إن عنوان كل أمة راقية مكانتها الأدبية ومعالم حضارتها وعمرانها. فمن الأمم القديمة التي يحق لها أن تفاخر سائر الأمم وتنافسها في تلك المزايا الفريدة الأمة السريانية ذات الإحسان العميق على العلوم والآداب والفنون. وما الآثار التي خلفتها في تلك المناحي إلا برهان على ما أسدته للعالم قاطبة في الأزمان الغابرة من علم و ثقافة. ففي تواريخ البشر القديمة والحديثة لا تجد عصراً كعصر السريان اشتهر فيه السريان في تصنيفهم وترجماتهم الفلسفية والطبية والتاريخية ونقلها من اليونانية إلى اللغة العربية عن طريق شقيقتها السريانية ، وإن التلاحم بين اللغتين الشقيقتين السريانية والعربية أدى إلى تمتين أواصر الأخوة بين الناطقين بهما . ويقول البطريرك يعقوب الثالث عن العلاقة بينهما :
(إنهما اللغتان العريقتان اللتان تفرعتا عن الدوحة السامية الكبرى ).
المدارس السريانية
أنشئت المدارس السريانية منذ دخول الآراميين ( السريان ) في النصرانية فانتشرت بينهم انتشاراً كبيراً جعلتهم في طليعة شعوب الشرق بالثقافة والبلاغة وناهيك بما أنتجته تلك المدارس الذائعة الصيت آنذاك من العلماء والأعلام العظام الذين ذاعت شهرتهم شرقا ً وغرباً . فإلى جانب التعليم الديني واللاهوتي وشروحات الكتاب المقدس والقوانين والطقوس والموسيقى الكنسية نرى في هذه المدارس صفحات هامة في اللغة والصرف والنحو والترجمة والشعر والتاريخ والطب والفلسفة والعلوم الطبيعية والفلك والجغرافيا والرياضيات والكيمياء ، لقد كانت باختصار جامعة تضم كافة العلوم الدينية والدنيوية .
لقد أسس السريان في كل مدينة أو قرية استوطنوها مدرسة أو أكثر حتى بلغ عدد مدارسهم في كل بلاد ما بين النهرين وحدها زهاء خمسين مدرسة من أرقى المدارس وأوسعها. قال البحاثة أحمد أمين ( كان للسريان في بلاد ما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تعلم فيها كافة العلوم باللغتين السريانية واليونانية وكانت هذه المدارس تتبعها مكتبات فيها الكثير من الكتب المترجمة في الدين والفلسفة والطب وجميع العلوم اليونانية ( أرسطو – جالينوس – ابقراط ………).
هكذا اتسع نطاق الثقافة عند السريان حتى فاق عدد مؤلفيهم في العصر الذهبي (العصر العباسي) على أربعمائة كاتب ومؤلف وبلغت مؤلفات بعضهم ثلاثين أو أربعين كتاباً ولعل هناك مؤلفين وكتبة ضاعت أسماؤهم بضياع مؤلفاتهم بسبب الحروب والزلازل والفتن .
أما أشهر المدارس في ما بين القرنين الرابع والعاشر للميلاد فهي مدارس : أنطاكية – والرها – نصيبين – ومدرسة دير زوقنين – ومدرسة قرتمين – ومدرسة قنسرين قرب مدينة جرابلس – ومدرسة دير العامود بالقرب من رأس العين ودير مار حنانيا وهو دير الزعفران قرب ماردين والعديد من المدارس والأديرة قرب مدينة ملاطيا وغيرها ……
وكلها من المدارس الفكرية المهمة التي تركت أثراً كبيراً في موضوع التلاحم الحضاري للشعوب والأقوام التي عاشت في منطقتنا.
وهذا تعريف مبسط في بعض المدارس السريانية الشهيرة :
1- مدرسة الرها
ازدهرت هذه المدرسة التي أنشأها ملوك الرها ( الأباجرة ) ازدهاراً رائعاً منذ القرن الثاني الميلادي حتى القرن الخامس ونبغ فيها عدد كبير من المشاهير نذكر منهم : برديصان ( 154-202م ) والفيلسوف وافا وفي القرن الرابع تولى رئاستها مار أفرام الكبير (373م ) نبي السريان ثم رابولا أسقف الرها (425م ) ثم يهيبا (457م) .
2- مدرسة نصيبين :
اشتهرت مدرسة نصيبين الكبرى في القرن الرابع وعاشت حتى القرن السابع وقد علم في هذه المدرسة مار أفرام ونرساي الشهير (507م) وباباي الكبير (627م) والعديد من مشاهير الأساتذة وقد كان لها نظاماً فريداً من نوعه اعتمده معظم المدارس السريانية فكان لها رئيس ومعلمين ومهجي ومقرئ يعلمون الطلاب القراءة والكتابة بالإضافة إلى العلوم والآداب .
3- مدرسة أنطاكية وجوارها :
من مدارس السريان الزاهرة مدرسة انطاكية الكبرى ومدرسة دير مار بسوس الذي سكن فيه أيام عزه ستة آلاف وثلاثمائة راهب ،ثم مدرسة دير تلعدا الذي درس فيها مار يعقوب الرهاوي ومدرسة دير الجب وغيرها واشتهر في تلك المدارس اسحق الإنطاكي (406م) ويوحنا فم الذهب والبطريرك بولص الثالث (575م) وغيرهم .
4- مدرسة قنشرين :
اكتشفت آثار هذه المدرسة منذ سنتين وقام بتأسيسها يوحنا بن افتونيا (538م ) وتقع قرب جرابلس ومن أهم جهابذتها البطريرك اثناسيوس الأول (631م ) وتوما الحرقلي الذي نقل عام 616م العهد الجديد عن اليونانية إلى السريانية والفيلسوف الكبير سوبرا سابوخت الفيلسوف والعالم الرياضي والفلكي والموسيقي وله مقالة في جهاز الاصطرلاب الفلكي . وبعد تخرجه أصبح أستاذاً فيها .
5- مدرسة رأس العين :
اشتهر أمر هذه المدرسة في العصر الذهبي ( عصر الرشيد 809م والمأمون 833م ) وكان مركزها على ضفاف نهر الخابور بين رأس العين والحسكة بالقرب من قرية مجدل ومن أشهر علمائها سرجيس الراسعيني (526م) امام عصره في الطب والمنطق والفلسفة حيث كان له حوالي ثلاثين مؤلفاً في الطب .
ونكتفي بهذا النذر اليسير من المدارس السريانية .
التراجمة والعلماء السريان في الدولة العربية
لم يكتف السريان بنقل العلوم الفلسفية إلى اللغة السريانية بل نقلوها إلى العربية ومن أشهر هؤلاء التراجمة .
– حنين بن اسحق وابنه اسحق وقد سلمهما المأمون رئاسة بيت الحكمة.
– حبيب أبو رائطة التكريتي
– آل بختشوع وتلميذه عيسى بن شهلانا الطبيبان عند الرشيد
– تاوفيل بن توما ناقل ملحمة الالياذة عن اليونانية
– يوحنا بن ماسويه الذي ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة
– يوحنا بن البطريق واسطيفان ابن باسيل وعبد المسيح بن عبدالله الحمصي وإبراهيم بن باكوس وابنه وغيرهم كثيرون .
واختتم كلامي بذكر بعض علماء السريان الذين أصبحوا أساتذة للعلماء العرب فعلى سبيل المثال لا الحصر الراهبان السريانيان روبيل وبينيامين والطبيب العالم يحيى المروزي السرياني ، وقد ألم الفارابي بالسريانية ويحيى بن عدي التكريتي السرياني وانتهت إليه رئاسة أهل المنطق في زمانه وابن الخمار السرياني الطبيب الشهير وغيروهم كثيرون .
ومما تقدم نجد أن السريان لم يكونوا تراجمة أو نقلة الثقافة اليونانية إلى العربية بل هم علماء وأساتذة خرجت العلماء العرب .
ولم يبق لي إلا التغني بهذين البيتين من الشعر المكتوبين فوق مدخل دار الكتب اللبنانية:
للكتب أنشئ مقدس أوحى لنا عصر الرها ومآثر المأمون
في بابه ازدحمت أساطين النهى سعياً وراء الجوهر المكنون
بقلم: المهندس عبود قريو