هذا الوعي مَعْنيٌّ على وجه الخصوص بالشهادة المسيحية (أنتم شهود لي)٬ عبر الحفاظ على الخصوصية الفكرية التي تُحقق الإندماج المتمايز٬ ذلك الإندماج الذي يميّز التعبير عن رسالتنا ووجودنا وهويّتنا كمسيحيين٬ والذي يقدم الرؤية اللاهوتية للمسيحية الشاملة: لله (مَنْ هو إلهنا؟)٬ وما هي رؤيتنا للكون وللإنسان وللتاريخ وللزمن وللأخلاق وللحياة.. تلك الرؤية التي تُبرز العِمارة الفكرية للإنسان المسيحي من حيث قيمته ورسالته من نحو الله ونفسه والآخرين.
لا شكَّ أن هذا الوعي يقتضي دراسات وتحضيرات ووِرَش عمل للوقوف على الخبرات والرُؤىَ٬ إنطلاقًا من كتابنا المقدس وآباء كنيستنا وتقليدنا الحي وتاريخنا٬ بلوغاً إلى الواقع المُعاش بإحتياجاته وتحدّيّاته وتحديثاته. والأمر يستلزم التحرِّي الموضوعي المدروس والمتروِّي بالتفكير والبحث لإدراك حقائق التنوع الفكري والإجتماعي والسياسي٬ حتى نحتفظ بقسط فاعل من الخصوصية والإلتزام الموضوعي بما نسعىَ لبلوغه في أداء شهادة إيمانية ناصعة… إذ أن هناك فرق بين المشروع النظري للإعلام والتحقيق الفعلي.
ولأن الإنسان عدُوّ ما يجهله٬ لذلك علينا أن نسعَى عبر الإعلام المسيحي بتقديم من نحن؟ بماذا نؤمن؟ لماذا نحْيَا؟ كيف نفكر؟ ما هو تاريخنا وحاضرنا؟ ما هي رؤيتنا لوطننا ولقضايانا ولإخوتنا في الإنسانية؟ ما هي منظومة قِيَمنا وأخلاقنا؟ ما هي رسالتنا نحن البشرية (حضورنا٬ مشاركتنا٬ إضافاتنا).
كل هذه وغيرها الكثير من محاولات للتعريف ولإنعاش الذاكرة٬ وللتبصُّر في مَصِير الحضور المسيحي في مجتمعاتنا٬ وهي في مُجمَلها تُوصِّل شهادتنا عبر الإعلام الصادق٬ الذي يُكاشف شركاء الوطن في أمر الخصوصيات هذه٬ والتي آن لها أن تنعتق وتنبسط بتلقائية بعد تأخير تارة وتأجيل تارة أخرى٬ أدّى إلى عُطب نَجْني تبعاته.
بينما المَسعَى الإعلامي المسيحي هو جوهر وأصل كل كرازة إيجابية٬ وهو قاعدة مقتضيات الشهادة المسيحية بما فيها من فعل الروح الإلهي ومستلزمات الوجود المسيحي الكريم والحُرّ٬ فعمل الروح والإستجابة تستنهض العقول والقلوب والقُدرات لإذاعة العمل الإلهي المسيحي في الكَوْن كله٬ عندما تصبح القُبّة والجرس والكنيسة والمكتبة وجمال التعليم والقِيَم المسيحية وتفاعلاتها مُتاحة للخليقة كلها؛ كي تُبدد ظلمات الجهل والتحريض والكراهية والماديّة والإلحاد والأصولية وقوات الجحيم.
فهل نحن على الطريق نحو مَسعانا الإعلامي المسيحي؟! لن نكون على الطريق إلا إذا وقفنا وقفة ضميرية لكي نفهم معنى وجودنا كخليقة جديدة وكشهود وأبناء وورثة ورعية مع القديسين وأهل بيت الله.
كذلك لكي نكون على الطريق علينا أن نُعيد إكتشاف هويّتنا (إعادة قراءة): حياتنا وسلوكنا وتقليدنا في ضوء التحولات الحياتية التي تنجلي لنا في صورة رجاء تكميلي٬ تنسحب عليه صفة الإعلان الإلهي٬ فنقدم رسالتنا ودورنا وعلاقتنا الطيبة بمن نعيش معهم في بلادنا٬ كنُور وكمِلح وكسفراء٬ وكثمرة الإرادة الصالحة والوعي الجماعي.
ذلك كله لا ينفصل عن الفَهم الجَدّي لفرادة المسيحية وتميّزها؛ ولا عن ما يقوله الروح للكنائس (رؤ ٢ : ٧)٬ وهو لا ينفصل أيضًا عن مشروع الله الخلاصي المُترجَم في التاريخ البشري…. والذي دُعيت الكنيسة لكي تكون علامته في العالم والتاريخ٬ فالكنيسة في وسط البشر هي علامة بناء ملكوت الله الأبدي٬ إذ لا خلاص لأحد خارجها٬ وهي تُتمِّم هذه المُهمّة عندما تكون ذاتها.
إن مؤشرات نجاح المَسعى الإعلامي المسيحي تنشر إشعاعاتها فوق المنارة٬ بإعلانها عن الرجاء والفرح والمحبة والسلام والمصالحة والحكمة والتعقُّل المسيحي٬ فما معنى أن نكون مسيحيين وأن يكون هناك وجود مسيحي من دون ثمار ومن دون أن نشهد لمسيحنا ونكرز به حياتيًا٬ إذ ليس إنجيلنا وعبادتنا مجرد فروض أو تراث أو ثقافة٬ بل أن نعيش ونحيا مضامينهم٬ وهنا تكون مسيحيتنا إحتياجًا وجوديًا٬ صانعين بكل هذا ترجمة لما نَحياه بالإيمان الذي نؤمن به٬ وتكون حياتنا إستمرارية لتجسد المسيح إلهنا ومخلصنا ومخلص كل أحد.