ليست القضية حديثًا عن أبناء ديانة دون غيرها، إنما هي مسؤولية وواجب التركيز على «التعددية الراقية» التي ميّزت الشرق الأوسط والبلدان العربية على مدار العقود، بل القرون السابقة. وفيما تحل في هذا الأسبوع الذكرى السنوية الثالثة على «خروج المسيحيين» القسري من العراق الشقيق، وتحديدًا من مدينة الموصل وسائر مدن وقرى سهل نينوى، نجدهم اليوم قد تقسموا فئات: فمنهم من فرَّ إلى أربيل كمكان آمن في البلد الأصلي – العراق. ومنهم من نزحوا إلى البلدان المجاورة وبخاصة إلينا في الأردن وإلى لبنان الشقيق.
وقد قدّم الأردن للأشقاء كل خير، ومدَّ يد العون لهم في كل مناحي الحياة الأساسية: المسكن والمأكل والشرب والصحة والتعليم وفوق ذلك الارشاد النفسي لكي يستوعب الإنسان ما يحصل معه. وقد أبلت جمعية الكاريتاس الأردنية الخيرية بلاءً حسنًا في تنظيم الوافدين، لمجموعات صارت تسمّى بالمكان الذي تبيت فيه: مجموعة ناعور ومرج الحمام والفحيص ومادبا وغيرها…
بعد ثلاث سنوات على ذلك الخروج القسري الذي لم نكن نتوقع له أن يحدث في القرن الحادي والعشرين، ننظر إلى أحوال مسيحيي العراق اليوم ، فنجد قسمًا كبيرًا قد غادر إلى بلاد بعيدة وبالأخص إلى أستراليا. وقسمًا ما زال موعودًا بالسفر، وقسمًا (في اربيل) ينتظر مع تشجيع الحكومة والكنيسة العراقية أن يعود لوطنه بأفراده وعائلاته، بعد إعادة البناء التي قالت السفيرة العراقية في عمان بحفل احتفالي بمناسبة تحرير الموصل أنه سيكلف مئات المليارات. والأهم من ذلك ينبغي التفكير بكيف سيتكيّف الإنسان العراقي مع الأوضاع في منطقة سيعود اليها، بعدما شهدت اراقة دماء وحشو أدمغة بأفكار هدامة.
ونسأل عن أوضاع مسيحيي الشرق بشكل عام. وهم الذين يكوّنون تحفة الشرق الأصيلة والأصلية جنبًا إلى جنب مع إخوتهم في الحضارة والتاريخ والمصير: أي المسلمين. وبلغة الأرقام، أصدرت المؤسسة الكاثوليكية لدعم الشرق الأدنى CNEWA ومقرها في واشنطن أحدث تقرير عن أعداد المسيحيين، في تسع دول في الشرق الأوسط، ونشرته صحيفة الفاتيكان اليومية، وأعلنت انحسار الأعداد حيث لا تتجاوز الأعداد 14 مليون مجتمعة في كل من قبرص ومصر والعراق ولبنان وسوريا وفلسطين والأردن وتركيا (وتعد كلها 258 مليوناً). فمن سوريا وحدها نزح أكثر من مليون مسيحي خلال خمس سنوات، وفي مصر تقلصت النسبة الى 10% (بعد أن كانت 19 % عام 1910)، وفي لبنان كانت النسبة عام 1932 53% وهبطت الان الى اقل من 40%، وفي فلسطين الجريحة تراجعت النسبة من 20% الى 2.1%، وفي القدس المحتلة وحدها هبطت من 20 % عام 1948 الى اقل من 2% اليوم.
من جديد ليس الأمر الأهم هو التوقف عند الأعداد وانحسار النسبة، فما زالت النيران مشتعلة في مناطق شتى، ومن المبكر إعطاء النسب النهائية والدقيقة، لكنّ الأمر الأكثر إلحاحًا هو كيفية الحفاظ على التعددية والأصالة والشراكة التاريخية والتعاون المشترك والتربية السليمة في البيوت والمدارس وبيوت العبادة، لكي لا نواصل السقوط في فخ التعصب والرغبة في إلغاء الآخر، عوضًا عن التعاون معه لبناء مستقبل سعيد ومجيد.
الأب رفعت بدر
الرأي الاردنية