مراكز النشاط العلمي عند السريان
يمكن تصنيف مراكز النشاط العلمي عند السريان إلى أربع فئات وهي كما يلي :
أ – المدارس أو الكليات التي أسسها السريان منذ المئة الأولى والثانية في بلاد ما بين النهرين وفارس وسورية ، وأشهرها مدرسة الرها ، ومدرسة نصيبين ، ومدرسة السلوقية أي المدائن ، ومدرسة حران ، ومدرسة جندشابور .
ب – الأديرة ومدارس الكنائس التي انتشرت في طول البلاد وأهمها : دير قنسرين على ضفة الفرات الشرقية إزاء مدينة جرابلس ، دير العمود بالقرب من رأس العين في الجزيرة ، دير قرتمين ويعرف بدير العمر ، دير تلعدا الكبير في حلب جوار أنطاكية ، دير مار زكا بجوار الرقة ، دير مار متى ودير مار بهنام بالقرب من الموصل ، دير مار برصوم بالقرب من ملطية ، مدرسة البطريركية الشرقية في بغداد ، ومدارس الكنائس في الحيرة والكوفة وكركوك وأربيل ….
ج – المدارس التي أسسها الفرس والعرب والمغول حيث كان علماء السريان يقومون بأبحاثهم أو يدرسون فيها أو يشتركون في إدارتها ، وأشهر هذه الكليات مدرسة جندشابور في شمال إيران ، وبيت الحكمة الذي أسسه الخلفاء العباسيين في بغداد ، ومكتبة ومرصد مراغا في شمال إيران .
د – المدارس اليونانية الشهيرة حيث عمل فيها بعض علماء السريان ، وأهم هذه المدارس مدرسة الإسكندرية ، ومدرسة أنطاكية ومدرسة أثينا . ويجدر الذكر مرة ثانية أن اليونان بعد الفتح الاسكندري أخذ عددهم يتزايد في هذه الديار ، فسعوا إلى بسط حضارتهم ولغتهم على أهل البلاد الأصليين وساعدهم على ذلك الرومان . استمر البيزنطيون الروم على هذه السياسة فيما بعد .
فكان لا بد من أن تحدث ردة فعل ومقاومة عند الشعوب المتكلمة باللغة الآرامية السريانية ، فتزعمت هذه الحركة في صدر انتشار المسيحية في الربوع الشرقية المدن التالية : نصيبين و الرها وحران ، وكل واحدة منها وقعت مراراً تحت سيطرة السلوقيين والرومان والبيزنطيين حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي . ويجدر الذكر أن هذه المدن الثلاث تقع على إحدى الطرق التجارية الرئيسية قديماً ، إذ كانت تمر بها القوافل الآتية من أو الذاهبة إلى بلاد الصين والهند وإيران .
وكانت حران مدينة مقدسة عند سكان العراق قديماً لأنها كانت أهم مركز لعبادة القمر أو الإله سن ، وبقي الحرانيون على وثنيتهم حتى خراب مدينتهم في القرن الثاني عشر بعد الميلاد . وإلى حران قدم إبراهيم الخليل ومكث فيها مدة لدى نزوحه من أور الكلدانيين قاصداً فلسطين .كما وأرسل إبراهيم عبده إلى حران قائلاً له : \” اذهب إلى حران واختر من بني قومي عروساً لابني اسحق \” . وقد حافظ الحرانيون على قسم كبير من العلوم البابلية في الطب والرياضيات والفلك . وكانت حران جزءاً من مملكة الرها إذ أنها تبعد تقريباً ( 45 ) كم عن الرها العاصمة .
تأسست مملكة الأباجرة في الرها حوالي مئة سنة قبل الميلاد واستمرت مملكة مستقلة أو شبه مستقلة حتى العام ( 217) بعد الميلاد وحسب التقليد السرياني يقال أنه جرى اتصال بين الأبجر الخامس الملقب ( أوكومو ) ويسوع المسيح ، فقدم توما الرسول يبشر المسيحية في الرها وجوارها ومن ثم انتقل إلى الهند حيث أسس الكنيسة السريانية هناك . وتابع التبشير المسيحي في الرها مار أدى . أحد المبشرين السبعين . وهناك دلائل ثابتة على أن أبجر الثامن اعتنق الدين المسيحي هو ومعظم أتباعه في الرها في أواخر القرن الثاني ، وبذلك تكون الرها أقدم مملكة مسيحية في تاريخ الكنيسة .
ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة الآرامية الرهاوية وسميت هذه الترجمة ( بشيطو ) أي المبسطة ، ولما استقر ططيان في الرها في العام ( 170) م ترجم الأناجيل الأربعة بقالب موحد ، وسمى هذه الترجمة( دياطيسرون ) أي من خلال الأربعة ، ودام استخدامها في الكنيسة السريانية حتى أبطلها مار رابولا في أواخر القرن الخامس . وكان ططيان ضليعاً في الفلسفة القديمة اليونانية إلا أن معظم ما كتب فقد . وجاءت من بعده برديصان الذي ولد على نهر برديصان في الرها وترعرع في بلاط أبجر الثامن وصاحب الأمير أبجر التاسع . وكان برديصان نابغة الشعر السرياني فألف القصائد الدينية والدنيوية ولحنها وعلمها للشباب والشابات في الرها وجوارها ، فكان مؤسس الكورس الموسيقي السرياني . وقد توفي برديصان في العام ( 220 ) م . وكان من نتائج الترجمة والمقالات والأشعار والأناشيد التي وضعت جميعها باللغة الرهاوية أن أصبحت اللهجة الآرامية الرهاوية لغة الكنيسة السريانية في جميع أنحاء البلدان فعرفت مذ ذلك الوقت باللغة السريانية إلى يومنا هذا كما ذكرنا . وتجدر الإشارة إلى أن مدينة الرها لا تزال قائمة ومعروفة بمدينة أورفا وهي واقعة في تركيا بالقرب من الحدود السورية التركية .
دور السريان العلمي
لا شك الآن أنكم تتساءلون ما هو دور السريان العلمي ؟ ماذا قدم السريان إلى العلوم النظرية والتطبيقية والرياضيات ؟ وماذا كان إسهامهم في الحضارة الإنسانية ؟
للسريان تاريخ طويل وإنتاج غزير في الكتب الذي ألفوه . وللإجابة عن هذه الأسئلة نحتاج إلى مجلدات عديدة من التدقيق والبحث والمقارنة . ولكني سأوجز لكم في هذه الأمسية ما اعتقد أنه يشكل المآثر البارزة عن دور السريان العلمي .
1- كما ذكرت، كان السريان معجبين أشد الإعجاب بالتراث العلمي والفلسفي عند اليونان والبعض منهم شارك بتطويره إلى مرحلة جديدة عرفت بالهلينستية . فقام علماء السريان بنقل القسم الأكبر من التراث اليوناني إلى لغتهم السريانية بغية احتواء ذلك التراث وتعليمه في مدارسهم . وعندما فَقِدَ الأصل اليوناني كان هذا التراث محفوظاً باللغة السريانية وفي العهد الإسلامي العربي قام السريان بدور الترجمة مرة ثانية. ونقلوا هذا التراث من السريانية وأحياناً من اليونانية إلى العربية، هكذا انتقل هذا التراث إلى أوروبا في القرون الوسطى ومن بعدها، فكان ذلك عنصراً فعالاً في قيام النهضة هناك .
2- لم ينحصر عمل السريان بالترجمة فقط بل قاموا بالشرح والتفسير والتعليق على النصوص ومقارنة محتوياتها بالتراث السرياني وتراث شعوب أخرى . كما أنهم عملوا على التنسيق بين الفلسفة اليونانية والفقه المسيحي . وأشهر من قام بهذه الأعمال سويرا سابوخت ، ومار يعقوب الرهاوي ، وسرجيس ريشعيني ، وحنين بن اسحق ، ويوحنا بن ماسوية ، وابن العبري .
3- قام ملافنة السريان بتعليم عظماء الفلاسفة والعلماء المسلمين فقد تتلمذ الفارابي على يد متى بن يونس في بغداد وثم ليوحنا بن خيلان في حران ، وكذلك الجيل الأول من الأطباء المسلمين تعلموا الطب من الأطباء السريانيين في بيت الحكمة في بغداد أمثال سرجيس بختيشوع وأولاده وحنين بن اسحق.
4- أتقن السريان الطب وبرعوا فيه . نقلوا الطب اليوناني إلى لغتهم وإلى اللغة العربية وأضافوا عليه الكثير من الطب البابلي. ويعتبر الطب السرياني أساس الطب العربي . ومن أشهر أطباء السريان نذكر : حنين بن اسحق ، وسرجيس بختيشوع وأولاده ، وثابت بن قرة الحراني وأولاده.
5- يعتبر جابر بن حيان الحراني مؤسس علم الكيمياء عند السريان والعرب وقد اشتهر أيضاً في علم السيمياء (alchemy) ) . وهو الذي اكتشف كيفية تحضير بعض الأحماض كروح الملح وحامض الكبريتيك، كما أنه حضر عدداً كبيراً من الأملاح الكيميائية. وقد اشتهر بعض ملافنة السريان في الكيمياء أيضاً وكتبوا مصنفات في العقاقير الطبية.
6- وللسريان دور هام جداً في تطوير الرياضيات وعلم الفلك ، وبرع الحرانيون خاصة بهذه العلوم لأنهم كانوا ضليعيين في الرياضيات والفلك البابلي . وأشهر العلماء في هذا الحقل هم ثابت بن قرة وأولاده ، ومحمد بن جابر بن سنان البتاني ( توفي 929 م ) وهو حراني اعتنق الدين الإسلامي . ويُعد البتاني من عظماء الفلكيين والرياضيين في العالم .
وتجدر الإشارة بكل فخر إلى أن سويرا سابوخت ، رئيس دير ومدرسة قنسرين كان مطلعاً على الرياضيات الهندية وهو أول من أدخل الأرقام الهندية إلى الأوساط السريانية وكتب عن مميزاتها ، فأخذ العرب هذه الأرقام عن سابوخت وليس عن الهنود مباشرة . وكذلك تجدر الإشارة إلى أن مار يعقوب الرهاوي الذي كان تلميذ سابوخت استنبط الأرقام المعروفة بالأرقام العربية السورية ومنه أخذ الأمويون هذه الأرقام معهم عندما انتقلوا إلى الأندلس ومن ثم انتقلت هذه الأرقام إلى أوروبا وتطورت إلى الشكل المستعمل في عصرنا الحاضر.
7- رغم استخدام السريان الأرقام الهندية أو السورية في الرياضيات والفلك فقد استمروا على استخدام الأحرف السريانية الفينيقية في تسجيل التواريخ وفي حساب الجمل في أشعارهم . ولا يزال هذا التقليد مستخدماً في العربية لبيان ترتيب المقاطع في النصوص المكتوبة أو المطبوعة ومثال ذلك إننا نكتب ( ا ، ب ، ج ، د ، ه ، … ) وليس ( ا ، ب ، ت ، ث …..) .
8- عندما انتشرت إرساليات السريان المشرقيين في الأقطار الأسيوية حمل الرهبان معهم الخط السرياني مما أدى إلى اشتقاق الخطوط المغولية والتترية والتركية القديمة في أواسط آسيا من الحروف السريانية الفينيقية . وتجدر الإشارة إلى أن بعض الرهبان السريان في الصين أخذوا التقليد الصيني فكتبوا السريانية بخطوط عمودية، من الأعلى إلى الأسفل وليس من اليمين إلى اليسار .
9- لقد تأثرت اللغة العربية الفصحى بالسريانية بالنواحي التالية : دخول ألفاظ سريانية عديدة إلى اللغة العربية وطبعاً منها المفردات العلمية. وثانياً، تنظيم الصرف والنحو العربي على مثال نظام الصرف والنحو عند السريان . ويقال أن سيبويه تعلم ذلك من يوحنا بار ماسويه. وثالثاً ، اشتق الخط العربي الكوفي خاصة من الخط السرياني .
10- كان السريان أصحاب تقنيات صناعية وزراعية وهندسية ويدوية في جميع مراحل تاريخهم الطويل . فاشتهروا بصناعة السجاد ، والتطريز ، ودبغ الجلود ، وتحضير الرق للمخطوطات ، وحياكة النسيج ، وصناعة الفخار ، وتحضير الأدوية والمأكولات ، وإلى هناك من انجازات . وقد ابتكروا الكثير من هذه التقنيات الحرفية ، وأخذت عنهم الشعوب التي اتصلت بهم . ويكفي أن أذكر لكم أن القماش المسمى \” موصلين \” وهو ابتكار قام به سريان الموصل في شمال العراق ، وكذلك مشتقات البرغل والمأكولات التي تحضر منه .
نقرأ في لإنجيل متى الإصحاح الحادي والعشرين ما يلي عن يسوع المسيح : \” وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع . فنظر شجرة تينٍ على الطريق وجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلا ورقاً فقط . فقال لا يكن ثمر بعد إلى الأبد . فيبست التينة في الحال \”
هذا هو دستور الحياة، فمن لا ثمرة له لن يعيش في هذا العالم. يوم كان العلماء السريان وكنائسهم يقدمون الثمار الحضارية، كانت الشعوب الأخرى تقدرنا وتتعلم منا، فكنا نعيش في هذه الربوع معززين مكرمين رغم الكوارث والاضطهادات العديدة . وإذ حفظنا التاريخ حتى يومنا هذا، ويجدر بنا أن نتمسك بواقع العلم الحديث والتقنيات المعاصرة كي نسير نحو حياة أفضل مع الشعوب المتقدمة .
بقلم: الدكتور يعقوب نامق
الدكتور يعقوب رزق الله نامق ( 1924 – 2000 )
– من مواليد أورفا ( الرها ) عام ( 1924 )
– حصل على الثانوية العامة عام ( 1948 ) من معهد حلب العلمي بحلب وعلى بكالوريوس في العلوم (الكيمياء ) من الجامعة الأمريكية ببيروت عام ( 1956 ) وعلى الماجستير في تدريس العلوم عام ( 1958 )
– حصل على درجة الدكتوراه بامتياز في اختصاص تدريس العلوم عام ( 1968) من جامعة ويسكونسين -الولايات المتحدة الأمريكية .
– شغل منصب بروفيسور مساعد خلال الفترة ( 1964 – 1994 ) في الجامعة الأمريكية ببيروت ، ومنصب عميد كلية العلوم والرياضيات أعوام ( 1984 وحتى 1990 ) .
– ألف ووضع مناهج تدريس مادة العلوم للمدارس ( المرحلة ) الابتدائية والتي تم تدريسها في لبنان بدءً من عام ( 1972 ) وفي السودان عام ( 1973 ) وفي السعودية عام ( 1975 ) وفي البحرين عام ( 1984 ) .
– عضو مؤسس ل المركز التنموي للبحوث والإنماء في لبنان .
– عضو محترفي الهيئة الوطنية لمدرسي العلوم والهيئة الوطنية لتدريس العلوم وهيئة مدرسي العلوم – لبنان .
– عضو قيادة الفرقة ( 171 ) بحلب لكشاف سورية ( 1941 – 1946 ) ، ثم عميد الفوج السادس بحلب لكشاف سورية وقائد فرقة الأنصار حتى عام ( 1953 ) . وأمين سر اللجنة المركزية لمفوضية حلب لكشاف سورية ( 1947 – 1953 ) . رئيساً لجمعية النجمة بيروت دورتين .