الولادة: 300 م.
الوفاة: 390 م.
الأنبا مقار الكبير أو القديس مقاريوس أو الأنبا مكاريوس: هو مؤسس الرهبنة في برية الاسقيط، وهو أب برية شيهيت المسماة حالياً وادي النطرون، ويُطلَق عليه القديس الأنبا مقار الكبير، تمييزاً له عن القديس مقاريوس الصغير الإسكندري الذي كان مُعاصِراً له، واعطاه الله مواهب عديدة منها الطاعة والتواضع، الحكمة، صنع المعجزات، موهبة شفاء المرضي، معرفة أسرار المستقبل، السلطان على الأرواح النجسة وحسن التدبير، كما لقب بالنبي حامل الروح القدس. كان وجهه يضيء بالنعمة، حتى أن آباء كثيرين شهدوا بأن وجهه كان يضئ في الظلام، فأسموه بالمصباح المضئ. كما عُرف القديس بسمته الخاصة بستر الخطايا.
نشأته وزواجه
ولد عام 300 م فى قرية شبشير (قرب رشيد) من أب يدعى ابراهيم وكان كاهناً وام اسمها سارة، وكانا صالحين بارين، ولم يكن لهما ولد. فحدث في إحدى الليالي أن أبصر ابوه شخصاً من قِبَل الرب يقول له أن الرب سيرزقه ولداً يكون ذكره شائعاً في أقطار الأرض ويُرزَق أبناء روحانيين. وبعد زمن رُزِق ولداً فسمّاه مقار أي الطوباوي، وكان مطيعاً لوالديه وقد حلت عليه نعمة الله منذ صغره.
وبدت النعمة على الشاب مقار، فكانوا يلقبونه باسم “الشاب الحكيم”. وكان جميلاً حسناً في بهاه، وكان وجهه ممتلئاً نعمة، ومن فرط حب كهنة القرية له أخذوه إلى الأسقف ورسموه شماس “أغنسطس “. وكان حافظاً مخافة الله بالطهارة وتلاوة الكتب المقدسة في الكنيسة، وكان يفهم بقلبه الذي يقرأه، فألزمه كهنة الكنيسة أن يكون خادماً للكنيسة أي ثبَّتوه شماساً عليها.
ولما كملت قامته زوّجه والده بغير إرادته فتظاهر بالمرض أياماً، ثم استسمح أباه أن يمضي إلى البرية لتبديل الهواء فسمح له. فمضى وصلى إلى الرب يسوع أن يساعده على عمل ما يرضيه، فلما صار في البرية أبصر رؤيا كأن كاروباً (ملاك) ذا ستة أجنحة قد أمسك بيده وأصعده على رأس الجبل وأراه كل البرية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وقال له: “يقول لك الله أنه منحك أنت وأولادك هذا الجبل كله لتكرس كل وقتك للعبادة. اسهر وتذكر ما أقوله لك: إن سلكت بكمال أظهر لك وأعلن لك كلمات الله” وقد قيل أن الملاك صحبه كل حياته تقريباً. لما عاد من البرية وجد زوجته قد ماتت وهي بعد عذراء، فشكر السيد المسيح كثيراً. وبعد ذلك مات أبواه فوزع كل ما خلَّفاه له على المساكين، ورأى أهل منوف طهره وعفافه فأخذوه إلى أسقف أشمون فرسمه قساً عليهم، وبنوا له موضعاً خارج البلد وكانوا يأتون إليه ويتقربون منه، وعينوا له خادماً ليبيع له شغل يديه وقضاء ما يحتاج إليه.
في الإسقيط (قرب دير البراموس حاليا):
لما رأى الشيطان تعاليمه في الفضيلة جلب عليه تجربة شديدة، وذلك أنه أوعز إلى فتاة كانت قد ارتكبت شراً مع شاب بأن تدَّعي بأن القديس مقاريوس هو الذي أتى معها هذا الشر. فلما علم أهلها بذلك أهانوه وضربوه ضرباً موجعاً فتحمله وهو صامت. ولما بدت عليها علامات الولادة تعثرت لتلد بعد أربعة أيام معذبة ولم تلد حتى اعترفت بكذبها على القديس، وذكرت اسم الشاب الذي أغواها. فلما رأى ذلك أهل الفتاة توجهوا إليه يستغفرونه عما حصل منهم له، وكان له من العمر وقتئذ 30 عاماً، وإذ فكر ألا يعود إلى قلايته ظهر له ملاك الرب وسار معه يومين حتى وصلا إلى وادي النطرون، ثم قال له القديس: “حدد لي يا سيدي مكاناً أسكن فيه”، فأجابه: “لا لئلا تخرج منه فيما بعد فتكون مخالفاً لقول الرب، بل البرية كلها لك فأي موضع أردت أسكن فيه”. فسكن في البرية الداخلية حيث الموضع الذي فيه دير – معروف الآن بدير البراموس – لما ذهب لزيارة القديس أنطونيوس ألبسه الإسكيم المقدس وعاد إلى مكانه. ولما تكاثرت عنده الرهبان بنى لهم كنيسة وذاع صيته بين الناس لكثرة العجائب التي كان يعملها. وظهر له ملاك الرب وأتى به إلى رأس الجبل عند البحيرة الغربية المالحة الماء وأعلمه أن يتخذ له هذا المكان مسكناً، وبنى له قلاية وكنيسة لأن شعباً كثيراً سيجئ إليه.
تأسيس دير البراموس:
وكان القديس مقار في ذلك الوقت قد ناهز الأربعين عاماً من عمره فتكون بداية توحده في شيهيت حوالي عام 340م. إن القديس أنبا مقار مكث في هذا المكان ما يقرب من عشرين سنة حتى اكتمل دير البراموس وكثر بالمتوحدين الذين كانوا يعيشون في مغارات حول الكنيسة الرئيسية، إذ لم يكن هناك أسوار بعد.
حبه للوحدة:
أكد القديس مقاريوس أن برية الاسقيط تفقد قيمتها الرهبانية عندما تدخل إليها المدنية. حتى في البرية إعتاد القديس مقاريوس أن يهرب من ازدحام الشعب. ويخبرنا أحد تلاميذه الرهبان: أنه حفر سرداباً تحت الأرض يمتد من قلايته إلى حوالي نصف ميل وينتهي بمغارة صغيرة. فإذا ما جاءت إليه جموع كثيرة يترك قلايته سراً إلى المغارة فلا يجده أحد. وقيل عنه ايضا ” أنه اعتاد أن يتلو 24 صلاة في طريقه إلى المغارة و24 صلاة في العودة “. اكتشف القديس مقاريوس أن الفهم الحقيقي للتوحد ليس هو مجرد العزلة عن البشر، بل هو الرغبة الصادقة للاتحاد مع الله محب البشر. المتوحد الحقيقي يهرب بالجسد عن البشر لكنه عملياً يحب كل إنسان. كان روح الحب والحنو يسود بين رهبانه كانعكاس لحب القديس لهم. وقد روي أحد رهبانه قصة عنقود العنب الذي قُدم للقديس فقدمها بدوره لراهبٍ مريضٍ، وعبر هذا العنقود من راهبٍ إلى آخر في كل القلالي دون أن يمسه أحد منهم ليقدمه للغير.
زيارته للقديس أنطونيوس:
قد قام القديس أنبا مقار بزيارة القديس أنطونيوس مرتين، المرة الأولى عام 343م، والثانية عام 352م. وقد تسلَّم من القديس أنطونيوس فضائله وتعاليمه، وألبسه القديس أنطونيوس الإسكيم المقدس، وسلَّمه عكازه؛ فكان هذا نبوة عن تسلُّم مقاريوس رئاسة الرهبنة بعد أنطونيوس. وقد شهد له القديس أنطونيوس بأن قوة عظيمة كانت تؤازره بقوله له: ”إن قوة عظيمة تخرج من هاتين اليدين“.
فضائله :
أهم صفات القديس مقاريوس التي بدت عليه منذ شبابه ”الحكمة“. فكان أصدقاؤه ومحبوه يدعونه باسم ”الشاب الشيخ“ أو ”الصغير صاحب حكمة الشيوخ“.
وكانت له قدرة على استبطان الأمور، فبدت وكأنها روح نبوة، فكانوا يدعونه بالنبي اللابس الروح، أي حامل الروح القدس. وكان صفوحاً معزياً، مقتدراً بالروح قادراً أن يقود جميع القامات والمستويات إلى المسيح.
وكان وجهه يضيء بالنعمة، بصورة ملفتة للنظر، حتى أن آباء كثيرين شهدوا بأن وجهه كان يضيء في الظلام، فأسموه بالمصباح المضئ. وقد انتقلت هذه الصفة أو هذه التسمية إلى ديره، فدُعي كذلك بمصباح البرية المضئ أو الدير المضئ، مكان الحكمة العالية والصلاة الدائمة. ولكن أعظم صفات أو مميزات القديس مقاريوس كانت القوة الإلهية الحالَّة عليه، والتي دعيت بالشاروبيم التي كانت مصدر قوته وإلهاماته وحسن تدبيره وسلطانه على الأرواح النجسة.
مواهبه:
تشير ” أقوال الآباء” إلى صراعه ضد الشياطين. كما روى تلاميذه عن إقامته ميتاً لكي يهدي هرطوقياً لا يؤمن بقيامة الأجساد. ونال موهبة صنع المعجزات.
عُرف القديس بسمته الخاصة بستر الخطايا فقيل عنه: “صار إلهاً علي الأرض، فكما أن الله يحمي العالم ويحتمل خطايا الناس هكذا كان الأب مقاريوس يستر الأخطاء التي رآها أو سمعها كأنه لم يرَ أو يسمع شيئا” كما بحبه كسب وثنيين للإيمان.
قيل عن الأنبا مقاريوس: إنه بنى لنفسِه قلايةً غربي الملاحات (قرب الاسكندرية حالياً) وسكن فيها، وصار يُضَفِّرُ الخوصَ ويعيشُ من عملِ يديه ويعبدُ الله كنحوِ قوتِهِ.
سُئل القديس مقاريوس: «أيُّ الفضائلِ أعظمُ»؟ فأجاب وقال: «إن كان التكبُّر يُعتبرُ أشرَّ الرذائلِ كلِّها حتى أنه طرح طائفةً من الملائكةِ من علوِ السماءِ، فبلا شكٍ يكون التواضعُ أكبرَ الفضائلِ كلِّها لأنه قادرٌ أن يرفعَ المتمسكَ به من الأعماقِ حتى ولو كان خاطئاً. من أجلِ ذلك أعطى الربُّ الطوبى للمساكين بالروحِ».
نياحته:
وتقدَّم أنبا مقار في الأيام، وشاخ جداً، حتى بلغ سنه تسعين سنة. وفي المخطوطة القبطية يقول سيرابيون إنه عاش سبعة وتسعين سنة (397 م).
كتب أحد تلاميذه :” كان يحمله أولاده، ويجلسونه في حوش قلايته، وما كف عن صراع الشياطين، وما كفَّت الشياطين عن الصراع معه، حتى في هذه السن. وإلى وفاته كان متحفظاً جداً من المجد والمديح الباطل. ونقص أيضاً ضوء بصره من كثرة السهر والتعب وطول السنين، لأن حياته بلغت سبعة وتسعين سنة، حتى بدأ يرقد على الأرض من كثرة ضعفه. وكان تلاميذه يحيطون به، وكان يعزي كل واحد على قدر رتبته ويقول: ”الله يعلم أنني ما كتمت عنكم شيئاً، بل خاطبتكم دائماً بما أعلم أنه ينفع أنفسكم، وعملت بينكم على قدر قوتي، وكلفت نفسي دائماً حتى لا أصير سبباً لاسترخاء أحد منكم، لا كبير ولا صغير، ولا نمت قط ليلة واحدة وفي قلبي غضب على أحد منكم، ولا تعديت أعمال الله، ولا تجاوزتها، ولا نقضت محبتي لله، ولا محبتي لإخوتي المعروفين لله ولكل الخليقة، الرب يعلم ويشهد عليَّ؛ لأنه قال لي مرة: إنك يا مقار ” الظفر والغلبة التي نلتها على العدو فكانت بالقوة والنعمة اللتين نلتهما من الله”. فلا أذكر قط أني عملت شيئاً بقوتي بل كل ما عملت من أشفية أو رحمة كان بيد قوة الله المقدسة. فاهتموا يا إخوتي بخلاص أنفسكم وتيقظوا لأني بعد قليل سأُوخذ منكم“.
وظل الأب مقار مطروحاً على الحصير، لا يستطيع أن يقوم من الوجع الصعب، لأنه كان ملتهباً بالحمى كالنار. وفي اليوم السابع والعشرين من برمهات سنه 397 م ظهر له الملاك، الذي كان معه منذ الابتداء، ومعه جمع كثير من الروحانيين، وقال له: ”أسرع وتعال فإن هؤلاء كلهم ينتظرونك“. (ويقصد بـ ”هؤلاء“ القديس أنبا انطونيوس والقديس أنبا باخوميوس وآخرين جاءوا إليه ساعة نياحته).
فصاح أنبا مقار بصوت خافت قائلاً: “يا سيدي يسوع المسيح حبيب نفسي اقبل روحي إليك”. وأسلم الروح. ولم يكن في هذه اللحظة معه أحد إلا تلميذه؛ فلما تسامع الإخوة الرهبان النساك والمتوحدين خبر نياحته، اجتمعوا من أطراف الجبل من الأربعة الأديرة، باكين من أجل شعورهم باليُتم، لأنه كان أباً لكل واحد منهم، وتقلَّدوا منه جميعاً طريق مخافة الله. واحتاطوا بالجسد في الكنيسة يتباركون منه، ويقبِّلونه. وصلوا جميعاً عليه، وقدّموا القداس، واشتركوا جميعاً، ثم حملوا الجسد الطاهر إلى المغارة التي بجوار الكنيسة، التي بناها هو في حياته، ووضعوه هناك، وانصرفوا إلى قلاليهم بحزن عظيم.
من أقواله:
إن كنت وأنت تنتهر أحداً يتحرك فيك الغضب، فأنت تشبع هواك، ففي خلاص أخيك لا تخسر نفسك. إن احتفظنا بتذكر الأخطاء التي ارتكبها الناس ضدنا، فإننا نحطم القدرة على تذكر الله. إن طول الروح هو الصبر… والصبر هو الغلبة… والغلبة هي الحياة… والحياة هي الملكوت… والملكوت هو الله. البئر عميقة، ولكن ماءها طيّب عذب. الباب ضيّق، والطريق كَرِبَة، ولكن المدينة مملوءة فرحاً وسروراً. البرج شامخ حصين ولكن داخله كنوز جليلة. الصوم ثقيل صعب، ولكنه يوصِّل إلى ملكوت السموات. فعل الصلاح عسير شاق، ولكنه ينجّي من النار برحمة ربنا الذي له المجد.
صلاة من أقوال القديس مقاريوس الكبير:
” يا رب ارحمني أنا الخاطئ، لأني لم أعمل الصلاح أمامك، وأنقذني من الشيطان، واجعلني مستحقاً بدون إدانة أن أفتح فمي الغير مستحق لكي يمجد اسمك الكلي القداسة، اغفر لي ذنوبي يا ربي، أنت فاحص الكلى والقلوب، وأنت عارف بكل اتجاه أو نبضة شريرة في قلبي، وأنت يا رب وسيد كل أحد تعرف أن جميعها دوافع غير إرادية. سامحني يا رب لاقترابي الغير مستحق نحوك وذلك لاشتياقي إليك، اغفر لي أنا الخاطئ والكاذب، والغير صبور، وضعيف القلب، والكسول، والذي أهمل وصاياك المقدسة، الشخص الذي عمل كل خطية وكل التعديات: عبادة الأصنام، الزنى، والاستغلال السيئ على الأرض وفي البحر وفي كل مكان على مملكتك.
آه يا سيدي إني لم أكف عن عمل الشر والأشياء المشينة أما عيناك الفاحصة التي تعرف أعماق النفس، وأيضاً لم تتوقف الشهوات المتغلبة علي في نهمي للأكل وملذاتي ورغباتي الشريرة كالغش ، والعظمة الكاذبة، وفي الكبرياء. ولكن أنت يا ربي الواحد الوحيد العظيم الرحوم ساعدني وخلصني مثل الابن الضال والزانية واللص. أيها السيد العظيم الطيب الذي أحب الإنسان، لا ترفض خادمك العديم القيمة من خلال شفاعات السيدة العذراء النقية مريم وجميع قديسيك. آمين ”
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت