأنبا شيشوى أخوه لزيارته في مغارة الأنبا أنطونيوس.
قال لأخيه: “كان يسكن في هذه المغارة أسد والآن يسكنها ثعلب!” إذ كان يشتكي أنه لم يبلغ بعد إلى قامة الأنبا أنطونيوس سأله أحد الرهبان: “ألم تصل إلى درجة الأنبا أنطونيوس يا أبانا؟” أجاب: “لو كان لي واحدة فقط من مشاعر هذا الراهب لتحوّلت إلى شعلة حب إلهي”.
تائب البرية
كان معيناً لتلاميذه حتى في ضعفهم وخطيتهم، فكان بمحبته وصبره يقودهم للتوبة، وكان انسحاق القلب هو فضيلته الثابتة التي ترافق توجيهه وتعليمه لتلاميذه. قال له يوماً أحد الرهبان: “يا أبي إني أضع نفسي دائماً في حضرة الله”، فأجابه القديس صيصوي: “من الأفضل لك أن تضع نفسك تحت كل المخلوقات حتى تكون مطمئناً في تواضعك”. لذلك إذ كان في كل حين يتطلع إلى الحضور الإلهي كان يُدرك تماماً ضعفه وحقارته.
دُعي بتائب البرية بسبب ما حدث معه في لحظات نياحته في حضور القديس آمون تلميذ أنبا بامو. قيل أنهم سمعوه يتحدث مع أشخاص غير منظورين. سأله الحاضرون : “ماذا ترى يا أبانا؟” أجاب: “أرى جماعة قادمة لتأخذني وأنا أتوسل إليهم أن يمهلوني قليلاً حتى أتوب”. قال له أحد الشيوخ: “هل لديك قوة لكي تتوب؟” أجاب : “وإن كان ليست لدي قوة فإني أتنهد وأبكي على نفسي!” ولما قال هذا أشرق وجهه كالشمس ففزع الذين حوله وسمعوه يقول: “الرب يقول: ائتوني بتائب البرية”، ثم أسلم الروح فامتلأت القلاية من رائحة ذكية.
محبته للسكون والوحدة
اعتاد أن ينطلق كالسهم إلى قلايته بعد انتهاء العبادة مباشرة، وكان في تعليمه يركز على العبارة: “جيد للراهب أن يبقى في قلايته”. حبس نفسه مرة في القلاية، ومنع تلميذه من القدوم إليه لمدة عشرة شهور، لم يبصر فيها إنساناً. وفيما هو يمشى في الجبل ذات يوم إذ به يجد إعرابياً يصيد وحوشاً برية.
سأله الأنبا صيصوي: “من أين جئت؟ وكم لك من الزمان هنا؟” أجابه الأعرابي: “صدقني يا راهب إن لي أحد عشر شهراً لم أرَ أحداً قط غيرك”. وإذ سمع الأنبا صيصوي ذلك دخل قلايته، وكان يضرب صدره ويقول: “يا صيصوي لا تظن أنك صنعت شيئا لأنك لم تصنع مثل ما صنعه هذا الأعرابي”. رفع عقله إلى السماء كان متى صلى في حضور أحدٍ يرفع يديه وينزلهما سريعاً حتى لا يُخطف عقله إلى السماء في وجود أحدٍ.
تارة إذ كان جالساً في قلايته قرع تلميذه الباب فقال له الشيخ: “انصرف يا ابرآم ولا تعد حتى أستدعيك فإني لست الآن وحدي في هذا المكان!”
صومه
لم يكن يشغله الطعام ولا يفكر حتى في الصوم، فكان غالباً ما ينسى أنه لم يأكل، وكان كثيراً ما يذكره تلميذه طالباً منه بإلحاح أن يأكل، فكان يجيبه: “إن كنا لم نأكل فلتقدم الطعام فنأكل”. سأله أخ عن كلمة منفعة فقال له: “قال دانيال النبي: خبز شهوة ما أكلت!”
جهاده ضد الشياطين
سأله أخ: “هل يا ترى كان الشيطان يضطهد القدماء هكذا؟” أجابه الشيخ: “بل اليوم يضطهد أكثر لأن زمانه قد قرب، لذلك فهو قلق”.
مقاومته للأريوسيين
جاء إليه جماعة من الأريوسيين وبدأوا يتكلمون ضد العقيدة الأرثوذكسية، فنادى تلميذه ابرآم وقال له: “احضر لي كتاب القديس أثناسيوس واقرأ إمامي، فصمت الأريوسيون”.
إقامة ميت
جاءه أرخن وبصحبته ابنه الغلام، وهما في الطريق إلى المغارة مات الغلام. لم ينزعج الأرخن بل حمله ودخل به إلى حيث القديس وكان مستغرقاً في تأملاته، ثم سجد للرب أمامه ووضع ابنه الميت بجواره كأنه ساجد وتركه، وظل الابن على هذه الحال والقديس ينتظر قيامه.
وإذ تأخر جداً ربت على رأسه وهو يقول له: “ليباركك الرب يا بني، انهض سالماً، فنهض الصبي معافى، ومجّد الأب الرب وروى عالياً ما حدث فاضطرب القديس وسأله ألا يروي ذلك لأحد إلى يوم انتقاله.
رجاؤه
جاءه يوماً ما ثلاثة شيوخ متوحدين، فسأله الأول: “يا أبي ماذا أفعل لأتجنب نار جهنم؟” فلم يجبه القديس. سأله الثاني: “كيف أهرب من صرير الأسنان والدود الذي لا يموت؟” ثم سأل الثالث: “ماذا سيكون حالي؟ فإني كلما أفكر في الظلمة الخارجية أكاد أموت رعباً”. أجابهم القديس: “أعترف لكم أن هذه أمور لا أفكر فيها أبداً، وإني إذ أعلم أن الله رحوم أثق أنه سيرحمني”. هكذا أراد أن يرفع قلوبهم بروح الرجاء إلى السماء لا أن ينشغلوا بالهلاك الأبدي.
ولكنه إذ وجدهم قد حزنوا بعث فيهم روح الرجاء قائلاً: “إني أغبطكم يا اخوتي وأطوبكم، وأنا أشعر بالغيرة من فضيلتكم، فما دامت مثل هذه الذكريات عن عذاب جهنم تساوركم من المستحيل أن تستعبدكم الخطية، أما أنا فجامد القلب ولا أفكر أن ثمة عقاباً ينتظر الخاطئ الأثيم، ولهذا لا أكف عن ارتكاب الخطايا”.
حين تقدم القديس في السن ولكثرة أمراضه، استجاب لنصيحة تلميذه إبراهيم وذهب ليعتكف قليلاً في مدينة القلزم Clysma قرب البحر الأحمر، وهناك زاره القديس آمون Ammon، الذي إذ رآه حزيناً لبعده عن مكان وحدته، عزَّاه قائلاً إن حالته الصحية تتطلب علاجاً غير متوفر هناك، فأجابه القديس: “ألم يكن سلام العقل الذي أتمتع به هناك كافياً لراحتي؟” وفعلاً لم يشعر بالراحة حتى عودته. وعندما جاءوا به إلى شيهيت لاحظ أنبا آمون أنه كان متأثراً جداً، فسأله: “لماذا أنت حزين هكذا يا أبانا؟ ماذا كنت تستطيع أن تعمله في البرية وحدك في وأنت مُسّن؟” تطلع إليه وعاتبه قائلاً: “ما هذا الذي تقوله يا أمون، أليس مجرد الإحساس بالحرية في الصحراء أفضل من كل شئ؟” مع الأنبا أولونيوس زاره مرة الأنبا أولونيوس أسقف فيلوابولاوس في جبل أنطونيوس، ولما عزم على الانصراف جعله يأكل باكراً قبل الانصراف وكان الوقت صوماً. فلما وُضعت المائدة إذا بقومٍ يقرعون الباب.
فقال لتلميذه: “قدّم لهم قليلاً من الطعام”. فقال الأسقف: “دعهم الآن لئلا يقولوا أن صيصوى يأكل باكراً”. فتأمله الشيخ وقال للأخ: “امضِ أعطهم طعاماً”. فلما أبصروا الطعام قالوا للأخ: “يا ترى هل عندكم ضيوف، والشيخ يأكل معهم؟” قال : “نعم”، فحزنوا قائلين: “لماذا تركتم الشيخ يأكل في مثل هذا الوقت؟ أما تعلمون أن الشيخ يعذب نفسه أياماً كثيرة بسبب هذه الوجبة؟” إذ سمع الأسقف ذلك صنع مطانية قائلاً: “اغفر لي يا أبى لأني تفكرت فكراً بشرياً، أما أنت فقد نفذت وصية الله”.
نياحته
على فراش الموت سُمِع يصرخ: “القديس أنطونيوس وسحابة الأنبياء والملائكة قد أتوا لأخذ روحي”، ثم أضاء وجهه وسكت لحظة، ثم صرخ مرة أخرى: “الآن الرب يأتي إليَّ”. وهكذا أسلم الروح حوالي سنة 429م بعد أن اعتزل على الأقل 62 سنة في جبل الأنبا أنطونيوس. من أقواله إن لي 30 سنة لم أطلب من الله غفران خطيئتي، ولكن في طلبتي وصلاتي أقول: يا ربى يسوع المسيح استرني، فإني إلى هذا الوقت أزل وأخطي بلساني. “إن لي الآن ثلاثين سنة أصلي للرب يسوع أن يحفظ لساني من أن ينطق بكلمة شريرة، ومع هذا فإني دائم السقوط”. سؤل: “هل الهروب نافع للراهب؟” جعل إصبعه على فمه وقال: “إن حفظت نفسك من هذا يا ابني، فهذا هو الهروب”. سؤل أيضاً: “ما هي الغربة؟” أجاب: “الغربة هي الصمت.
في كل موضع يوجد فيه الإنسان يوجه لنفسه القول: ما شأني في هذا الأمر؟” سأله أخ: ” قل لي كلمة”. أجابه: “لماذا تطلب كلاماً؟ أصنع مثلما ترى”. صرْ مهاناً، واطرح مشيئتك وراءك، وصرْ بلا هم، تجد راحة. سأله أخ : “قل لي كلمة”. أجابه: “أي شئ لي أقوله لك؟ أنى أقرأ في العهد القديم ثم أرجع إلى العهد الجديد”. سأله الأب يوسف: كم من الزمن يحتاج الإنسان إلى قطع الأهواء؟… عندئذ قال سيسوي: “حينما تتحرك فيك الشهوة اقطعها حالاً”.
سأله أخ: “كنت جالسا في البرية، وقدّم بربري وأراد قتلي، وقويت عليه، هل أقتله؟” أجاب :”لا، لكن سلّم الأمر لله ، لأن أية محنة تأتى على الإنسان ليس له إلا أن يقول : إنها من أجل خطاياي”.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت