الولادة: 480 م.
الوفاة: 543 م.
ولد القديس بنديكتوس عام 480 م في نورسيا الإيطالية لعائلة مرموقة، اسم أبيه أفتروبيوس. درس باحدى مدارس روما. نشأ على التقوى، فى سن الشباب المبكر قرر اعتزال العالم لأنه لم يشأ ان يكون عرضة لغوايته. ترك المدينة سراً واتجه ناحية البراري. مربيته كيرللا تبعته إلى روما لكنه عرف كيف يصرفها وتابع رحلته إلى ان جاء إلى برية جبال سوبلاكم، على بعد أربعين ميلاً من المدينة. ذلك المكان كان عبارة عن سلسلة صخرية قاحلة قاسية تطل على نهر في الوادي وبحيرة. هناك التقى بنديكتوس راهباً اسمه رومانوس من دير في الجوار. هذا ألبسه ثوب الرهبنة وزوّده بإرشادات نافعة وقاده إلى كهف ضيق في عمق الجبال، كاد أن يكون مُتَعذراً على الناس ان يصلوا إليه. وإذ حفظ رومانوس أمر بنديكتوس سراً، صار يأتيه، من وقت لآخر، ببعض الطعام فيدلّيه بحبل علق فيه جرساً. سلك ينديكتوس، حسب ارشادات الراهب رومانو، ثلاث سنوات قيل بعدها ان الله سُرّ ان يكشف أمره لآخرين ليكون لهم نوراً وهداية.
خلال العام 497 م، فيما كان أحد الكهنة في تلك الأنحاء يعدّ لنفسه طعاماً، ليوم أحدَ القيامة المجيدة، سمع صوتاً يقول له: “أنت تعدّ لنفسك مأدبة وخادمي بنديكتوس، في سوبلاكم يضنيه الجوع”. للحال خرج الكاهن يبحث عن الناسك ولم يعثر عليه إلا جهد كبير . بعد ذلك بقليل التقى القديس، قرب المغارة، بعض الرعاة. أول رد فعل لديهم كان الدهشة فظنوه حيوانا غريبا لأنه كان يلبس جلد الحيوان. فلما عرفوه اقتدوا به . مذ ذاك ذاع صيته وأخذ قوم يزورونه ويمدّونه ببعض ما يحتاج إليه، وكان هو، بدوره، يزودهم بنصائحه وتوجيهاته.
من جهة أخرى كان صراع بنديكتوس والشياطين شرساً. ووطأة التجارب عليه، أحياناً، كانت قاسية عنيفة. من ذلك ان الشيطان أعاد إلى ذاكرة القديس صورة امرأة سبق ان التقاها في رومية. وقد أخذت الذكرى تراوده حتى أخذ يفكر في مغادرة البرية. لا شيء أتاح له ان يقوى على التجربة. التصقت التجربة بروحه وأبت ان تغادره. أخيراً، بعد نفاذ صبره، ألقى بنفسه، عريانا، بين الأشواك، وأخذ يتمرغ عليها حتى تجرّح كله وسالت منه الدماء. نتيجة ذلك، وفي خضم الآلام والجراح، انطفأ فيه، بنعمة الله، روح الزنى، فذهبت التجربة، ولم تعد..
انتشر خير بنديكتوس وأخذ الزهّاد يشقون طريقهم أليه. رهبان فيكوفارا، إثر وفاة رئيسهم، أرسلوا يسألونه ان كان يرضى ان يكون راعياً لهم فرضي ولكن على مضض. كان يحدوه شعور إنّه، في وسطهم، في غير موقعه. وبالفعل اجترأ عليه قوم ودسّوا له سُماً ممزوجاً بخمرة، فلما رسم علامة الصليّب على الكأس تكسّر. فوعظهم وعاد، من حيث أتى، إلى سوبلاكم حيث أخذ طلاب الرهبنة يُقبلون إليه فبنى الدير تلو الدير حتى بلغ مجموع ما أنشأه من الاديرة، اثني عشر، استقر في كل منها رئيس واثنا عشر راهباً.
بعض أخبار هذه الأديرة حفظته الذاكرة وتداولته الألسن جيلاً بعد جيل. ففي دير القديس إيرونيموس كان أحد الرهبان يهمل الصلاة القلبية التي يبدو انها كانت تتلى، في الكنيسة، الخدمة الليتورجية، فيخرج ويذهب إلى عمله. وعبثاً حاول رهبان الدير إبعاد أخيهم عن هذه الشائنة فلم يستجيب. فنقلوا خبره إلى القديس بنديكتوس الذي دخل إلى الكنيسة في نهاية الخدمة مرة فرأى ولداً أسود صغيراً يسوق الراهب بكمّه خارجاً. فصلّى من أجله. ثم في اليوم الثالث رآه يهمّ بالخروج كعادته فضربه بعصى فهرب إبليس وعاد الراهب إلى نفسه. وفي دير آخر هو دير القديس يوحنا، كانت الحاجة إلى المياه ماسة ولم يجد الرهبان إلى تأمين حاجتهم سبيلاً، فصلى القديس فخرجت المياه من الأرض. وفي دير القديس اكليمنضوس، على ضفة البحيرة، فيما كان راهب يقطع الأشواك سقط حديد منجله في البحيرة فصلى الرهبان وبشفاعة أبيهم جاؤوا بعود المنجل وجعلوه في الماء فاجتذب الحديد فسبحوا الله وشكروه.
هذا وقد بلغ صيت بنديكتوس أسماع العديدين من مشاهير القوم في رومية وسواها فأخذوا يتدفقون عليه ليسألوه النصح والصلاة ويلتمسوا بركة الرب الإله على يديه. وقد ذُكر ان بعض هؤلاء كانوا يتركون أولادهم لديه ليتسنى لهم ان ينشأوا على السيرة الفاضلة منذ نعومة أظفارهم. من هؤلاء الشيخان أفتيخيوس وترتللوس اللذان كانا من مشاهير الفرس. هذان تركا ولديهما موروس وبلاسيدوس، سنة 522، وكلاهما صار للقديس تلميذاً مبرّزاً.
وإذ عاين ابليس ما أخذ القديس يصيبه من نجاح سلّط عليه واحداً من الحسّاد من ضعفاء النفوس، فلورنتيوس، الذي كان كاهناً في الجوار. هذا أشاع عن القديس أخباراً مغرضة بقصد تشويه سمعته وإلحاق الأذى به وبعمله المبارك. ويبدو انه كان نافذاً وكثير الشرور حتى اضطر القديس إلى مغادرة مقرّه في سوبلاكم إلى قمة كاسينو. ولكن، في طريقه إلى هناك، بلغه خبر فلورنتيوس انه لقى مصرعه بعدما سقط عليه الحائط باحد الرواق. فحزن القديس لما جرى فيما عبّر تلميذه موروس عن ارتياحه للخلاص من اضطهاد الكاهن لمعلمه ورهبانه. فما كان من بنديكتوس سوى ان أنزل بالتلميذ عقاباً صعباً.
كانت كاسينو، التي هي في نابولي، بلدة صغيرة مبنية على هضبة عالية. وكان يعلوها معبد قديم لأبّولو تحيط به الأشجار الباسقة. إلى هناك كان لا يزال يأتي بعض الوثنيين ويقدمون الذبائح. فلما اخذ القديس علماً بذلك عمل بالكلمة والآيات على هداية العديدين إلى الإيمان بيسوع، ثم قام على الصنم فحطّمه تحطيماً وقلب المذبح ودكّ الهيكل وقطع الأشجار وأقام في المكان كنيستين. من ذلك الوقت أخذ ينشأ دير هضبة كاسينو ابتاء من السنة 529م. يومها كان بنديكتوس قد بلغ الثامنة والأربعين. أسس قديسنا ديراً للراهبات قريباً من المكان وآخر للرهبان في تيراسينا. كما أوفد تلميذه القديس بلاسيدس لتأسيس دير في جزيرة صقليا.
القديس بنديكتوس كان يجهل علوم الدنيا لكنه امتلأ من العلم الإلهي. القديس غريغوريوس الثيولوغوس (الناطق بالآلهيات ) يقول عنه انه كان “جاهلا على علم وحكيما على أمّية”. قالوا انه صار شماساً وربما كاهناً، لكن الأمر ليس مؤكداً. الصورة التي رسمها له القديس غريغوريوس الثيولوغوس تبيّن انه كان يعظ في بعض الأمكنة وانه كان على محبة فائقة، يمدّ يده إلى المحتاجين بكل ما أُوتي.
كذلك اجتمع لديه من الإشراقات الإلهية والخبرة في قيادة النفوس ومداواتها مما ساعده فى وضع قانون رهباني فضّله القديس غريغوريوس الثيولوغوس على كل القوانين التي عرفها. وقد شاع هذا القانون حتى شمل الرهبان في الغرب قاطبة. أسُسه كانت الصمت والخلوة والصلاة والاتضاع والطاعة.
في سنة 528 وضع القديس بنديكتوس حجر الأساس لدير مون كاسان، مهد الرهبانية البندكتية (التي قدمت، على الأقل، أربعة وعشرين بابا).
كان بنديكتوس في عيون تلاميذه نموذجاً كاملاً للرهبانية يُحتذى. وقد زوّده الرب الإله بمواهب كثيرة بينها صنع العجائب والتنبؤ، فكان يشدّد الرهبان ويطرد عنهم الشياطين بعلامة الصليب. مرة، فيما تعذّر على الذين كانوا يبنون أحد أديرته ان يرفعوا صخرة من مكانها لثقلها، صلّى صلاة قصيرة فأضحت الصخرة على خفة مدهشة. ومرة أقام أحد رهبانه من الموت بعدما سقط عليه حائط في هضبة كاسينو. كذلك أنبأ بدموع كثيرة ان دير كاسينو سوف يُدنَّس ويُهدم. وهذا حدث فعلياً على يد اللبارديين، بعد ذلك بأربعين سنة، حوالي العام 580م. كذلك ذكر بنديكتوس انه بالكاد تمكن، في الصلاة، من طلب العفو عن الناس في تلك الأنحاء.
من جهة أخرى كان محظوراً، وفق قانون بنديكتوس، ان يأكل الراهب خارج ديره إلا إذا كان على مسافة لا تسمح له بالعودة إلى ديره في نفس اليوم الذي خرج لقضاء حاجته. هذه القاعدة، كما ذكر غريغوريوس الثيولوغوس، كانت مرعية بالكامل. لا شيء، في اعتبار قديسنا، كان أخطر على الراهب، في تعاطي أمور العالم، من تناول الطعام والشراب في أوساط عالمية. وكان بنديكتوس يعرف بالروح زلآّت رهبانه وأفكارهم وينبّههم ليتقوّوا. مرة جاءه راهب بقارورتي نبيذ فخبّأ واحدة وأخذ الثانية إلى القديس قائلاً انها هدية من فلان، فلفته بنديكتوس :إلى ضرورة ان لا يشرب من الأخرى. فلما عاد الراهب إلى قلايته وفتح القارورة وجد فيها حيّة. ومرة أخرى كان أحد الرهبان في نوبة الخدمة وكان يخدم القديس وهو يأكل. فخطر ببال الراهب فكر قال هل: ان مقامك أرفع من مقام بنديكتوس فكيف تقوم بخدمته. الرجل، فيما يبدو، كان من علّية القوم. للحال تطلّع إليه القديس وأمره ان يرسم على نفسه إشارة الصليب وصرفه.
ولما استُدعي باليساريوس، القائد العسكري، إلى القسطنطينية، غزا توتيلا، ملك الغوط، إيطاليا ونهبها. وإذ سمع بقداسة بنديكتوس والآيات التي تجري على يديه أراد ان يجرّبه، فأعلن انه مزمع ان يزور القديس. ولكن بدل ان يذهب إليه شخصياً ألبس ثوبه أحد المقربين منه وجعله يدّعي انه هو الملك. فلما جاء الرجل المدّعي للحال بادره رجل الله بقوله: اخلع عنك يا بني هذه الثياب لأنها ليست لك!
أخيراً جاء إليه توتيلا وألقى بنفسه عند قدميه ولم يقم من مكانه إلا بعدما أصرّ عليه القديس. وقد ورد ان بنديكتوس وبّخ الملك بكل جسارة على الفظائع التي يرتكبها قائلا: انك تفعل شراً عظيماً وستفعل المزيد. سوف تحتل رومية وتعبر البحر وتحكم تسع سنوات وفي السنة العاشرة تموت وتمثل أمام الله لتؤدي حساباً عما فعلت. كل هذا الذي أخبر به بنديكتوس تمّ بحذافيره كما تنبأ. فاستبدت الرعدة بتوتيلا وطلب صلاة القديس. وقد ورد ان الملك صار، مذ ذاك، أكثر إنسانية من ذي قبل. ولما أخذ نابولي، عامل الأسرى باللين. أما عن رومية فتكهّن أسقف كانوسا أمام القديس ان توتيلا سوف يتركها كومة حجارة ولن تكون آهلة بعد، فأجابه القديس: كلا، بل ستضربها العواصف والزلازل وتكون كشجرات يبست من فساد جذورها. هذه النبوءة التي تفوّه بها القديس هي إياها ما شهد بها القديس غريغوريوس الثيولوغوس .
هذا ويبدو ان بنديكتوس رقد بعد أخته سكولاستيكا في السنة التي تلت لقاءه بتوتيلا. وقد أخبر تلاميذه بيوم رقاده سلفاً وجعلهم يفتحون قبره قبل وفاته بستة أيام. فلما فعلوا أصابته حمّى. وفي اليوم السادس حملوه إلى الكنيسة حيث شارك فى القدسات. وبعدما زوّد رهبانه بتوجيهاته اتكأ على أحدهم ورفع يديه وأسلم الروح. كان اليوم سبتا والتاريخ الحادي والعشرين من شهر آذار(مارس) ، أغلب الظن عام 543م. كان قد بلغ من العمر الثالثة والستين. أكثر رفاته ما يزال موجودا في دير كاسينو. وبعض عظامه نُقل إلى دير فوري في فرنسا. المستشفعون به يطلبون حمايته من مضار الحشرات وسمومها. لما رقد شاهد أحد الرهبان الحاضرين رؤيا وشاهدها القديس موروس أيضا وكان، إذ ذاك، في فرنسا رأى طريقاً واسعة يكسو أرضها السجاد الفاخر وعلى جوانبها شموع مضاءة لا عدّ لها. وإذا شيخ وقور يقول: هذه هي الطريق التي سلكها بنديكتوس، حبيب الله، فأوصلته إلى السماء.
من تعاليمه ان للتواضع اثنتي عشرة درجة هي العالية.
إنكسار القلب وخوف الله والسلوك في حضرته،التخلي عن الإرادة الذاتية والطاعة، الصبر على الأتعاب والجراح،الرضى والفرح وقبول الأعمال الحقيرة والثياب الفقيرة واعتبار أنفسنا غير مستأهلين للكرامة والنظر إلى أنفسنا كعبيد بطّالين. اعتبار أنفسنا دون الآخرين وأقل قيمة من الآخرين وحتى أعظم الخطأة، اجتناب التفرّد في الكلام والعمل، أن نحب الصمت ونطبقه، ان نجتنب المسرّات المنحلّة، ان نمتنع عن الكلام بصوت عال ونلزم الاحتشام، ان نسلك في الاتضاع في كل عمل وان تكون أعيننا إلى الارض كالعشار التائب.
وقد أضاف القديس بنديكتوس ان المحبة الإلهية هي المكافأة التي تحصل من التواضع الصادق. وقد جعل بساطة القلب والتخلي عن المشيئة الذاتية قبل الطاعة.
وكان قداسة البابا بنيدكتوس السادس عشر قد قال في سياق كلمته عن القديس بنديكتوس (مبارك) شفيع اوروبا الذي أخذ اسمه و”الذي يحظى بتكريم كبير في المانيا وخاصة في بافاريا مسقط رأسه”. ورأى البابا في هذا القديس “مرجعاً اساسياً في وحدة اوروبا وتذكيراً بجذورها المسيحية وثقافتها وحضارتها، التي لا يمكن التخلي عنها. وكان البابا المتنيح يوحنا بولس الثاني قد انتقد شخصياً غياب الاشارة الى الجذور المسيحية واكد انه “لا يمكن قطع جذور” القارة الاوروبية. وكان البابا بنيدكتوس السادس عشر قد قال انه اختار” اسم بنديكتوس السادس عشر” تيمنا بالبابا بنديكتوس الخامس عشر، مشدداً على دور هذا الاخير في السعي من اجل السلام في القارة الاوروبية.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت