الولادة: 370
الوفاة: 423
يعتبر سينسيوس الليبي من أشهر أساقفة المدن الخمس الغربية، وكان صديقاً حميماً للأنبا ثيؤفيلس البابا الثالث والعشرين.
نشأته وثقافته
ولد في سيرين بليبيا نحو عام 370م، من عائلة قيروانية شريفة وكان أبواه وثنيين ومثقفين. ويبدو أنه فقد أبويه في سن مبكر، إذ لم يشر إليهما قط في كتاباته.
ورث عنهما أراضٍ زراعية كثيرة في سيرين ومكتبة عامرة بالكتب اليونانية القديمة. التحق بالجيش في بنتابوليس اكتسب خلالها المهارة وقوة الاحتمال. وانتقل مع أخيه أفوبتيوس Evoptius إلى الإسكندرية وهو في السابعة عشر أو ما يزيد، وهناك تمكن من أن ينتفع بالمكتبة العظيمة، وبهره المجتمع المثقف كما أذهلته الروحانية والأفكار العليا. أبدى حماساً متقداً للفلسفة فدرس الفلسفة اليونانية. توجّه إلى أثينا لعله يجد مزيداً من المعرفة، وإذ لم يجد بغيته عاد إلى سيرين.
جنديته
كان سينسيوس يقسِّم وقته بين الاشتراك في المعارك ضد الغارات البربرية ودراسة الأدب والفلسفة، وزراعة الأشجار، وتربية الخيول وكلاب الصيد، وكتابة الشعر.
دفاعه عن مواطنيه
انتخبه القيروانيون وهو في السابعة والعشرين من عمره لينوب في الدفاع عنهم أمام الإمبراطور أركاديوس في القسطنطينية عام 397م فيما أصاب بلادهم من قحط نتيجة لإغارة الجراد، ويستعطفه لتخفيف عبء الضرائب. وفي تلك الأثناء استطاع أن يتصادق مع أشخاص مرموقين في القسطنطينية، وبعد جهود مضنية استطاع أن يلقي خطاباً أمام الإمبراطور في حضرة كل هيئة البلاط. ويرجع ذلك إلى الصداقة التي ربطت بينه وبين أوريليانوس قائد الحرس البريتوري.
نجاحه في الدفاع عن مواطنيه
يكشف عن شخصه أنه كان لبِقاً في الحديث، مخلصاً في محبته لقومه.
ولقد أطرى المؤرخين على خطبته لما اتسمت به من الصراحة الجريئة، وقد وصل إلى نتيجة سارة في دفاعه كما يتضح من إشاراته العديدة إليها. تحدث بفصاحة عجيبة وشجاعة نادرة، جاء في خطابه: [إن البر أساس الحُكم… يليق بالملك أن يكون أكثر نقاءً من الجميع، وأن يكون جندياً، يعيش بين خبراء القتال…] وبعد جهود عنيفة تمكن من مقابلة الإمبراطور
اعتناقه المسيحية
لقد كانت الفترة التي قضاها في محاولاته ودفاعه فترة عصيبة عليه مما أكسبه نفوذاً متزايداً، ويبدو أنه اعتنق المسيحية آنذاك، فقد زار الكنائس أثناء سيطرة القلق عليه، ومما لا شك فيه أنه أصغى إلى القديس يوحنا الذهبي الفم. في الإسكندرية عاد إلى القيروان سنة 402م، وبعد ذلك بحوالي سنة قام بزيارة أخرى للإسكندرية عام 403م حيث تعرّف على البابا ثيؤفيلس، فكان البابا موضع حبه وتقديره. وأغلب الظن أن بذور المسيحية والوعي بتعاليمها وعقائدها قد تأصلت فيه نتيجة للصداقة التي ربطت بينه وبين البابا السكندري الكبير، وقد قضى ساينيسيوس سنتين في عاصمة مارمرقس ثم عاد إلى وطنه.
في هذه الفترة تشرب من البابا روح الإيمان، ثم تزوج بفتاه مسيحية مصرية، وقام البابا نفسه بإتمام طقس الزواج. يقول في رسالته 105: [الله والشريعة (المسيحية) ويد البابا ثيؤفيلس المباركة أعطتني زوجتي.] في بنتابوليس عاد إلى وطنه مع زوجته عام 405، حيث وجد سريلز Cerealis البيزنطي يحكم بنتابوليس، وكان إنساناً شريراً لا يبالي بمصلحة البلد. كتب إلى صديق له، ربما زوج أخته، في البلاط الإمبراطوري يطلب مساعدته للتخلص منه. جاء في رسالته: [إنه من النوع الذي يبيع نفسه بثمنٍ بخسٍ، وهو غير صالح للحرب (ضد البربر)، ظالم في السلم.] كما كتب إلى أستاذته هيباشيا Hypatia بالإسكندرية أستاذة الفلسفة الأفلاطونية الحديثة New-Platonism: [لقد أحاطني سوء حظ بلدي، وأنوح عليه كل يوم، كلما رأيت أعداءنا حاملين السلاح وهم يسوقون رجالنا كالأغنام، وأن الهواء الذي أتنسمه يفوح برائحة أجساد الموتى.] في تلك الآونة استولى البربر على كل ما في منزله الريفي في ضواحي سيرين. وقد وضع كتاب “الكارثة” Catastasis أثناء غزوة قوية للبربر يصفها تفصيلياً”.
مواهبه
قيل أنه كان رساماً، كما كان هاوياً للفلك، فقد صنع بنفسه جهاز الأسطروبلابي Astroblabii وأهداه إلى صديقه باؤنيوس Paeonius وأرفقه بخطابٍ يوضّح له كيفية استعمال هذا الجهاز.
فلسفته وكتاباته
يعتبره البعض مؤسساً للفلسفة الواقعية إلا أنه مال إلى الأفلاطونية الجديدة، وجاءت أفكارها واضحة في دراسته “عن العناية الإلهية” De Providentia. كتب أيضاً Dion تحدث فيه عن أهمية شغل وقت الفراغ بالدراسة العلمية. كما كتب “عن الأحلام” De Insommiis. وألف ملحمة شعبية في مدح فضيلة الشجاعة. كما كتب 156 رسالة تكشف عن أحوال عصره بكل صدقٍ ووضوحٍ. لعله تأثر بمدرسة الإسكندرية التي تبنّت الفلسفة بكونها طريقاً للإيمان وليست ضده. يقول: [إنني لم أسمع (في بنتابوليس) من صوت الفلسفة إلا صدى صوتي، ومع ذلك لو لم يوجد شاهد غيري لاستخدمني الله بكل تأكيد، لأن عقل الإنسان هو ثمرة من نتاج الله.] على أي الأحوال لم تكن له فلسفة مستقلة متميزة، ولا العمق الفلسفي، لكن جاءت قصائده تمثل نوعاً من الشعر الفلسفي (الصوفي) المليء بالخبرة الدينية. يعتبره البعض “أصدق مثال للتعبير عن الشعور الديني المسيحي في القرن الخامس”. لم يستطع حتى سيامته مطراناً من التخلص من بعض الأفكار الفلسفية مثل النظرة الخاطئة للمادة.
فيقول في كتابه “تفسير الأحلام”: [إن فساد الروح يرجع في كل الأحوال إلى غواية المادة وخضوعها لها.]
سيامته مطرانُا
إذ خلا كرسي المطرانية في بتوليمايس (العاصمة حينذاك) سنة 409م لم يوجد من هو أكثر منه كفاءة، فقد عُرف بوطنيته مع ثقافته وحبه لعمل الخير، وشخصيته الفذّة مع إيمانه المسيحي العملي. وثق به أهالي مدينته فأعلنوا رغبتهم في أن يكون مطرانهم، وقد فرح الأنبا ثيؤفيلس البابا الثالث والعشرون بهذا الاختيار. تردّد في قبول هذا المركز لمدة سبعة أشهر، محاولاً الهروب من الكرامة، كما كانت له بعض تحفظات بخصوص قيامة الجسد (يبدو أنه غيَّر أفكاره بعد استرشاده بإسيذورس الفرمي) مع شعوره بالالتزام نحو زوجته التي أحبها جداً (كان يعيش معها كأخوين) وأولاده الثلاثة.
وأعلن مازحاً أنه سيتأسف على ترك رياضة تربية الكلاب. إذ لاحظ إجماع الكهنة والشعب والبابا السكندري ثيؤفيلس وافق، فسامه البابا عام 410م أسقفُا لطلميته ورئيساً للمجمع المقدس في بنتابوليس. جاء في رسالته التي بعثها من مصر إلى كهنة إيبارشيته: [أنني لم أستطع مهما أوتيت من قوة أن أقف ضد رغبتكم وأرفض الأسققية بالرغم من كثرة آثامي… أليست القوة الإلهية هي التي سمحت بضعفي؟… كنت أُفضِّل أن أموت عدة ميتات من أن أتولى هذا العمل الروحي، لأنني أعتقد إني لست أهلاً لهذا العبء، لكن الله قد سمح ليس بما سألته منه ولكن بما سمحت به عنايته… لذلك هل ترفعون أيديكم إلى الله للصلاة من أجلي وأن تأمروا الناس في المدينة، والذين يعيشون في الحقول، والذين يتردّدون على كنائس القرى ليذكرونني في صلاتهم الخاصة والصلوات الجماعية؟ وإن لم يتخل الله عني سأدرك أن كرسي الكهنوت ليس انحداراً عن عروش الفلسفة (حياة التأمل والسكون)، بل على النقيض خطوة للصعود إليها.] (رسالة 11) في القسطنطينية قيل أنه بعد سيامته ذهب إلى القسطنطينية حيث قضى عامين. هناك التقى بالقديس يوحنا الذهبي الفم وانتفع بعظاته. التقى أيضاً بعد ذلك بالقديس أغسطينوس أسقف هيبو في شمال أفريقية على أرض بنتابوليس.
أعماله الرعوية
كان مهتماً بافتقاد الشعب وتعليمه، فلم يكف عن وعظ شعبه للتمتع بالحياة المقدسة في الرب، وأحياناً كان يكتب عظاته ويطلب من الكهنة قراءتها.
جذب كثير من الوثنيين واليهود إلى الإيمان المسيحي وقام بتعميدهم. بناء على طلب البابا ثيؤفيلس قام برحلة رعوية لافتقاد شعب الإيبارشية وحل مشاكلهم الروحية والاجتماعية، ثم أرسل تقريراً مستفيضاً للبابا. بنى كاتدرائية بطلميتة، وكنائس كثيرة خاصة في القرى خلال مدة أسقفيته المحدودة التي يقدّرها البعض بخمس سنوات. كذلك دافع ذات مرة عن عدد من الرجال أُتهموا بالتمرد على الوالي، فكان دفاعه عنهم سبباً في تخلية سبيلهم. مع جهاده الرعوي لم ينسَ حياته الداخلية، فكان يميل إلى السكون والتأمل. كان يقضى أغلب الليل يكتب الترانيم الروحية.
كما أنشأ ديراً بجوار دار الأسقفية (رسالة 126)، ربما كان يقضي فيه فترات خلوة. المتاعب والتجارب التي حلت به كان سينسيوس يحب السلام بكل جوارحه، ولكنه وجد نفسه في وسط صراعات لا يرتضيها مما جعل قلبه يقطر دماً على شعبه. عانى الأنبا سينسيوس الكثير من المتاعب والمصاعب، فمن جهة كانت أحوال الكنيسة الروحية في بنتابوليس مضطربة مع فساد الإدارة الحكومية البيزنطية وانتشار الظلم وضعف الأمن. ومن الجانب الشخصي ففي فترة خدمته الصغيرة فقد أبناءه الثلاثة وحزن عليهم جداً حتى كتب لصديقه بوكلس Poclus: [إنني أعتبر ما أنا فيه واحدة من سلسلة الكوارث التي حلّت بي في أوقات مختلفة.] (رسالة 70) أيضاً اعتلت صحته بشكل مفاجئ بعدما تراكمت عليه المشاكل، حتى أوصى الكهنة في رسالة دورية (57) باختيار من يخلفه قبل وفاته ليساعده في مهام عمله. غالباً ما اختاروا أخاه أفوبتيوسEvoptius الذي تولى كرسي المطرانية بعده.
صراعه مع أندرونيكوس Andronicus
عندما توجه الأنبا سينسيوس إلى مقر كرسيه وجد الوالي البيزنطي “أندرونيكوس” يمارس الظلم والجور، فكان ينصحه فلم يقبل. حاول الأسقف أن يصدر قراراً بإنشاء ملجأ يحمي من تضرّروا من ظلم الوالي، بالتجائهم إلى المذبح المقدس لكنه رفض تماماً (رسالة 7). اضطر المطران إلى عقد مجمع مقدّس يُحرم الوالي الشرير من شركة الكنيسة ويقوم بلصق القرار على أبواب كنائس بنتابوليس. أسرع الوالي وأعلن توبته والسير بأمانة فقبله المطران. عاد الوالي إلى بطشه فأصدر المجمع قراراً نهائياً بقطعه من الشركة هو ومن معه من الجائرين، وطلب من الكهنة منعهم من دخول الكنيسة أو حتى السلام عليهم أو الصلاة عليهم بعد موتهم. جاء في قرار الحرمان التالي: [إن قوى الشر في العالم تحقق مقاصد العناية الإلهية، كما أنها تعاقب كل من يستحق العقاب، ومع ذلك فهي ممقوتة من الله ويجب أن نتجنبها. “لأني سأقيم ضدك، يقول الرب، أمة تحت يديها ستعاني ويلات كثيرة” (إر27: 8).
إلا أن هؤلاء الأشخاص الذين يقيمهم القتال (للتأديب) يعود الرب بدوره فيقاومهم، لأننا حينما نقع في أيديهم لن يشفقوا علينا، ولن يعاملوننا بطريقة إنسانية… ونظراً لأن القوى، التي تجلب الشر علينا شريرة بطبيعتها، وقادرة على ارتكاب الشر، لذلك فقد حلّت الشرور على الجميع (في بنتابوليس)، لأنهم ابتعدوا عن حكمة الله، وعن الفضيلة، وعن فعل الخير، الذي هو من طبع الله… قد يُقال أن النار للتدفئة أو للإضاءة أو أن استخلاص شيء نافع يمكن أن يتم من أشياء ضارة، اخترعها بعض الناس، كما أنه يمكن الاستفادة من أمور قد تبدو شريرة. ولهذا السبب يمكن أن ينتفع المرء حتى من الظروف السيئة…] هذه فقرات من مقدمة طويلة لقراره يقدم فيها تبريره الروحي والمنطقي لإيقاع الحرمان الكنسي على الوالي واتباعه. وقد بعث برسالة إلى البابا ثيؤفيلس يوضح فيها المظالم التي ارتكبها الوالي، ختمها بقرار المجمع المقدس الليبي.
هجمات البربر
كانت المشكلة الرئيسية الأخرى التي واجهت المطران وعانى منها الشعب هي الهجمات البربرية العنيفة التي دامت حوالي سبعة أعوام.
لكن خطورتها قلّت بعدما تحوّلت المنطقة إلى المسيحية في منتصف القرن السادس، ربما بعد حملات الإمبراطور جستذيان التبشيرية المكثفة في ليبيا الشرقية. كانت هذه القبائل تهاجم الشعب المسيحي وكنائسه المنتشرة ولم يكن لدى القوات البيزنطية في هذه الولاية الكفاءة أو الإمكانية لمقاومة هذه الهجمات، لهذا أوكلت مهمة الدفاع إلى الكنيسة. وقام المطران نفسه بما له من خبرة سابقة، بمساعدة الشمامسة بتنظيم وتدريب المتطوعين وتحويل المنازل والكنائس إلى شبه قلاع صغيرة، ومن أسطحها ومن أبراج الحصون كانوا يتبادلون إشارات ضوئية لإنذار الأماكن السكنية المهددة عند اقتراب الخطر (رسائل 79، 89، 139).
قوّى المطران أسوار العاصمة بتوليمايس، وأوقف عليها الحراس، وطلب نجدات سريعة من عاصمة الإمبراطورية (رسالة 78). جاء في رسائله: [لقد سُبيت عدة نساء وحتى الأطفال الصغار قتلوهم بدون رحمة، وامتلأ الهواء برائحة الجثث المتعفنة] (رسالة 108). [لقد نبشوا القبور واحرقوا كل كنائس أمبيلوس Ampelus بالقرب من طلميتة، ولم يراعوا حرمة المائدة المقدسة. وحملوا أدوات المذبح وكل أسلابهم مع الأسرى على خمسة آلاف جمل.] وباء الطاعون عانت المنطقة من تفشي وباء الطاعون، وقد اهتم المطران بمساندة الشماسات والأرامل لخدمة المرضى في المستشفى.
ذكرت الشماسة الليبية لونا أن المطران سينسيوس كان يردّد قوله: [ليس لدينا متسع من الوقت الآن للنحيب وللبكاء على الموتى، بينما الأحياء من حولنا أحق برحمتنا ودموعنا.] جاء في مذكرات الشماسة أيْريني (التي نقلها الراهب أندريّا الليبي) مقتطفات من عظة القديس سينسيوس في عيد الميلاد المجيد: [يليق بكل إنسان أن يقدم هدية لطفل المزود في يوم عيده. والهدية التي قدمناها جميعًا في عيد الميلاد هذا العام هي الألم… ربما تكون أيها الأب قد فقدت ابناً، وربما تكون أيها الأخ قد فقدت أختاً… وجئتم جميعاً هذا اليوم وقد حملتم على أيديكم المرّ… فشكراً لطفل المزود الذي سيقبل كل هذه الآلام التي تئنّون بحملها… إنه سيحملها عنّا، كما حملها قديماً (على الصليب).
وإن كنّا نفتقد أحبائنا اليوم في هذا العيد، فإنهم يعيدونه في السماء. وإن كنّا كبشر في هذا العالم لا نملك إلا المرّ لنقدمه، فهم يقدّمون الذهب لذاك (الملك السماوي) الذي يملك عليهم إلى الأبد.] ومن المتواتر أنه تنيح سنة 423م.
ولقد ظلت ذكراه تتردد بين الناس إلى حد أنه بعد قرنين من نياحته كانوا يصفونه بـ “الأسقف الفيلسوف الصالح”.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت