ألقى الدكتور الراحل يعقوب نامق محاضرة عن دور السريان العلمي وذلك بتاريخ ( 12/ 12/ 1993 ) من على مدرج الجامعة الأمريكية ببيروت حيث تحدث عن دور السريان في العلوم النظرية والتطبيقية وقد اكتسبت المحاضرة أهميتها كونها ألقيت من قبل دكتور في الكيمياء وفيما يلي نص المحاضرة كاملاً . يتصف القرن العشرين بما سمي \” تفجر المعرفة العلمية والتكنولوجية \” . ويقال أن ما ينشر من هذه المعرفة في سنة واحدة بجميع اللغات يحتاج الفرد الواحد مئة سنة لقراءتها دون التوقف ! وهذا لا يعني أن المعرفة الحديثة غير مترابطة بالمعرفة السابقة ، إذ أنها تنمو منها وتتسع . وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر قول اسحق نيوتن وهو في أوج إنتاجه العلمي ، إذ قال بأنه توصل إلى ما توصل إليه لأنه كان يقف على أكتاف العلماء العمالقة الذين سبقوه . كما وأنه يتضح لكل باحث متبصر بتاريخ العلوم ونموها أن المستوى المتقدم الذي وصلت إليه العلوم في زماننا الحاضر يقوم على كونها قد تأسست على التراث العلمي العظيم الذي تركته الشعوب في موكب التاريخ .
يسرني في هذه الأمسية أن استعرض معكم نظرة شاملة على دور السريان العلمي وأبين لكم مدى إسهامهم في تقدم العلوم الطبيعية ، النظرية منها والتطبيقية ، دون التطرق إلى العلوم الإنسانية أو الدينية اللاهوتية . تجدر الإشارة إلى أن العلوم الطبيعية تشمل أيضاً الرياضيات ، لما بينهما من ترابط عضوي في مراحل النمو المختلفة . كما وإني أؤكد لكم أن هذه النظرية الشاملة هي نظرة علمانية موضوعية صادرة عن شخص علماني وليس عن رجل دين .فقد سعيت ألا يتداخل انتمائي الطائفي مع الحقائق التاريخية . ولكن لا أخفي عليكم بأنني أعالج موضوع هذا البحث من منظور إيماني بعظمة التراث السرياني في مجرى الحضارة البشرية . وقبل البحث بدور السريان العلمي يجب عليّ أن أوضح الخلفيات التاريخية مشيراً بصورة خاصة إلى دور الملل التي تكون منها السريان ، والأماكن التي قام فيها نشاطهم العلمي بصورة رئيسية .
تكون الشعب السرياني
بدأ انتشار القبائل الآرامية في منطقة الهلال الخصيب ، أي بلاد ما بين النهرين وسورية والسواحل الفينيقية والأردن وفلسطين وشمال الجزيرة العربية ، وذلك في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد أي حوالي ( 1500 ) ق . م . وبمرور الزمن أصبح الآراميون يكوّنون الشعب السائد في الإمبراطوريات الآشورية والبابلية والكلدانية . كما أن اللغة الآرامية أصبحت اللغة المحكية في هذه الأقطار رُغم تعدد لهجاتها . وقد تفرع من الآراميين فرع هو الشعب العبراني اليهودي . لم يستطيع الآراميون أن ينشئوا دولة آرامية موحدة : بل ظلوا دويلات وإمارات صغيرة ، نذكر منها على سبيل المثال : آرام نهرين ( الواقعة بين نهري الخابور والفرات ) ، وآرام فدان وعاصمتها مدينة حران ، وآرام دمشق وعاصمتها دمشق . ويجدر بنا أن نذكر أن اللغة الآرامية القديمة توسعت إلى درجة حتى أصبحت لغة التداول الدبلوماسي في عهد الإمبراطورية الفارسية بعد سقوط بابل .
وفي خلال انتشار المسيحية في هذه الديار واعتناق الشعوب الآرامية والآشورية والكلدانية الدين المسيحي ، نبذ هؤلاء التسميات القديمة ، الآراميون مثلاً ، لأنه أصبح يدل على الوثنية ، فسموا أنفسهم سريان ( ܣܘܪ̈ܝܝܐ ) لكون المسيحية أتت إليهم من سورية . كما أن اللهجة الآرامية المتداولة في مدينة الرها وجوارها تطورت ، لأسباب سنذكرها فيما بعد ، وصارت اللغة الأدبية والكنسية لجميع السريان أينما كانوا فعرفت باللغة السريانية إلى يومنا هذا . واقتبس الآراميون الكتابة من إخوانهم الفينيقيين في لبنان ، وطورّ السريان الحروف الفينيقية إلى الشكل المعروف بالاسطرنجيلي ونشروها بعدئذ في بلدان الشرق الأدنى وفي بعض أقطار آسيا بعدما بسّطوا كتابتها .
انقسم السريان في القرون الأولى من المسيحية إلى فرق عدة أهمها السريان الغربيين ومعظمهم في الأقطار الواقعة ضمن الإمبراطورية البيزنطية وعرفوا المنوفيزيين ، والسريان المشرقيين أو النساطرة ومعظمهم في الأقطار الواقعة ضمن الإمبراطورية الفارسية ، والسريان الحرانيين أو صائبة حران ومركزهم مدينة حران وجواره حيث بقي معظمهم على وثنيتهم الخاصة ، والسريان الموارنة ومركزهم لبنان .
إن العوامل التي أدت إلى هذا التطور التاريخي كثيرة منها سياسية ومنها حضارية دينية . لقد سقطت الإمبراطورية الآشورية في عام ( 612 ) ق . م ثم تبعها سقوط الإمبراطورية البابلية الكلدانية على يد داريوس الفارسي في عام ( 538) ق .م . ومن ثم سقطت الإمبراطورية الفارسية الأولى في عام ( 330 ) ق . م على يد اسكندر الكبير المقدوني وجيوشه الإغريقية . وقبل هذا الحادث التاريخي الهام كانت اللغة الآرامية ، كما ذكرنا قد أصبحت اللغة الرسمية الدولية لكل البلدان الواقعة في الشرق الأوسط . لم يكن احتلال اسكندر الكبير لهذه المنطقة في الشرق احتلالاً عسكرياً فقط بل كان احتلالاً حضارياً أيضاً ، فبدأت الحضارة اليونانية ولغتها تمد جذورها في هذه البلدان .
بعد وفاة الاسكندر الكبير في بابل في عام ( 323 ) ق. م ، انقسم قادته البلدان التي فتحها ، فوقعت بلاد فارس والعراق وسورية وآسيا الصغرى تحت حكم السلوقيين اليونان ، كما وقعت مصر وفلسطين تحت حكم البطالسة اليونان . وكان همهم الأول تأسيس مستعمرات ومعسكرات ومدن إغريقية وتغيير أسماء المدن المزدهرة إلى تسميات يونانية ، مثال ذلك مدينة الرها التي أصبحت تعرف ب أوديسا . كما تأسست المدن الشهيرة : الإسكندرية في مصر ، وأنطاكية في سورية ، وسلوقية ( المدائن ) في العراق بالقرب من بابل .
لم يقف في وجه السلوقيين قوة كبرى سوى دولة البارثيين الفرس في شمال إيران ، فكانت المعارك تحتدم بين السلوقيين و البارثيين بين فترة وأخرى . دام حكم السلوقيين في سورية حتى مجيء الرومان في عام ( 64 ) ق . م . أما دولة البارثيين فدامت حتى أوائل القرن الثالث للميلاد ومن ثم انتقل الحكم الفارسي إلى الساسانيين ، فكان هؤلاء يشنون الحرب على الرومان ، فأصبحت بلاد ما بين النهرين ساحة مفتوحة للمعارك القائمة بين هاتين القوتين ، فنزلت الويلات بمناطق السريان ومدنها من جراء ذلك .
ورغم المنافسة والحروب التي كانت قائمة بين الفرس البارثيين و السلوقيين ، ثم بين الساسانيين والرومان ، فقد تكوّنت دويلات وطنية مستقلة أو شبه مستقلة في ما بين النهرين وسورية والأردن . من هذه الدويلات نذكر مملكة الرها ، مملكة تدمر ، ومملكة الأنباط في بتراء ، ومملكة الغساسنة في حوران . ومملكة الحيرة في العراق .
التفاعل بين الحضارة الآرامية السريانية والحضارة اليونانية :
بعد الفتح الاسكندري للشرق الأدنى ومصر أخذت اللغة اليونانية والثقافة اليونانية تنتشران بسرعة بين شعوب هذه المنطقة . وكان لمكتبة ومدرسة الإسكندرية دوراً هاماً في التقاء الثقافات والمعارف المختلفة : اليونانية والبابلية والمصرية .
لقد طُمر القسم الأعظم من المعرفة البابلية وثقافتها تحت أنقاض القصور والمعابد والمدن التي هدمت وتلف كذلك ما كتب بالآرامية على الرق وعلى أوراق البردي ، ولكن بقي منها الكثير في حافظة الشعوب الآرامية والسريانية فيما بعد وقد ظهرت هذه الكنوز الحضارية للعيان منذ بدء الحفريات الأثرية في أوائل القرن الماضي ، فأدهشت العالم المعاصر !
يقول جورج سارتون في كتابه عن تاريخ العلوم أن علم الفلك اليوناني هو من أصل بابلي في أكثر أمره ، وكذلك الحال في الرياضيات . فاستمرار التأثير البابلي ظاهر بشكل رائع إلى يومنا هذا في النظام الستوني في التوقيت وحساب المثلثات . وكذلك معظم نظريات فيثاغورث منقولة عن الهندسة البابلية .
يذكر فيليب حتي أن الفلكي سلوقوس الكلداني الذي عاش في المائة الثانية قبل الميلاد كان يدافع عن اعتقاده بأن الشمس هي مركز الكون وليس كما قال بطليموس بأن كوكب الأرض هو مركز الكون . وكذلك وضع سلوقوس الكلداني نظريات صحيحة عن علاقة القمر بحدوث المد والجزر على السواحل البحرية .
وخلاصة القول ، أنه من المرجح أن الكثير من المعرفة العلمية الصحيحة انتقل من بلاد ما بين النهرين ومصر إلى اليونانيين عندما احتك هؤلاء بشعوب هذه البلاد قبل الفتح الاسكندري وبعده ، فنقل علماء مدرسة الإسكندرية هذه المعرفة في مصنفاتهم دون الاعتراف بهذا الواقع . وكتب بهذا المعنى تاثيان الرهاوي المعروف بالآثوري والذي عاش في القرن الثاني الميلادي في مدينة الرها ، في مقالة \” ضد الأفارقة \” قائلاً أن اليونان لم يكتشفوا شيئاً وأنهم انتحلوا جميع معارفهم من أمم أخرى ، كالآشوريين والفينيقيين والمصريين وأن تفوقهم إنما يتجلى في إتقان الكتابة .
تجدر الإشارة إلى أن معارف الشرق القديم التحمت بالمعارف اليونانية : العلوم والرياضيات والفلسفة ، وذلك من خلال النشاط الثقافي في مدرسة الإسكندرية ومتحفها ومكتبتها . وبعدما أصبح معظم العاملين في هذه المؤسسة مسيحيين ، أخذ هؤلاء يقومون بالتنسيق بين المعارف والفلسفة اليونانية وبين اللاهوت المسيحي ، فنتجت عن ذلك ثقافة متطورة سميت بالثقافة الهلينستية . وكان من الطبيعي أن يعمل معظم الآباء السريانيين في إطار هذه الثقافة إذ كان إعجابهم بفلاسفة اليونان وخاصة أفلاطون وأرسطو كبيراً جداً .
يتبع…
بقلم الدكتور يعقوب نامق
الدكتور يعقوب رزق الله نامق ( 1924 – 2000 )
– من مواليد أورفا ( الرها ) عام ( 1924 )
– حصل على الثانوية العامة عام ( 1948 ) من معهد حلب العلمي بحلب وعلى بكالوريوس في العلوم (الكيمياء ) من الجامعة الأمريكية ببيروت عام ( 1956 ) وعلى الماجستير في تدريس العلوم عام ( 1958 )
– حصل على درجة الدكتوراه بامتياز في اختصاص تدريس العلوم عام ( 1968) من جامعة ويسكونسين -الولايات المتحدة الأمريكية .
– شغل منصب بروفيسور مساعد خلال الفترة ( 1964 – 1994 ) في الجامعة الأمريكية ببيروت ، ومنصب عميد كلية العلوم والرياضيات أعوام ( 1984 وحتى 1990 ) .
– ألف ووضع مناهج تدريس مادة العلوم للمدارس ( المرحلة ) الابتدائية والتي تم تدريسها في لبنان بدءً من عام ( 1972 ) وفي السودان عام ( 1973 ) وفي السعودية عام ( 1975 ) وفي البحرين عام ( 1984 ) .
– عضو مؤسس ل المركز التنموي للبحوث والإنماء في لبنان .
– عضو محترفي الهيئة الوطنية لمدرسي العلوم والهيئة الوطنية لتدريس العلوم وهيئة مدرسي العلوم – لبنان .
– عضو قيادة الفرقة ( 171 ) بحلب لكشاف سورية ( 1941 – 1946 ) ، ثم عميد الفوج السادس بحلب لكشاف سورية وقائد فرقة الأنصار حتى عام ( 1953 ) . وأمين سر اللجنة المركزية لمفوضية حلب لكشاف سورية ( 1947 – 1953 ) . رئيساً لجمعية النجمة بيروت دورتين .