ما كان للبدوي العربي الناشئ بين ظمأ رمال الصحراء ووهج الشمس ليستوقفنا لو لم يكن قد أدهش البشرية بعد أن استقر في أكاد وبابل ونينوى وماري وأوغاريت وإبلا وتدمر والبتراء، وغيرها من المدن العربية القديمة، واندمج في نسيجها الاجتماعي ليحقق التواصل والتفاهم في المجتمع والحياة.
وما كانت تلك الموجات البدوية الاستيطانية التي استقرت في تلك المدن لتستوقفنا طويلاً لولا أنها قدمت المادة البشرية لبناء أسس التقدم الحضاري الذي قام على أكتاف الأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والآموريين والآراميين والكنعانيين والنبطيين والتدمريين وغيرهم.
من البحر المتوسط إلى الفرات ومن أرض الرافدين حتى بلاد العرب جنوباً سادت -كما هو معروف اللغة الآرامية- وكان انتشارها أكبر بكثير من المجال السياسي الذي امتدت إليه ، واستخدًمَ اصطلاحها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ليدل على اللغات التي تكلمها المستوطنون في الأرض الخصيبة التي كانت قد تمت بنداء دجلة والفرات والعاصي وبردى والأردن، وغيرها من الينابيع والأنهار الممتدة. والحقيقة أن اللغة الآرامية تنتمي إًلى مجموعة لغوية واحدة لكنها متعددة اللهجات.
ففي عام 1781 أطلق عالم اللاهوت النمساوي “شلوتزر” اصطلاح السامية على اللغة العربية الآرامية تجاوزاً، ولأول مرة في مقال نشره عن الكلدانيين. وقد تبنى المستشرقون الأوروبيون هذا الاصطلاح حتى صار شائعاً ومتداولاً في الأوساط العلمية حتى الوقت الحاضر.
تقرأ الآرامية وتكتب من اليمين إلى اليسار بحروفها القديمة، كالخط المربع منفصلة بعضها عن بعض. كما تتبع أبجديتها ترتيب أغلبية الأبجديات السامية القديمة، أي بمعنى: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، كما تختلف عن العربية بأن لا إعراب لأواخر الكلمات في الجمل. وأقرب اللغات القديمة إًليها هي الكنعانية، وبينها وبين العربية عناصر مشتركة كثيرة في النطق والمفردات والتصريف.
لعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إن اللغة الآرامية كانت قد شكلت وحدة ثقافية لغوية بقيت منتشرة برغم كل التأثيرات، ولعبت دوراً مهماً في وحدة المشرق القديم، واستمرت بقوتها حتى بدايات العهد الإسلامي، وبالآرامية تأثرت بعض اللغات بما فيها العربية.
تطورت الآرامية ليتوصل أهلها لكتابة خاصة بهم في منتصف القرن السابع قبل الميلاد بالترتيب الأبجدي كما ذكرنا سابقاً. وعندما انهارت الإمبراطورية الآشورية مع نهاية القرن السابع قبل الميلاد تحت ضربات التحالف الميدي الكلداني، ازدادت أهمية الآرامية كلغة دبلوماسية دولية وأصبحت تشكل مع الإمبراطورية الاخمينية إحدى لغات الأدب والإدارة والحكم بخطها اليدوي.
بعد سقوط الدولة الفارسية الأخمينية فقدت الآرامية السند الذي جعلها لغة خطية رسمية متجانسة ذات لهجة موحدة في مختلف الولايات، وبدأت تتراجع أمام اللغة اليونانية لفترة زمنية محدودة ليتبدل الحال من جديد وتحتل مكاناً مرموقاً في المشهد الثقافي للعالم المشرقي القديم.
إن معلوماتنا عن الآرامية الموغلة في التاريخ القديم محصورة في بعض النقوش والكتابات المكتشفة حديثاً، وهي أثر من آثار الحضارة الآرامية القديمة في مناطق بلاد آرام. ولإسم آرام هذا، أو آرامي، صلة بالسمو والسيادة والارتفاع، وقد أطلقت هذه الكلمة في بادئ الأمر على المنطقة الشمالية لبلاد الرافدين حيث انتشر الآراميون قبل أن يؤسسوا ممالكهم في العراق وسورية والأردن وغيرها.
وتعود هذه النقوش في أغلبيتها إلى القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، وقد نقشت بالقلم الكنعاني الجنوبي مع بعض المفردات الآرامية ومن بينها: نص منقوش على مذبح نذري عثر عليه في غوزانا (تل حلف حالياً في سورية)، والتي كانت عاصمة لمملكة بيت بختياني الآرامية ويعود تاريخها إلى القرن التاسع قبل الميلاد. ونص مسلة زاكير، ملك مملكة حماة الآرامية. وقد وجدت المسلة في آفس الواقعة بالقرب من سراقب جنوبي حلب، ويرجع تاريخها إلى منتصف القرن التاسع قبل الميلاد.
نصوص منقوشة على عدة مسلات اكتشفت في منطقة (السفيرة) جنوبي شرقي حلب، وتعود إلى منتصف القرن التاسع قبل الميلاد. ونصوص أخرى منقوشة على لقى أثرية عدة عثر عليها في زنجرلي عاصمة دولة سمأل الآرامية. والنقوش الآرامية في تل الفخار. وقد تبلورت الثقافة الآرامية في عدد من ممالك آرام. وتعد نصوص قمران أو مخطوطات البحر الميت الآرامية من أهم ما عثر عليه في عقد الأربعينيات من القرن المنصرم، ويرجح أنها تعود تاريخياً إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وهي مخطوطات كتبت بالآرامية والعبرية عثر على عدد منها في مُغر قريبة من البحر الميت عام 1947م وقد أدى الكشف عن مضمونها بمقارنتها بنصوص ممماثلة لها في لغات شرقية أخرى معاصرة.
من بين نصوص البحر الميت التي عثر عليها أربع مخطوطات من سفر طوبيا، وليس من شك في أن هذا السفر كان قد كتب، أول الأمر باللغة الآرامية، ومن المحتمل أن ذلك كان ما بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد. وهناك أيضاً سفر أخنوخ، الذي يضم الكتاب السماوي وكتاب الحراس وكتاب الأمثال وكتاب الحكماء ورسالة أخنوخ وغيرها من الكتب.
كان الآراميون اقتبسوا أبجديتهم من الكنعانية الجنوبية كوسيلة للكتابة، وطوروها في ما بعد وفق متطلبات لغتهم متأثرين بالوسائل المستعملة في الكتابة من القلم المعدني أو الخشبي، وكذلك بالكتابة على ورق البردي أو الفخار أو جلد بعض الحيوانات. إلا أنهم كانوا قد هجروا اللغة الكنعانية بسرعة مذهلة، واستعملوا لغتهم الخاصة بهم.
وعندما نقول بأن الآراميين تأثروا بالكنعانية لغة وكتابة فهذا لا يعني أنهم هجروا لغتهم نهائياً. فمنذ القرن الثامن قبل الميلاد بدأنا نلاحظ بأن الآراميين راحوا يستعملون لغتهم الخاصة بهم بأحرف كنعانية قبل أن يطوروا كتابة خاصة بهم، وسنجد اعتباراً من القرن الرابع قبل الميلاد نماذج عديدة من الخطوط الآرامية.
ففي بلاد الرافدين وعلى أرض سورية والأردن وفلسطين كانت الآرامية قد تطورت مولدة لهجات محلية عدة مع كتاباتها الخاصة بها، حيث يتجه الرأي العام لدى الباحثين إلى تقسيم اللهجات والكتابات الآرامية إلى أقلام اعتباراً من القرن الأول ق.م وذلك بتوزيعها على مجموعتين أساسيتين: المجموعة الشرقية وتضم السريانية، لهجة تلمود بابل، المنداعية، لهجة مدينة حران. والمجموعة الغربية وتحتوي على اليهودية الآرامية، الآرامية المسيحية الفلسطينية، النبطية والتدمرية.
هنا نود أن نلقي أضواء على ما بقي متداولاً حتى هذا اليوم من الآرامية. فما زال قسم من السكان القاطنين بين بحيرة “وان” الواقعة جنوب شرقي تركية وبحيرة “أورميا” في إيران وهم ينطقون لهجات آرامية ويعتنقون المذهب النسطوري (نسبة إلى الكاهن نسطوريوس بطريرك القسطنطينية 386-451م الذي نادى بمبدأ الطبيعتين الإلهية والبشرية).
يحتفظ المسيحيون اليعاقبة (أنصار المفكر الديني يعقوب بارادوس الذي نادى بوحدة طبيعة المسيح) الذين يقيمون في جبال طور عابدين الواقعة بين نصيبين وديار بكر بلهجة آرامية. وما زال يوجد أيضاً الكلدانيون ونعني بذلك أولئك الذين يقيمون شمال الموصل ولغتهم هي ضربّ من الآرامية.
للهجات الثلاث علاقة بالسريانية القديمة (لهجة مدينة الرها والرها: أو رهي بالآرامية، وأوديسا باليونانية ويطلق عليها اليوم بالتركية اسم أورفا وهي تقع في تركيا). ويسميها البعض الآرامية الشرقية الحديثة. وهي بعيدة عن اللهجة الآرامية القديمة إلا أنها تطورت واغتنت بمفردات بعض اللغات التي عاصرتها مع مرور الزمن كالآرامية والتركية والفارسية والعربية.
هناك لغة آرامية سائدة هي اللهجة المحلية لسكان بعض القرى السورية (شمالي دمشق)، هي “معلولا وبخعا جب عدين”. وعندما نصغي للمحليين وهم يتحدثون، نلحظ أن المفردات العربية قد دخلتها بصورة كثيفة، ونلحظ أيضاً أن تركيب الجملة هو أقرب إلى الآرامية من العربية كما أن النطق هو أقرب إلى اللسان الآرامي من اللسان العربي.
بقلم الدكتور هايل الدهيسات