الولادة: 1843م.
الوفاة: 1927م.
بتاريخ الثالث من يوليو 2009، صدّق قداسة البابا بنديكتس السادس عشر على إعلان الأم ماري ألفونسين دانيل غطاس مؤسسة رهبانية الوردية المقدسة، طوباوية. وحدد احتفال التطويب يوم الأحد الموافق الثاني والعشرين من نوفمبر 2009 في بازيليك سيدة البشارة في الناصرة بالقدس. فى قداس ترأسه بطريرك اللاتين بالقدس ومشاركة مطران القدس نيافة الأنبا فؤاد طوال والقاصد الرسولى وبمشاركة لفيف من الآباء الكهنة والرهبان والراهبات وكل الرئيسات السابقات لرهبنة الوردية وعدد كبير من أفراد الشعب الكاثوليكي الذين أتوا من لبنان وفلسطين والاردن لحضور هذه الاحتفالية للطوباوية العربية ابنة القدس.
حياة هذه الطوباوية العربية ابنة القدس:
اسمها (قبل الرهبنة) سلطانة. ولدت سلطانة في القدس في الرابع من اكتوبر سنة 1843 يوم عيد القديس فرنسيس الاسيزي، من أسرة مقدسة تميّزت بالتقوى والحياة المسيحية الملتزمة وحب الفضيلة والخير. والدها دانيل غطاس، يعمل في القدس نجاراً، ووالدتها كاترينا ربة بيت تقيّة فاضلة. ولها ثلاث أخوات وخمسة إخوة. البنات الثلاث اعتنقن الحياة الرهبانية وأخوها أنطون صار كاهناً للرب، أسرة مسيحية فاضلة. تصلي المسبحة يومياً وأحيانا مع بعض الجيران أمام تمثال العذراء ومن حوله توقد الشموع ويحرق البخور. وكلهم مواظبون على حضور القداس يومياً.
قبلت سلطانة سر العماد بعد ولادتها ببضعة أيام. ثم وُسمت بسر الميرون المقدس من يد غبطة البطريرك يوسف فاليركا في 18 تموز سنة 1852، ومنذ ذاك الحين غرس الروح القدس في قلبها الميل إلى اعتناق الحياة الرهبانية. وعند اطلاع والدها فيما بعد على عزمها هذا قاومها لكنه رضخ أخيراً لرغبتها إذ لمس بها ثباتا أكيداً وتحقق إرادة الله. فإذن لها أن تنضم إلى رهبانية القديس يوسف واشترط على الرهبانية أن لا تبعدها إلى أوروبا، فاستجيب إلى طلبه بوثيقة خطية. فدخلت سلطانة الدير سنة 1858، ولم تتجاوز الرابعة عشرة من العمر، وحظيت هذه الابنة المباركة من الرب بنعمة فريدة وهي أنها اتشحت بالثوب الرهباني وأبرزت نذورها على الجلجلة ودعيت في الرهبانية باسم الأخت ماري الفونسين. وعلى مثال شفيعها القديس الفونس دي ليغوري تحملت صعوبات شتى وبعد إبرازها النذور تعينت معلمة في مدرسة القدس الرعوية فقامت بأعباء وظيفتها بهمة ونشاط، ونشرت بين تلميذاتها تكريم سيدتنا مريم العذراء. وهكذا تمكنت من تأسيس أخوية الحبل بلا دنس للبنات، ومن هذه الأخوية خرجت الزهرات الخمس اللواتي كنّ أساس بناء الوردية الأورشليمية. وبعد بضعة سنين أرسلت إلى بيت لحم حيث أسعدها الحظ أن تكون قريبة من مهد المخلص. وهنا شرعت بتأسيس عدة أخويات منها: أخوية الحبل بلا دنس للبنات، أخوية قلب مريم للنساء وأخوية لإكرام القديس يوسف. وفي كل مساء بعد انصراف تلميذاتها كانت تجمع أعضاء تلك الأخويات وتتلو معهنّ السبحة المقدسة إكراماً لوالدة الإله. يا مريم أمنا، يا سيدة الوردية المقدسة، علمينا معنى الصلاة الحقيقية، وزيدينا شغفاً بحب تلاوة الوردية، في رعايانا وكنائسنا أولاً، ومع طالباتنا في المدارس واخوياتنا بجميع فروعها، لنصبح أهلاً لهذه النعمة العظيمة، التي جاد الله بها علينا. آمين.
ظهرت مريم العذراء سلطانة الوردية المقدسة لآمتها الأخت ماري الفونسين في 31-5-1874، وشاهدت الأخت ماري، مكتوباً فوق إكليل الأم البتول هذه الكلمات “عذارى الوردية”.
ومساء عيد الغطاس 6-1-1875، ظهرت لها الأم البتول حاملة الوردية كالمرة الأولى مع صفين من البنات، إلى يمينها والى يسارها وكان مكتوباً “عذارى الوردية – رهبانية الوردية”.
ومرة أخرى أخذت العذراء بزمام المبادرة، وأوحت إلى الراهبة حلماً نبوياً يرسم معالم المستقبل رسماً أكثر وضوحاً، فكتبت الأخت ماري الفونسين في مذكراتها، قائلة: “وفي غضون ذلك رأيت في الحلم أمي مريم البتول، يحيط بها عذارى عديدات… ثم قبضت مريم على يدي بشدة وقالت: “أريد أن تؤسسي رهبانية الوردية”.
والآن أشير عليك أن تنشئي هذه الرهبانية وأنا معك. وكوني على ثقة بان أخوية الوردية ورهبانيتها ستنجح وتتوطد إلى يوم الدينونة، بشرط أن تباشريها طبقا لأوامري والهاماتي.
ثم أمسكت بيدي بقوة وعلقت في عنقي الوردية التي كانت بيدها، وقالت لي: “أنا أمك، أعينك وأساعدك”. وفي بداية عام 1876، رأت الأخت ماري الفونسين السيدة العذراء مرة أخرى وحولها فوج من العذارى يرتدين ثيابا بيضاء وزرقاء. وطلب منها الأب انطون بيلوني مرشدها أن تقيم تساعية صلاة لتستطلع مقاصد العذراء ولتستعد لتنفيذها.
ولما انقضت الأيام التسعة المطلوبة للتساعية، تراءت لها العذراء، يُحيط بها هذه المرة جمهور غفير من العذارى وهن مرتديات ثياباً رهبانية زرقاء وبيضاء، كثوبها، وبعد أن نظرت إليها بعطف ومودة، قالت لها استجابة لصلاتها: “متى تبتدئين تأسيس رهبانية الوردية؟ تشجعي وتممي أمري. أما فهمت؟ إني أريد رهبانية الوردية”، هذه الرهبانية سوف تزيل من الأرض كل شر وبلية”.
في هذه المرة لم تتقاعس الأخت ماري الفونسين عن حمل المسؤولية، ولم تظهر أدنى تردد وفتور، بل سجدت أمام قدمي العذراء متوسلة قائلة: “يا أمي امنحيني الوسائل اللازمة فأنني مستعدة، فأردفت العذراء: “إن الوردية هي كنزك، فاتكلي على رحمتي وثقي بالجود الإلهي، وأنا أعينك” ثم ألقت عليّ السبحة من يدها وغابت.
وبعد ذلك بمدة وجيزة ظهرت لها العذراء مرة أخرى… وقالت: “إني أثبتكن باسم أفراحي وباسم أحزاني وباسم أمجادي”، قالت هذه وغابت.
وفي ظهور ثالث، جرى ليلاً. شاهدت الأخت ماري الفونسين القديس يوسف، فأسرعت إليه تشكو له همها الشديد، فسألته: “كيف أعمل لأبدأ تأسيس رهبانية الوردية وأنا في رهبانية القديس يوسف؟”. فأجابها بقوله: “أريد أن تتمي بفرح ما أنت مدعوة إليه”، وأضاف مشيراً بيده إلى العائلة المقدسة: “أننا قد فرحنا وحزنا وتمجدنا معاً. وأريد أن تخرج من رهبانيتي رهبانية الوردية”. وشعرت الأخت ماري الفونسين، بالفرح والثقة، وعزمت على تنفيذ إرادة العذراء، بحذافيرها مهما كلفها من ثمن.
وتوالت الرؤى النبوية وتبلورت لدى الأخت الراهبة ماري الخطوط العريضة التي ستسير عليها الرهبانية. فهي في الدرجة الأولى رهبانية مريمية تتلى فيها الوردية ليل نهار فقد قالت لها العذراء: “إن من الضروري أن يكون في الدير وردية دائمة تتلوها الراهبات والبنات”.
عاشت الأم ماري الفونسين خدمتها للقريب بكل أبعادها، انطلقت من الرب، لتذهب مسرعة إلى القريب تحمل إليه يسوع، وكرست حياتها كاملة للعناية بالأيتام والفقراء في بيت لحم، وبذلت قصارى جهدها للتخفيف عن المحتاجين والمرضى، ومساعدة المرأة الضريرة على الشفاء بشفاعة العذراء. وعملت بكل ما أوتيت من قوة لزرع بذور الإيمان والرجاء والمحبة فى كل من قابلتهم.
لقد كان الفقر هو طابع كل إرسالية جديدة تبدأ في العمل فيها. وبالرغم من شدة الفقر لم تفارق الابتسامة وجوه الراهبات، ولم تبخل أن تشارك غيرها الأقل فقراً بما لديهم من طعام وغذاء فكانت تقول: “كانت تعزيتنا عظيمة بفقرنا المدقع، وكنا نحتمل ونقدمه تعويضاً عمن لا يلتزم بالفقر في رهبنتنا”.
في إحدى الرؤى، رأت الأم ماري الفونسين ديراً مستديراً على شكل مسبحة وسيدة الوردية على سطحه، وتحيط بالدير خمس عشر نافذة، على كل منها راهبة وردية تحمل اسم سر من أسرار المسبحة الخمسة عشر وكان اسمها على النافذة العاشرة، فاقترن اسمها بسر موت المسيح الذي هو العاشر من أسرار الوردية.
ستكون إذن حياتها موسومة بالألم والصليب، فخافت الأم ماري الفونسين من الرؤيا ونظرت إلى المستقبل بفزع وهلع. شعورها قد تلاشى عندما تذكرت أن الله يرسل مع كل داء دواء، ومع دمعة عزاء، ومع الصليب القدرة على رفعه، بعد تلك الرؤيا افعمتها العذراء بهجة ونورا.
وكانت تقول دائما: “لا أبالي بالعذاب، فانا ذبيحة الوردية”.
شعارها: “التفاني حتى الموت” رافقها طيلة أيام حياتها، وهذا ما جعل الأم ماري الفونسين تعطي أهمية كبرى إلى الألم وللصليب، لتشهد على محبتها الحقيقية لله في الشدة والمعاناة أكثر من محبتها له في الرؤى والتعزيات فقط .
وهكذا يكون الإيمان قد أضاء طريقها، وأصبح إيمانها غناها وقوتها، وبه أصبحت قادرة على احتمال كل ما يعترضها من تحديات واضطهادات وسخريات.
أن الأم البتول، سلطانة الوردية، هي المؤسسة الأولى للرهبانية، وقد هيأت الأم ماري الفونسين لهذه المهمة، ووجّهتها إلى الأب يوسف طنوس ليكون لها مرشداً، ويقوم وإياها بالتأسيس. كذلك لم يكن هنالك غنى عن كاهن للشروع في التأسيس، وبخاصة نظراً لمعطيات البيئة الكنسية والاجتماعية التي كانت مسيطرة آنذاك في بلادها.
إن تأسيس رهبانية لا يمكن أن يتم إلا ببركة السلطة الكنسية وتشجيعها. ولا يدور في خلد أحد أن الأم البتول في تأسيس الرهبانية، تخرج عن السلطة الكنسية، وعما هو مطلوب ومقبول كنسياً، ولذلك نراها تختار أيضا الأب يوسف طنوس، أحد كهنة البطريركية اللاتينية للشروع في التأسيس مع بقاء الأخت ماري الفونسين مجهولة لا يبرز دورها للعيان.
وقد كان الأب يوسف طنوس مطّلعا على حقيقة تدخل الأم البتول لتأسيس الرهبانية، من خلال الأم ماري الفونسين التي ائتمنته سرها.
كان مرشدها الأب يوسف طنوس من الإكليروس البطريركي اللاتيني الأورشليمي، ولد في الناصرة عام 1838 وقد سيم كاهناً للرب عام 1863. وفي عام 1866 شغل منصب سكرتير القصادة الرسولية في بيروت ثم منصب أمين سر البطريركية اللاتينية في القدس. وفي المجمع الفاتيكاني الأول عام 1869 اختاره البطريرك مستشاراً لاهوتياً له. ولم تحل هذه المناصب الكثيرة بينه وبين العمل المباشر في ميدان الرسالة، لا سيما بين صفوف الشباب ووجّه عناية خاصة إلى أخوية “بنات مريم”، قد أمر الأب يوسف الأم ألفونسينا بأن تكتب ما رأت من رؤى وما سمعت. وقبل وفاتها بأيام معدودات قالت لأختها حنة رئيسة الدير:”بعد موتي اذهبي إلى مكان كذا فتجدي دفترين مكتوبين بخط يدي، خذيهما وسلميهما إلى البطريرك برلسينا”.
فنفذت الأخت حنة رغبتها بعد مماتها. ولما كان البطريرك برلسينا يجهل العربية، طلب إلى الأم أغسطين ترجمة تلك الصفحات، ثم أمر بإعادة المخطوطين الأصليين إلى الرئيسة العامة التي اطّلعت على محتوياتها فسطعت الحقيقة كالشمس وقدّر الجميع آنذاك تلك الراهبة المتواضعة التي بقي سرّها وسرّ العذراء محجوباً عن العيون زمنا طويلا حتى سنة 1927.
من مذكراتها نقتبس:
تقول الام الفونسينا لما كنت اسمع القداس في كنيسة مهد الميلاد ببيت لحم يوم عيد الغطاس، لاح لي بعد كلام التقديس نور ساطع صاف فوق الكأس ثم ازداد ذلك النور وانتشر فوق المذبح وظلّل الكاهن وكنت أرى أحياناً أن أشعة ذلك النور تنبسط وتمتد إليّ، ثم شاهدتُ نوراً بهيّاً انبثق من الذبيحة ووصل إليّ فأبصرت أسرار عيد الغطاس بصورة فائقة الوصف وبهيئة جميلة جداً لا أستطيع إلى التعبير عنها سبيلاً. شاهدتُ الطفل الإلهي يسطع نوراً وبهاء والقديس يوسف يتفرّس فيه أحياناً، وأحياناً في أمّه ساجداً بالقرب منهما، ورأيت الملوك الثلاثة وهداياهم بشكل عجيب جداً، ثم شاهدتُ مار يوحنا يعمّد يسوع والماء كنورٍ يُسكب عليه، ولم أكن حينذاك أعرف أو أدرك ما أراه. ثم غاب هذا المنظر وأصبحت في سكينة عظيمة وامتلأ قلبي حرارة وحبّاً للّه تعالى ،وشعرت في ذلك اليوم بقوة مكنتني من حضور خمسة عشر قداساً جاثية مبتهجة، وقد تجددت لي هذه الرؤيا خصوصاً لدى سماعي القداس الخامس والقداس العاشر والقداس الخامس عشر. وعلى أثر ذلك تجلّت لي سيدة الوردية وحولها العذارى يسجدن للأسرار الإلهية، وحدثتْ حركة ظريفة عند آخر الرؤيا يتعذر عليّ شرحها فإنَ شعاعاً نورانيّاً انبثق من أمي البتول ونفذ فيّ، فغدوت حينئذٍ جريحة محبتها وسكبت دموعاً غزيرة .
ولأن مريم أمي كانت اغلب الأوقات معي. وقد رأيتها يوماً موشحة بثوب رهبنة الوردية وهي تقبض على يدي اليمنى وتقول : اكتبي هذا لمرشدك وأرسليه مع القانون، وقولي له أنه بعد ثلاثة أشهر يحدث تبديلك من رهبنة مار يوسف، وسيكون ذلك واسطة سهلة لتغيري رهبنتك برهبنة الوردية. ولما استيقظت كتبت ذلك كله متكلة على ربي وعلى أمي كل الاتكال وشعرت بأن قلبي مستعد لاحتمال ما ينبغي أن أحتمله من الخجل وأتجرعه من الحزن، وقدمت ذاتي ضحية تامة لكل ما تريده مني العناية الإلهية. وجعلت أكرر مرارا: “فلتكن يا رب مشيئتك”. وكانت نفسي تشعر أحياناً بحزن شديد حتى الموت، إذ كنت أفتكر في ما يلزمني أن أكابده من العذاب بانتقالي من رهبنتي إلى تأسيس رهبنة الوردية. وكنت أخجل من الناس ومما يقال عني فكانت حيرتي عظيمة وهمي جزيلاً لأن طبيعتي حساسة جداً وكانت محبة الذات حيّة فيّ. ولذا كنت أجثو على قدمي أمي باكية كلما كانت تسمح لي الفرصة أكان ذلك ليلاً أم نهاراً. مكررة الهتاف: أمي أمي دبريني وعلميني كيف وماذا يجب أن أصنع. فكانت أمي تسارع إلى معونتي متجلّية بعدة أنوار ساطعة تتلألأ بهاءً وجمالاً فائق الوصف وبيدها الوردية تحفّ بها أنوار أسرارها. وتلهمني أن الوردية هي سلاحي وقوتي وكنزي مع الله. وعندما كانت تضعف قوى نفسي كنت أتلو الوردية وأكرر الاتكال على أمي الإلهية فأفوز بنعمة وقوة جديدة.
ومن ثم فبعد استشارة مرشدي كتبت عريضة إلى قداسة سيدنا البابا لاون الثالث عشر، مستمدة من مراحمه أن يفكني من نذر الطاعة كي أبدل رهبنتي، وأتمم بقية نذوري في رهبنة أخرى لسبب عمل مبرور. ووجهت عريضتي هذه إلى سيدنا البطريرك منصور الذي كان مطلعاً على حالتي منذ أربع سنوات. فحصل لي غبطته على الحل من نذري، وبعودته إلى أورشليم دفع إليّ صك التفسيح وأمرني أن أُبقي اسمي: الأخت ماري الفونسين الوردية، وأمكث في بيت أبي ريثما يتيسر لي الدخول في رهبنة الوردية، على أنّ هذه الرهبنة عاكسها في أول نشأتها بعض رئيسات رهبنة مار يوسف، واعترضن على مرشدي وعليّ في ديوان نيافة الكردينال محامي رهبنتهن، مدعيات بأن مشروع رهبنة الوردية يثبّط أعمالهنّ الخيرية. وبناء عليه حضر مفتش من رومية، ووجدني في بيت أبي وفحص الأمر وفهمه، فزالت تلك المعاكسات نوعاً ما وكنت في تلك الأثناء منزوية في غرفة صغيرة ببيت أبى لا أغادرها إلا إلى الكنيسة.
وكانت محبتي ليسوع ومريم أمي ملتهبة ضمن فؤادي كسعير متوقد. وكثيراً ما كنت تتفقدني أمي مريم وتعزيني وتقويني. وقد جعلت عزلتي هذه بمثابة فردوس وحوّلت فقري إلى سعادة وعذابي وتعبي إلى حلاوة وراحة، غير أنه كان يشقّ عليّ جدّاً أني خارجة من الدير، فاقدة الطاعة محرومة ممارسة المحبة الأخوية لا يتيسر لي أن أمارس ذلك في خلوتي كما كنت أمارسه في الرهبنة. أما غبطة سيدنا البطريرك منصور فكان يعزيني بقوله: قريباً إن شاء الله تتوشّحين بثوب رهبنة الوردية وتتوجهين حالاً إلى فتح المدارس فيضمحل حينئذ سبب امتعاض راهبات مار يوسف من هجرك إياهن.
قضيت على هذا الأسلوب ثلاث سنين في بيت أبي حتى زالت الموانع. ثم دخلت بأمر صاحب الغبطة دير الوردية وقبلت تلك الأعتاب الشريفة. وكان إذ ذاك وقت الرياضة السنوية فعكفت عليها. وبعد ثلاثة أشهر تشرّفت بلبس ثوب رهبنة الوردية بيد المطران بسكوال أبو ديا صباح عيد سيدة الوردية في 7 يونيو 1883. يا له من يوم سعيد به حصلت على راحة قلب حقيقية، لأني تممت إرادة الهي وأكملت أوامر أمي التي أنعمت عليّ بنعم لا تعد ولا تحصى. فكنت اشكرها دائما بحرارة قلبي .
بعد سنتين جرت لنا فاجعة مرّة وشديدة هى انتقال أبينا ومؤسسنا الأب المحترم الخوري يوسف طنوس وتركنا جريحات الفؤاد بحزن مميت على فقده. يا لها من خسارة عظيمة، فقد حياته الثمينة، وتركنا في هذا الوقت العسر، كنا بأشدّ الاحتياج لهذا الأب الحنون والمؤسس الغيور، فصبرنا وتجرعّنا كأس هذا الصبر المر خاضعات لمشيئته تعالى القدوسة قائلات: “فلتكن مشيئتك يا رب آمين”. فقبل وفاته بساعة، كلّمني وحدي مدّة ساعة، وقال لي : “خذي بركتي الأخيرة، وأسفا عليك إن كنت تبقي طويلاً في هذه الحياة بعد موتي، لأنهنّ يعذبوك جدّاً يا مسكينة بينهنّ “. فجاوبته: ” لا بأس من عذابي، أنا ذبيحة الوردية، أرغب فقط أن تكون مرتاح في الديار السماوية، وراحتك هي راحتي، إنّ أمنا الحبيبة التي خدمتها في الحياة، ستأتي وتساعدك في هذا الوقت”. فباركني والتفتَ نحو صورة مريم العذراء وشهق وسلّم روحه بيد الله. وصارت عيونه تلمع كضوء الشمس. وقبل وفاته قال لي: “إن أختك ريجينا تحسب واحدة منكم كما وعدتها” وقبل موته بعشرين يوماً، كان قد أوصاني بافتتاح ملجأ لليتيمات في بيت لحم، ومشغل للفقيرات للبنات الكبار حتى يكسبن معيشتهنّ.
ومع تقدمها فى السن قدمت نموذجاً لحياة الصلاة والتجرد وكانت المسبحة لا تفارق يدها وانتقلت الى الامجاد برائحة القداسة فى 25 مارس سنة 1927.
بداَ التَّقَدُّمِ بِطَلَبِ دعوة إعْلانِ ألام ماري ألفونسين طوباويّةً وقِدّيسة سنة 1986.
صادَقَ عليها مَجمع دعاوى القدّيسين بتاريخ 9 يوليو 1987. وبعْدَ إعدادِ التّقاريرَ اللازِمة حَولَ ممارَسةِ الفَضائل المسيحيّة بِطَريقةٍ بُطوليّة، أَعْلَنَ قَداسةُ البابا يوحَنّا بولس الثّاني في الخامسِ عشرَ مِنْ ديسمبرِ 1994 الأمَّ ماري ألفونسين مُكَرّمةً قائلاً: “لَقد ثَبُتَ حقّاً أنَّ أَمَةَ الرَّبِّ ماري ألفونسين دانيال غطّاس من رهبانيّةِ الوَرديّةِ المُقدَّسةِ والشّريكةَ في تأسيسِِ الرهبانيّةِ قَد مارسَتْ بِطريقةٍٍ بُطوليّةٍ الفضائلَ الإلهيّةَ: الإيمان والرّجاء والمحبّة، في اتِّصالِها بِالله وفي علاقتِها مَعَ القريبِ كما مارَسَتْ ذَلِك بِطريقةٍ بُطوليّةٍ الفضائلَ الرّئيسيّةَ كلَّها: الفطنةَ والعدلَ والقناعةَ والقوّةَ والفضائلَ المرافقةَ لها.
وبعد ان أثبت مجمع دعاوى القديسين صحة الأعجوبتين التي حَصَلَتْ بِشَفاعة الأمّ ماري ألفونسين، بان انقذت فتاه من الموت حينما سقط بها سقف البيت فوقعت فى بئر ماء بعمق خمسة امتار فالقت الام مارى الفونسينا بسبحتها فى البئر فإذ بالفتاه تخرج سليمة حية ، واقامت رجل مقبلا على الموت بان غمست سبحتها فى الماء المقدس وغمستها فى فمه فإذ به يشفى ويقوم معافى .
صادق البابا بِنِديكتُس السادس عشر على إعلانها طوباويّةً في 3 تمّوز 2009.
صلواتها وشفاعتها تكون معنا آمين
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت