الولادة: 390
الوفاة: 459
شخصية عجيبة وغريبة
بقدر ما كانت هذه الشخصية الفريدة عجيبة في حياتها وفي سلوكها بقدر ما سمح الله أن يؤكد صحتها. فكما يقول المتنيح الشماس يوسف حبيب وأخوه مليكة في مقدمة كتابهما: [كان هذا القديس في حياته وفي سلوكه موضع إعجاب ليس كل سكان الإمبراطورية الرومانية فحسب، بل للبرابرة وغير المؤمنين أيضا. فكان موضع احترام جزيل عند الفرس والميديين والأثيوبيين، وكان الأباطرة الرومان يسعون في طلب صلواته، ويستشيرونه في الأمور الهامة. وقد كتب سيرته تلميذه الذي ظل معه حتى نهاية حياته (ثيؤدورت)… كتب أيضاً كل ما رآه بنفسه إذ كان معاصراً للقديس، واستشهد علي صحة روايته بأشخاص كثيرين من جميع الفئات، قال: “إن الموجودين تحت حكم الإمبراطورية الرومانية يعرفون سمعان الشهير الذي يمكن تسميته بحق أعجوبة العالم. ولكنني بالرغم من كثرة الشهود أخشى الكتابة عن جهاد هذا القديس لئلا يبدو مستغرباً في نظر الآتين بعدنا أنهم لا يصدقون. لأن الإنسان يقيس كل شيء حسب مجريات الأمور الطبيعية، ويحسب كل ما يتعدى الطبيعة خطأ. أما الذين يعرفون عظمة نعمة الله العجيبة فلا يرفضون تصديق ما أكتب”.]
نشأته
وُلد هذا القديس سنة 390م بقرية الصيص Sisan بالقرب من مدينة نيفربوليس علي حدود سوريا الشمالية من أب اسمه يوحنا وأم اسمها مرثا.
وقد حدثت بسببه أمور كثيرة عجيبة، منها أنه قَبل الحبل به جاء القديس يوحنا الصابغ إلى والدته في حلم وبشرها بمولده وأطلعها على ما سيكون منه، وكان والده راعي غنم. كان له اخوة كثيرون ماتوا جميعاً ماعدا أخ واحد يكبره يدعي سمسنSemson . في أحد الأيام لم يستطع سمعان أن يخرج ليرعي أغنام والده إلي المراعي بسبب كثرة الثلج، فمضي إلى الكنيسة ليحضر القداس الإلهي. كثيرا ما كان يحرم نفسه من الأطعمة ليقدمها لاخوته المحتاجين كما كان يجهد نفسه في الصلاة، فيذهب إلى الكنيسة باكراً ليبقي بها لمدة طويلة، حتى أنه أحياناً كان يقضي الليالي بأكملها راكعاً أو ساجداً ليصلي.
مات والده ثم عمته أيضا فورث مع أخيه كل ثروتهما. فأعطى الأراضي لأخيه ووزّع بقية الميراث على الفقراء والأديرة، فيما عدا بعض القطعان قدمها للدير فيما بعد الذي ترهب فيه. إذ كان عمره ثلاث عشرة سنة سمع العبارة الإنجيلية “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون”، فسأل شيخاً عن معناها. فشرح له الشيخ سعادة الزهد عن مباهج العلم من أجل التمتع بفرح المسيح، كما حدّثه عن شركة الآلام مع المصلوب من أجل التمتع بالسماء.
رهبنته
إذ سمع عن الانطلاق نحو البرية من أجل الله للحال ترك كل شيء وذهب إلي البرية وصام أسبوعاً كاملاً وهو يصلي بدموع.
ثم انطلق إلى الأب هليودوروس Heliodore رئيس دير في تلك النواحي يُدعى يوزيبونا، مكث تحت تدبيره عشر سنوات. وكان ابن عمه راهباً في نفس الدير لم يخرج منه مند خمس وثلاثين سنة منذ أن دخله، فأراد أن يحذو حذوه. كان يقدّم حصته في الطعام إلى الفقراء ويقضي حوالي ستة أيام كل أسبوع صائماً.
كانت نعمة الله الغنية واضحة في حياته حتى قدمه رئيس الدير للأسقف بعد ثلاثة أيام. ناقشه الأسقف وأعجب به فسامه راهباً، قيل أنه رأى ملاكاً أثناء الصلاة عليه يقف بجوار القديس سمعان أخبره بأنه سيكون إناءً مختاراً يضع فيه الله عطاياه الغنية.
استرداد بصره
بعد فقده إذ كان في أحد الأيام يصلي ظهر له الشيطان في سحابة قاتمة مفزعة وضربه على عينيه فأفقده بصره. حزن رئيس الدير عليه جداً وأراد أن يُحضر له طبيب لمعالجته، أما القديس سمعان فاستأذن رئيس الدير وذهب إلى القبور وصار يصلي لمدة أربعين يوماً. وإذ بنورٍ يشرق حوله ويسترد القديس بصره، ويعود إلى الدير ليمارس عبادته.
طرده من الدير
إذ ازداد في التقشف كان يربط جسمه بحبل حتى كان يجرحه. وكان يرفض العلاج، فطلب الرهبان طرده من الدير حتى لا يتشكك الضعفاء. خرج من الدير ودخل برية قريبة من هناك وسكن في بئر جافة. وكان يقضي أغلب نهاره مرتلاً ومسبحاً الله. رأى رئيس الدير أناساً لابسين ثياباً بيضاء يطلبون منه بعودة سمعان المطرود من الدير مهاناً.
أرسل الرئيس بعض الاخوة يبحثون عنه وبالكاد قبِل أن يرجع معهم، وكان قد قضي خمسة أيام هناك. أقام في الدير ثلاث سنوات، وكان يسلك بتقشف شديد، وإذ أكرمه الرهبان تألم جداً وطلب من الرئيس أن يترك الدير. وبالفعل انطلق إلى مكان خراب حيث عاش هناك ثلاث سنوات. صمّم أن يصوم كل سنة أربعين يوماً بدون طعام ولا شراب. وحين كتب ثيؤدورت سيرته كان سمعان في صومه الأربعيني هذا للمرة الثمانية وعشرين.
كان سمعان يستخف بكل الأمور كلما تطلع إلي السيد المسيح مصلوباً. كان يصعد إلى قمة الجبل ويبقي على الصخرة وعيناه تشخصان نحو السماء على الدوام وقلبه يتنهد عشقاً للسيد المسيح. وضع قيوداً من حديد في قدميه حتى لا يتحرك كثيراً. ولما زاره ملاتيوس أسقف إنطاكية سأله عن السب فأجاب أنه يريد أن يقيد نفسه. قال له الأسقف: “إن هذه القيود تخص الحيوانات لا الإنسان، وأن ما يربطنا ليس رباطات حديدية بل قيود الحب للمسيح”. فسمع كلام الأسقف وطلب من الحداد أن يقطع قيوده.
صانع العجائب
صنع آيات كثيرة وعجائب عظيمة، فجاءته جماهير من بلاد فارس وأثيوبيا وفرنسا وأسبانيا وإنجلترا وإيطاليا تطلب مشورته ونصائحه وشفاء أمراضهم، واستشاره ملوك وأساقفة من أوربا، وكان يجيب على أسئلتهم حسبما يرشده روح الرب. وكان كثيرون يضعون صورته في بيوتهم للبركة. وإذ كانت الجماهير تقبل يديه وثيابه ملتمسين بركته أراد التخلص من ذلك، فصعد على عمود علوّه ستة أذرع ثم زاده ستة أخرى، ثم زاده ثمانية أذرع وهكذا حتى صار طول العمود ثلاثين ذراعاً.
وكانت دائرة قمته حوالي ستة أشبار وحولها مسند، وقد شاهد المعلم ثيؤدورت ذلك عياناً. وقد جذب بذلك كثير من المؤمنين إلى التوبة، بل وكان له أثره العجيب على حياة الوثنيين، فقبلوا الإيمان بمخلص العالم. كان سرّ تعزية الكثيرين. يقول واضع سيرته الشاهد العيان بأن عدد الجماهير كان مدهشاً للغاية. كان الكل ينصت إلى عظاته، وقد تاب كثيرون جداً، وردّ كثيرين عن الوثنية إلى الإيمان بالسيد المسيح.
توبة لص
كان انتيوخوس أجوناتوس رئيس عصابة يعتمد على قوته البدنية، فكان الجند يخافونه. ازدادت جرائمه جداً، فتعقّبه مجموعة من الجند مسلحين. وإذ وجدوه في ملهى أشهر سيفه فارتعبوا. أما هو فهرب وذهب إلى القديس سمعان يقدم التوبة بدموع.
جاء الجند للقبض عليه ودهشوا لما حدث وسألوا القديس كيف يحمي إنساناً مجرماً كهذا. أما هو فأجابهم بأنه لم يحضره ليحميه، لكنه هو جاء لكي يرحمه الله، مقدماً له التوبة. انسحب الجنود، وطلب منه القديس ألا يعود إلى جرائمه. أما اللص فصار يصرخ طالباً مراحم ربنا يسوع، ثم رفع يديه نحو السماء وقال: “يا ربي يسوع المسيح ابن الله اقبل روحي”. وإذ صار يبكي لمدة ساعتين تأثر القديس جداً، وتسللت الدموع من عينيه، وأيضا الذين كانوا حاضرين. أمال اللص رأسه على العمود وأسلم الروح!
رجل صلاة
أراد تلميذه ثيؤدورت أن يحصي عدد المطانيات التي يصنعها سمعان العمودي أثناء صلواته. ففي أحد الأيام بدأ العدْ حتى بلغ 1240 مطانية فتوقف عن العد.
قيل أن شريفاً ما زاره يوماً ما، إذ تأمله صرخ قائلاً: ناشدتك بالذي تجسد من أجلنا أن تخبرني هل أنت إنسان حقاً أم خليقة أخرى تترآى كإنسان؟ فطلب القديس أن يحضروا سلماً وأن يصعد الشريف عليه حتى بلغ إليه وأذن له أن يلمس رجليه المجروحتين حتى يتأكد من شخصه.
أبوة فائقة
مع حزمه وقسوته مع نفسه كان رقيقاً وبشوشاً مع الجميع يحمل حباً نحو الجميع. كان يعظ مرتين كل يوم فكان يرفع القلوب إلى السماء بعظاته. وكان يعطي الفرصة للأسئلة ليجب عليها كما كان يصالح المتخاصمين. مع محبته كان لا يجامل إنساناً على حساب خلاص نفسه، فكان ينصح الملوك والعظماء كما يهتم بالقيادات الكنسية.
رسالة سماوية
إذ كان نائماً شعر بمن يربّت عليه ويدعوه باسمه، فاستيقظ للحال، ولما فتح عينيه رأى شخصاً ذا جمال سماوي متسربلاً بحلة بهية نورانية، ممسكاً بيده صولجاناً من ذهب. فتعجب وخاف وسقط علي الأرض. فطمأنه الملاك وقال له: “لا تخف ، بل اتبعني وأصغِ لقولي. إن الرب يريد أن يستخدمك لمجد اسمه ولبنيان كنيسته، ورد الكثيرين من الضلال والخطية… واعلم أيضاً أنه يلزمك أن تتألم كثيراً، وأن تعد قلبك في صبرٍ زائدٍ ومحبةٍ كاملةٍ لكل الناس مهما كانت صفاتهم. وفوق كل شيء عليك أن تطرد عنك كل فكر الكبرياء والمجد الباطل، وتضع نفسك في منزلة أقل من منزلة أي إنسان في العالم”.
انطلق به الملاك فوق الجبل وأمره أن يقيم مذبحاً بأربعة حجارة، ثم اقتاده نحو كنيسة حيث رأى جمعاً من كل الأجناس يرتدون ملابس سماوية وقد انطبع على وجوههم سمة التواضع والتقوى. وأخبره الملاك أن هؤلاء هم الذين يرجعون إلى الله بسبب قدوتهم به وخلال عظاته. دخل به الملاك إلى الكنيسة، فتقدم إلى أمام الهيكل ليصلي وإذا به يرى شخصاً أكثر بهاءً من الشمس. بعد أن حياه قال له السيد المسيح: “تشجع ولا تضعف أبداً”.
سند سماوي
في رؤيا أخري ظهر له إيليا النبي على مركبة نارية وأمره ألا يرهب عظماء العالم، لأن الله حافظه، فلن يستطيع أحد أن يؤذيه.
تواضعه
يشك بعض المتوحدين لمنهجه الغريب باعتزاله على عمود ووعظه المستمر للشعب مع صلواته الطويلة. فذهب اثنان منهم وقالا له جئنا إليك من قبل رؤساء المتوحدين المكرمين وهم يقولون لك أنهم متعجبون أنك حِدْت عن طريق الفضيلة، واتبعت منهجاً غريباً غير منهج القديسين. لهذا نأمرك أن تنزل حالاً عن عمودك.
في الحال طلب سمعان سلماً لينزل بروح التواضع. أما هما فقالا له: “لقد تحققنا من طاعتك وأن الله معك، وروحه يهديك في هذا الطريق الفريد، فاستمر حيث أنت ولا تنزل، لأنه هكذا أوصانا الذين أرسلونا إليك”.
ترفّقه براغبي قتله
تسلل ثلاثة لصوص مسلحين ليلاً داخل السور الذي بناه القديس لنفسه فوق الجبل لقتله إذ ظنوا أن لديه أموالاً كثيرة بسبب كثرة زائريه. وإذ صوبوا السهام ضده ارتدت عليهم فسقطوا فاقدي الحركة والنطق. وفي غروب اليوم التالي عبر بهم القديس وسألهم عن أشخاصهم فاعترفوا بقصدهم الشرير وما حلّ بهم. أما هو فصلى من أجلهم ونالوا الشفاء وأطلقهم بعد أن حذرهم: “احذروا أن تؤذوا إنساناً ما وإلا يصيبكم أشر مما حلّ بكم”.
صاحب سلطان
كان القديس يشعر بأنه صاحب سلطان بالمسيح يسوع مخلصه. ففي إحدى المرات وهو يصلي أظهر له الشيطان حية مفزعة التفت حول رجليه، أما هو فلم يرتبك بل أكمل صلواته وهو مملوء سلاماً، فانشقت الحية نصفين وماتت. مرة أخرى ظهر له الشيطان في شكل تنين ضخم أراد أن يفترسه، فرفع عينيه نحو السماء ثم قال للتنين: “ليضربك الله” واختفى التنين.
تقديس يوم الرب
كان القديس سمعان مهتماً بتقديس يوم الرب. وفي أحد الأيام جاءت جماهير تشكو له بأن نبع ماء قد جف مما عرَّض حقولهم للجفاف، وإذ لم يتجاسروا أن يعترفوا له بالسبب قال لهم: “إني أدرك أن في الأمر ذنباً تريدون إخفاءه عني. تكلموا بصراحة ولا تقدموا أعذاراً واهية. اعترفوا بأن مزارعاً صار يسقي الزرع يوم الأحد فجف الينبوع”. عندئذ أنّبهم على ذلك وحذّرهم من تكراره وأمرهم أن يضعوا صليباً على ثلاثة حجارة ويلقوها في عين الماء ثم يلقوا تراباً على شكل صليب على العين، ويصلون طول الليل. وفي الغد رأوا عمل الله العجيب إذ غمرت المياه حقولهم من العين.
نياحته
عاش قرابة سبعين عاماً وسمح الله للقديس سمعان أن يتألم كثيراً وان تسوء صحته البدنية ويشعر بحنوّ ساعته. أما نياحة القديس سمعان العمودي فكانت في سنة 459م.
إذ شعر بقرب انتقاله ازدادت صلواته وركع، وكان تلميذه يتطلع إليه وبقي راكعاً ثلاثة أيام وهو منتقل، ولم يدرِ تلميذه بانتقاله. سمع بطريرك إنطاكية بانتقاله فحضر ومعه ستة أساقفة وبعض قادة الجيش وستة آلاف جندياً باحتفال عظيم. وقد تمّت معجزات كثيرة أثناء الموكب.
ملاحظة
يوجد ثلاثة أشخاص باسم “سمعان العمودي”. الأول المذكور هنا ويدعي سمعان العمودي الكبير. والثاني سمعان العمودي الصغير في أواخر الجيل الخامس، ذكره الأب يوحنا الدمشقي في عظته الثالثة على الأيقونات. أما الثالث فعاش في بلاد كيليكيا مات بصاعقة انقضت عليه.
وقد ذكره صفرونيوس في الفصل السابع والخمسين من كتاب “المروج الروحية”. الأب بطرس فرماج اليسوعي: مروج الأخبار في تراجم الأبرار، 1877، 5 كانون الثاني.
من كلماته
وضع هذا الأب مصنّفات وأقوال وعظية ونسكية نافعة وشرح من الكتب الكنسية فصولاً كثيرة. من يتكلم فلينطق بكلام الرب بتواضع قلب، بأعماله قبل كلماته.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت