ما دام لكم النور آمنو بالنور لتصيروا أبناء النور (يو 36:12)
يتفاوت المؤمنون باللّه بدرجات الوعي الإيمانيّ، وكما يقول الكتاب المقدّس: فهنالك أقوياء في الإيمان وهناك ضعفاء في الإيمان وهنالك مؤمنون بدرجات مختلفة، والوصيّة هي للمؤمنين الأقوياء أن يعملوا على احتمال وتقوية إيمان الضعفاء لما فيه الخير والبنيان (رو 2،1:15).
وفي التصنيف الإيمانيّ هذا هنالك نوع آخر من إخوتنا البشر، وهم غير المؤمنين، البعيدون عن الربّ أو متجاهلي الربّ أو التائهين في دروب الحياة المختلفة، وكمؤمنين مسيحين، فمن واجبنا أن نحبّ هؤلاء أيضاً بنفس الدرجة من المحبّة لإخوتنا المؤمنين، ونعمل بكلّ حرص على توضيح إيماننا لهم، وكلّنا رجاء باللّه أن يهتدّوا هم أيضاً إلى الإيمان باللّه، والخلاص بفادينا يسوع المسيح الّذي يريد أنّ الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحقّ يقبلون (1تيمو 4:2).. إذ ليس بأحد غيره الخلاص، وليس هناك اسم آخر تحت السماء، قد أعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص (أع 12:4). وهذا الكلام موجّه لجميع الناس، هو لغير المؤمن لكي يؤمن، وهو أيضاً يساعد الضعيف في الإيمان كي يقوّي إيمانه.
يطرح معظم البشر، وبطرق مختلفة أسئلة متنوّعة عن اللّه قائلين: من هو اللّه؟ وما هو شكل اللّه؟ ما هو حجم اللّه؟ وما هي حدود اللّه؟ ماذا يأكل؟ وماذا يشرب اللّه؟ نريد أن نرى اللّه، نريد أن نتكلّم معه، نريد أن نعرف أين هو وكيف يعيش؟ وماذا يفعل الآن؟! وهنالك أسئلة عديدة أخرى يسألها البشر، وتحتاج إلى أجوبة مقنعة ومقبولة.
وهنا، وقبل أن نبدأ بالكلام عن اللّه، لأبد أن نقول إنّ جميع البشر وحتّى الأقوياء منهم بالإيمان، فإنّهم بداخلهم وبقلوبهم، ومن دون أن يعلنوا ذلك للعالم يسألون أنفسهم أسئلة قد تكون صعبة، أو ليس لها جواب لدى البشر، أو هي فوق مستوى قدرات البشر وإدراكهم، وفي النهاية فالإيمان هو مفتاح الجواب لجميع تلك الأسئلة، الإيمان الّذي هو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا تُرى (عبّ 1:11)، وبه نفهم أنّ العالمين أتقنت بكلمة اللّه (عب 3:11)، وبالإيمان صدّق الآباء الأوّلون المواعيد، وانتقلوا من هذا العالم على رجاء الوطن السماويّ الّذي أعدّه اللّه لهم (عبّ 16،13:11).
وأمّا المواعظ والكتابات والتفاسير الإنجليّة، فهي تساعدنا على فهم الحقيقة، وإدراك محدوديّة قدراتنا العقليّة تجاه المعطيات الإلهيّة، أي تساعدنا على تقوية إيماننا باللّه.
وهنا أوّلاً علينا أن نقول إنّ إيماننا وعقيدتنا ومعلوماتنا عن اللّه حصلنا عليها من مصدر واحد هو الوحي الإلهيّ بالروح القدس (2بط12:1)، وتعلّمناها بواسطة وسائل عديدة، منها وسائل ملموسة وأخرى مرئيّة وأخرى مسموعة وأخرى مكتوبة؛ ولهذا السبب صدقنا بها وآمناً بها، فلو كان اللّه غير حيّ وغير موجود لما سمعنا منه وعنه، ورأينا قدراته من خلال الكون العجيب والمعجزات الّتي صنعها أمامنا، فغيّر الموجود والجماد لا يستطيع أن يوصل لنا أيّ شيء، ولا أن يجري معنا أيّ نوع من الاتصالات، لكنّ اللّه حيّ، ويعيش في الكون وعمل الكثير من أجل أن نعرفه ونؤمن به، بدلالات وظهورات متنوّعة وصادقة، وأعظمها كان ظهوره بالجسد بيننا بشخص يسوع المسيح فادينا، وباختصار نحن بشر ضعفاء في المقدرة وعقلنا البشريّ لا يستوعب قدرات اللّه، لهذا يضعف إيماننا أحياناً، ونبقى بحاجة إلى رحمته ومحبّته تعالى.
من هو اللّه؟
بعض العلماء يؤمنون أنّ قوّة ما في هذا الكون هي الّتي صنعت الكون وما فيه، وآخرون يقولون إنّ الطبيعة الكونيّة هي الّتي صنعت الكون وما فيه، وآخرون يشرحون بنظريّاتهم العمليّة أساليب وطرقاً ومقترحات متنوّعة لصنع الكون وما فيه، ونحن ندرس جميع هذه النظريّات والمعتقدات والطرق والقوى والأشياء والطبيعة نفرح؛ لأنّها جميعها تُجزم أنّ الكون لم يأت من العدم، وإنّما قد صُنع بواسطة قوّة أو طبيعة أو شيء لا نعرفه، أو إنّ وصفه غريب. ممّا قد يخطر على بال أيّ إنسان، ولجميع هؤلاء نقول:
نحن موافقون على وصفكم، وقد آمنا أنّ هذا الكيان الّذي تسبّب في خلق الكون وما فيه هو الخالق العظيم (اللّه)، أمّا أنتم فسمّوه ما تشاؤون، وبالنسبة إلينا نحن نحترم آراءكم؛ لأنّكم جاهدتم وتوصّلتم إلى هذا الاكتشاف بقدرات عقليّة بشريّة، وأمّا نحن فندعو إكتشافكم هذا (اللّه)، إنّه اللّه ربّنا وإلهنا الّذي نعبده، الواحد الأحد.
اللّه هو خالق وصانع السماوات والأرض
إذن اللّه هو خالق وصانع السماوات والأرض، وكيف صنعها؟ لا نعرف، فيا لعمق غنى اللّه وحكمته وعلمه، وما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء (رو 33:11)، وهذا هو أحد أسرار اللّه الّتي لم يذكرها لنا، ولم يسمح الوحي الإلهيّ لنا أن نتوصّل إليها ونعرفها، لأنّنا نعلم بعض العلم، ونتنبّأ بعض التنبّؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض (1 كو 10،9:13)، وسيتمّ ذلك كما نؤمن في القيامة العامّة عند مجيء الربّ يسوع ليدين العالم، ومعه ندخل إلى العرس السماويّ لنرث الملكوت (مت 34:25)، هناك سوف نعرف كلّ شيء.
ومن البعض الّذي سمح اللّه لنا بمعرفته: أنّ اللّه هو روح (يو 24:4)، وليس جسماً أرضيّاً ترابيّاً مثلنا، فنحن لدينا جسم محدود الأبعاد والوزن، أمّا اللّه فهو روح لا حدود لها، اللّه ليس هو هواء؛ لأنّ الهواء محدود والعلماء يعرفون أنّ الهواء ينتهي وغير موجود بعد ارتفاع ستّين ميلاً من سطح الأرض، أمّا اللّه فهو روح وله صفات تفوق كلّ شيء، ويستطيع أن يكون في كلّ مكان وزمان، ومن ناحية أخرى لا نستطيع مقارنة اللّه بالبشر فيزيائيّاً، فنحن نتنفّس الهواء، ويجب أن نأكل طعاماً، ونشرب ماء لكي نعيش، أمّا اللّه فهو روح يفوق المعطيات الفيزيائيّة الّتي نعرفها، لأنّه لا يحتاج إلى أكلنا وشربنا، ويستطيع أن يكون داخل وخارج الغلاف الجوّيّ الهوائيّ، ويستطيع اختراق المادّة، وأن يملأ الكرة الأرضيّة بروحه، ولهذا السبب هو موجود في كلّ مكان في آن واحد، وفي عالمنا هو موجود في كلّ بقاع الأرض في أيّ وقت، وموجود في قلوب المؤمنين به، فهم هياكل اللّه كما يقول كتابنا المقدّس (1 كو 16:3)، ولهذا السبب لا نستطيع عمل مقارنة بين اللّه والإنسان، فالإنسان هو لا شيء أمام اللّه، لأنّ اللّه خلقه (تك 27:1).
حدود معرفتنا بالعلم
عندما نتحدّث عن اللّه، فإنّنا نتحدّث عن شيء لا نستطيع استيعابه بالكامل، بل نعرف عنه ما أعطي لنا أن نعرفه فقط، وهو بعض الشيء كما أشرنا أعلاه. واللّه قويّ وقادر على كلّ شيء (تك 1:17 مزّ 13،8:89)، إنّ قدرة وقوّة اللّه بالنسبة إلينا شيء يفوق عقلنا البشريّ، فهو متسلّط بقوّته إلى الدهر (مز 7:66)، وهو متعال بقدراته (أي 22:36)، وعندما سمح لنا اللّه أن نتقدّم بالعلم، ونكتشف الكهرباء والطيران والحاسوب والعلوم الطبّيّة وغيرها، تعجّبنا جدّاً، وعلّمنا أنّ قوانين هذا الكون قد وُضعت منذ زمان بعيد، ونحن بدأنا الآن بمعرفة بعض الشيء منها، ومهما توصّلنا إلى إنجازات علميّة جبّارة بمفهومنا البشريّ، تبقّى بسيطة جدّاً أمام أن يُقال للمشلول: قم احمل سريرك، وامش (مرّ 9:2)، وأمام أن يقال للمائت المدفون في القبر منذ أربعة أيّام: لعازر هلمّ خارجاً، فيحيا ويخرج من القبر (يو 44،43:11)، وأمام الكثير الكثير من أعاجيب فادينا المسيح ابن اللّه الحيّ، كما أنّ حدود معرفتنا بالعلم هو الأرض وبعض الكواكب المحيطة بنا فقط، ولكنّ الكون الشاسع وما فيه سيبقى لغزاً صعباً علينا، لا نستطيع إدراك تكوينه أو السيطرة عليه؛ لأنّ ذلك هو من أسرار اللّه الّتي سيكشفها لنا في الحياة الثانية، حيث ما لم تر عين وما لم تسمع به أذن، هو ما قد أعدّه اللّه لخائفيه في الحياة الثانية (1 كو 9:2)، واللّه حيّ (عد 28:14)، خلق السموات والأرض (تك 1:1)، وكلّ ما فيها. وكلّم البشر منذ القدم ابتداء بآدم الإنسان الأوّل (تك 16:2)، ثمّ الآخرين كنوح (تك 13:6)، وأبرام (تك 1:12)، ويعقوب (تك 1:35)، وموسى النبيّ (خرّ 4:3)، وغيرهم.
رسالة السماء
عندما نقول مثلاً إنّ اللّه تكلّم مع موسى النبيّ، قد يتبادر إلى أذهاننا أنّ اللّه هو بحجم موسى النبيّ، وله حنجرة من جسم مثلنا يتكلّم بواسطتها!! طبعاً هذا شيء خطأ وغير صحيح، لأنّ اللّه بقدرته الخارقة لعقولنا، أي بمعجزاته يستطيع أن يُسمعنا صوتاً مثل أصواتنا، لكي نفهم وندرك ما يريده منّا وما يقوله لنا، ولكي نصدّقه، ولأنّنا لا نملك طريقة أخرى نسمع بها سوى الأذن البشريّة، أي حاسّة السمع الخاصّة بالجسد البشريّ، لهذا السبب فإنّ اللّه يتنازل إلى مستوانا البشريّ لكي يتّصل بنا، ويعلّمنا ما يريده منّا، ويرشدنا إلى السير في الطريق الّذي رسمه لنا، وهكذا أرنا اللّه ابنه الحبيب يسوع المسيح، حين أرسله ليولد كإنسان مثلنا، لكن خال من الخطيئة، فيتكلّم معنا ويحدّثنا عن ملكوت السماوات، ويعلّمنا رسالة السماء البشريّة، فهو عمل الأعاجيب والمعجزات الخارقة أمام البشر، لكي يعلموا قوّة اللّه وقدرته، وأخيراً أرسل روحه القدّوس، لكي يعيش في الكون وهو مسيطر عليه، لأنّنا سمعناه ورأيناه بالمسيح يسوع خلال الفترة الّتي عاشها على الأرض، والأحداث والأعاجيب الّتي رافقت ذلك حتّى موته على الصليب وقيامته وصعوده إلى السماء وإرسال روحه القدّوس إلى المؤمنين به، وسيبقى يعيش معنا ما دام هناك مؤمنون على هذه الأرض وحتّى انقضاء الدهر كما وعدنا (مت 20:28).
خاتمة
إنّ ما عمله اللّه معنا على مرّ العصور هو كثير جدّاً وعظيم جدّاً، وهو سجلّ عظيم لأحداث ومعجزات كتبت كي نؤمن أن يسوع هو المسيح ابن اللّه، ولكي تكون لمن يؤمن الحياة باسمه (يو 31،30:20)، إضافة إلى أنّ شهادة إخواتنا المعاصرين الّذين نالوا من أعاجيب اللّه وهم مازالوا على قيد الحياة، والمحبّة الّتي يرعانا بها -سبحانه- يوميّاً، والّتي لا نشعر بها؛ لأنّنا نطمع بالأكثر دائماً، ومن مفهوم بشريّ غير روحانيّ، كلّ هذه الأمور مع أمور أخرى خاصّة قد تعرفونها من حياتكم الخاصّة، تدفع كلّ إنسان عاقل إلى معرفة اللّه ومخافة اللّه والإيمان باللّه، ومن لا تكفيه هذه الأمور كلّها للاعتراف باللّه، فإنّه ليس من أبناء اللّه، بل ويعيش في ضلال، وأخيراً: نطلب من الربّ الإله أن يسامحنا على قساوة قلوبنا وضعف إيماننا، ونسأله البركة لجميعنا وفتح أذهاننا لكي نفهم الكتب (يو 39:5)، إنّه سميع الدعاء، آمين.