كتبتُ في المرحلة القريبة الفائتة، بعض الكتابات والمقالات التي تدور حول مستجدات واقع الشرق المرير، هذا الشرق الغائص بالذهب الأسود والمعارك السوداء أيضاً، معارك وصراعات حمقاء، حملَتْ مقالاتي العناوين التالية، حصار الأطفال قباحات آخر زمان، عربٌ ما بين الهواءِ والهواء، بداية الفيّة دمويّة ومنحطّة للغاية، أيُّها الإنسان إلى أين؟! انشراخ في رؤى سادةِ القوم، السلام أوّل اللُّغات وآخر اللُّغات، صراع الحضارات هو صراع القباحات، إعادة صياغة رؤى الإنسان، العراق بلد الحضارات إلى أين؟ التَّوهان عن الهدف، رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، ماتَ الشرق .. ماتَ الغرب .. ماتَتِ القيمُ! وغيرها من المقالات الناجمة عن الحالة ما فوق القرفية، المفرَّخة في دنيا الشَّرق والمتطايرة شراراتها من جشاعةِ الغرب!
عندما شاهدتُ ما شاهدتمونه على الشاشة الصغيرة، حول تفجيرات كاتدرائية سيِّدة النَّجاة في حي الكرَّادة في بغداد، صُعقتُ تماماً، وشعرتُ أن بعض البشر يتضاءل حجمهم ورؤاهم الإنساني وتتطاول أنيابهم كأنّهم من فصيلة الحيتان ومجانين آخر زمان، وكأنَّ حل مشاكل الشرق أو الغرب يتم حلّه من خلال نموّ أنياب البشر.
قبل أن أخوض في تقديم وجهات نظري فيما رأيته وأراه، أودُّ الإشارة إلى أنَّني لستُ راضياً على ما تقوم به الدول العظمى ولا الدول الصغرى ولا دول الكون برمَّتها في نهج سياساتها فيما يتعلق بالشرق المرير، هذه السياسات التي أوصلتنا إلى واقع الحال الحالي، لأن الغرب الأميريكي لا يفهم قراءة واقع الشرق ورؤى الشرق وتخلُّف الشرق وعادات الشرق وسياسة الشرق وجهل الشرق وأديان الشرق وبناء الشرق وديمقراطية الشرق وتوجُّه الشرق وصراعات الشرق وتناقضات الشرق وعبثية الشرق وغيبيات الشرق وتركيبة الشرق وتوهان الشرق بما يناسب الشرق، لهذا يقع الغرب في مطبَّات لا حصر لها عندما يَتدخَّل في صراعات الشرق، وهو غير قادر على معالجة هذه التنافرات بالطريقة الغربية، لأن الشرق هو شرق والغرب هو غرب وكل جهة من جهات العالم تنمو وتتطوَّر بطريقة مختلفة كلياً عن الأخرى، ولا يجوز نهائياً أن نطبِّق ديمقراطية الغرب على دولة مثل العراق ضمن الظروف الحالية المريرة التي مرّ بها على مدى عقود من الحرب والبطش والقمع والإرهاب، فولد لدى الكثير الكثير من الشعب العراقي شغف كبير نحو الإرهاب المضادّ لِمَا يعانيه من جورٍ وإضطهاد.
أتساءل، أيّة ديمقراطية تريد أن تطبِّقها أميريكا في العراق، وهو غائص بتصفية حسابات وصراعات دموية، يحتاج إلى قرن بل أكثر ليصفِّي حساباته بين فرقائه وملله ومذاهبه وأقوامه وأديانه، حسابات مشحونة برؤى مقعّرة تصبُّ في حروبٍ غارقة ببحيرات الجنون؟! وقد تفاقمَت هذه الرؤى المتناحرة نتيجة سنوات وعقود من القمع والاضطهاد والديكتاتورية، وتشرّب المواطن المشروخ الرؤية، رؤى انتقامية مسمومة، مدافعاً تارةً عن تياره ومذهبه وقومه وحزبه وولائه لمن ينتمي إليه، وطوراً عن غبائه المستفحل نتيجة تفاقمات الحروب وخلخلة حضارة العراق وأخلاق العراق وعراقة العراق، وقد ترعرعَتْ هذه الولاءات بشكل مريض، لانها لم تنمُ أغلب هذه التيارات والمذاهب والأقوام والأحزاب والولاءات والعقائد وردود الأفعال الانتقامية الغبيِّة الشنيعة بشكل سويّ وطبيعي وحضاري وإنساني وديمقراطي، وأغلب هذه التكتلات والتيارات والمذاهب تحاول أن تثبت وجودها حتى ولو على حساب جماجم غيرها فأصبح الجميع ضدّ بعضهم بعضاً حتى النّخاع، وأستطيع أن أؤكِّد أن الشَّعب الآشوري السرياني الكلداني وأقلِّيات قليلة أخرى هم أوّل الضحايا على إمتداد كافّة المراحل، وخاصة في الوقت الراهن، لأنهم الحلقة الأضعف والأقل قوةً ومواجهةً، لأنهم الأقلية المهلهلة والتي جلّ تفكيرها ينصبُّ على البحث عن السلام والوئام والمحبّة والمسامحة بحسب ما تشرَّب هذا الشعب من قيم دينية سمحاء حتى أنه بدأ يردِّدُ ويطبِّق قول السيد المسيح، “أحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم، .. اكنزوا لكم كنوزاً في السماء، .. ومملكتي ليست من هذا العالم ..” وهناك الكثير من الآيات التي تشجِّع هذا الشعب المسامح على الانقراض والفناء في ظل نمو توجُّهات مضادَّة لهكذا رؤى سلمية وئامية طيِّبة، حيث نجد أن هناك مَن يعتبر المسيحي كافراً وقتله حلال وزلال، وهو (صليبي!) ويجب إبادته عن بكرة أبيه، ويعتمد في تبريراته وتوجُّهاته هذه على فتاوى دينية غريبة وعجيبة، ولا أؤمن بأيِّ دينٍ من أديانِ الكون أن يبيحَ قتلِ أي إنسان مهما كان اعتقاد هذا الإنسان حتى ولو كان ملحداً حقيقياً ولا يؤمن بالله ولا بالأديان، لأنه لا يحق للبشر أن يحاسبوا البشر بحسب هواهم ومعتقداتهم المريضة، ولهذا أرى أن المسيحي الذي تشرَّب قيم المسامحة والسلام والوئام والمحبَّة وحبِّ الوطن والآخر، كلّ هذه القيم التي تشرَّبها الإنسان المسيحي عبر أكثر من ألفي سنة، كانت سبباً في دماره وفنائه وانقراضه وفراره وتوهانه عن الهدف في دنيا الشرق، لأن الطَّرف الآخر المتشدِّد يضع في الاعتبار أن ردّ المسيحي ما هو أكثر من المسامحة والمحبَّة، وكأنَّه يعيش في عالمٍ غير هذا العالم الذي نعيشه، وكأنّه عبر المسامحة سيستردُّ حقَّه ويصون كرامته ووجوده وكيانه وسلامه وأمنه!
وهذا المسيحي (الصليبي) الشرقي ليس له أية علاقة بالصليبي الغربي والحروب الصليبية من حيث التوجهات السياسية والاستعمارية وكان هو أوّل مَن تصدّى للحروب الصليبية والتاريخ حافل بالشهداء المسيحيين الشرقيين الذين صدّوا الغزوات الصليبية، فما هذا الرَّبط الغبي الأهوج بربط المسيحي الشرقي بالحروب الصليبية، وأستطيع أن أجزم أن المسيحي الشرقي تضرَّر أكثر ممَّا تضرَّر المسلم من الحروب الصليبية المباشرة وغير المباشرة، والصليبي الغربي كان السبب المباشر بالقضاء على الكيان المسيحي الشرقي، وكل حروب الإبادة التي تعرّض لها المسيحي الشرقي، له علم بها المسيحي الغربي ومع هذا طنّش بل ساهم في إبادته، ابتداءاً من مجازر الإبادة الجماعية/السيفو، ومروراً بكلِّ المجازر التي تعرّض لها عبر كل الحقب التاريخية حتى الوقت الراهن! ومن الغباء والعار على أيِّ توجّه اسلاموي مهما كان متشدِّداً ومتزمّتاً ربط مسؤولية ما يقوم به المسيحي الغربي بالمسيحي الشرقي وتحديداً في حالة مثل حالة العراق وغيرها من بلاد الشرق، لأن الطرف المسيحي العراقي هو الطرف الذي الأكثر تضرَّراً من كلِّ الأطراف والأديان والمذاهب والأقوام، حيث نرى كيف تسلَّم الشيعي سدَّة الحكومة وأغلب الوزارات، ويحاول السنّي اقتسام الكعكة العراقيّة المستباحة والكرد ازداد أمنهم ونفوذهم وسيطرتهم من خلال إيجاد الحزام الأمني في إقليم كردستان واستلام رئاسة العراق!، وكل هذا التقسيم والتوزيع الكعكوي كان على حساب خلخلة جماجم الأقلية المسيحية، وهي أصل البلاد وكانت عبر تاريخ العراق الطويل الأغلبية الساحقة، تحكم بلاد ما بين النهرين، ولها وإليها تعود عراقة حضارة العراق، وأكثرما قدَّم العرب وغيرهم منذ سيطرتهم على بلاد الرافدين هو المزيد من الحروب والصراعات القومية والمذهبية والإثنية والدينية وكنَّا وما نزال ندفع الثمن غالياً ولم نجنِ شيئا سوى القتل والتشرُّد ومزيداً من الهجرة والانقراض. فما هذا الذي أراه، وما هذا الغباء السياسي والتحليل الديني الذي يطرحه بعض المتشدِّدين الإسلاميين، معتبرين مسيحيي العراق من الصليبيين، أيُّها المتشدِّد الاسلامي! أنتَ تعلم والكون برمَّته يعلم أن المسيحي العراقي دفع الفاتورة الأكبر من خلال احتلال أميريكا العراق وسقوط نظام صدام حسين، وألف رحمة ورحمة على أيام صدَّام رغم ديكتاتوريته المعهودة، مقارنةً بما نراه الآن من قتلٍ ودمارٍ وتشريد، ألم يكُنْ الأمان سائداً في البلاد حتى ولو بالقوة، أين هي توّجهات ديمقراطية السيّد المالكي والسيّد مام جلال في حماية المسيحيين ووضعهم في صدارةِ البلاد لأنهم أصل البلاد؟! لم نرَ ولم نشاهد ولم نسمع منذ سقوط الطاغية سوى كلام جميل وخطابات، ولم نجد جملة واحدة في دستور العراق تحمي وتصون حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى، لهذا أحمِّل المسؤولية الكبرى لأميريكا والغرب ومنظمات حقوق الإنسان لأنّ أميريكا تسبَّبتْ من خلال احتلالها للعراق في إيجاد هذا الاسلامي المتشدِّد، إنها المتسبِّب الأول والأخير لما يحصل لمسيحيي العراق وعلى أميريكا أن تحلَّ هذه المشاكل وتضع حدّاً لهذه المجازر قبل أن تستفحل الأوضاع أكثر ويتفرّغ العراق من أعرق شعب أصيل على مدى تاريخ العراق الطويل.
إن ما أريد طرحه لا يكفي لمقال ومقالين وعشرات المقالات! لأن هناك طرف لا يسمعك وطرف لا يفهمكَ، وطرف يرفضكَ كيفما تكون! لأنكَ تطرح نفسكَ يا سيِّد مسيحي، يا سيِّد كلداني سرياني آشوري، لقمةً سائغة بين أنيابٍ لا ترحمكَ حتى ولو كنتَ ملاكاً حقيقياً منزلاً من عرش الله، فلماذا تتمسّك بهذا الطرح الطوباوي الخيالي في هذا السياق، متى ستفهم أن ما قاله السيد المسيح في موضوع المسامحة والمحبة لا ينطبق في السياق الذي نراه الآن، وأنا أرى أنه من الجبن والخزي والعار والتحجُّر الفكري والتخلف الحضاري والأخلاقي والديني والتطوري أن يسامح أي إنسان مظلوم إنساناً ظالما يظلمه بتخطيط وعن سابقِ اصرارٍ وتصميم وعن قناعة مدروسه ومخطَّطة لها ألف بالمائة، فالمسامحة ممكن أن تتمَّ مع إنسانٍ مسامح ومع شخص لم يقصد إيذاءكَ بل جاء ظلمه بشكل غير مقصود وعابر، وبكل الأحوال لا يعجبني نهائياً تطبيق قول السيد المسيح في مسألة المسامحة في هذا السياق الذي أراه، حيث أعتبر هذه المسامحة ضعفاً وجبناً وانهزامية وعدم الحفاظ على كياننا ووجودنا وكرامتنا، بل تنم عن عدم فهمنا العميق للدين والأديان والحياة الكريمة، والمسامحة في هكذا سياق هي دعوة واضحة لانقراضنا وانقراض كل من يدعو إلى هكذا فكر مثالي طوباوي بعيد كل البعد عن الواقع الذي نعيشه، ويبدو لي أن السيد المسيح لو نزل من عرشه على الأرض الآن!، ويعاين ويعايش ما نعيشه ونعانيه (كإله متجسّد على صورة إنسان) ويرى ما نراه من ظلم ومعاناة وقمع وكبت واقصاء وفناء وقتل وتشريد على كافة الأصعدة، سوف لن يقول أحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم، سيقول بدون أي تردُّد بالكيل الذي تكيلون يُكال لكم ويُزاد! وسيشدِّد على الدفاع عن كرامتنا وأنفسنا حتى الرَّمق الأخير، وإلا لماذا طرد هؤلاء الذين عبثوا في الهيكل المقدس!
إنَّ ما قاله السيد المسيح في موضوع المسامحة، قاله كمثال لزمان ومكان وموقف ليس بالضرورة أن ينسحب على كل موقف في كلِّ زمان وكلِّ مكان، وأنا أرى ضرورة عدم ربط حياتنا وكرامتنا ومستقبلنا كبشر في سياق رؤية دينية مثالية طوباوية بعيدة عن الواقع الذي نعيشه، ويجب عدم ربط الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتطويرية بكل ما هو ديني وروحاني، لأن النزوع الديني الروحاني غير النزوع الأرضي الواقعي الحياتي، ولا يمكن لأي دين من الأديان على وجه الدنيا أن يكون حلاً مرجعياً شاملاً لتفاصيل حياتنا الأرضية، ولا يجوز اقحام الدين في قضايانا الحياتية الأرضية وربطه بالسياسة والاقتصاد والعلم والحياة، لأن الرؤية الدينية رؤية روحانية إيمانية تتعلق بالإنسان والخالق والسماء، ولا يمكن إدراج الدين والله والأنبياء والقدِّيسين لحلِّ مشاكل الحياة التي نعيشها، ثم أنَّ الدين ورؤانا الدينية هي بيننا وبين الخالق، وليست قائمة بيننا وبين البشر كبشر، وإلا لماذا هناك قوانين ومحاكم ومحاسبة للمخطيء والمسيء والمخالف للقوانين السائدة في البلاد كل البلاد؟!
إن من أكبر أخطاء مَن يتبنَّى رؤية دينية من أي دين كان، أنه يفصِّل كل حياته وتطلُّعاته بحسب ما يقرؤه ويفهمه في الدين، لأنه أحياناً لا يفهم أبعاد الدِّين الحقيقية العميقة من جهة، والحياة أوسع بكثير ممَّا جاء في الأديان من جهةٍ أخرى، ثم أن عمر الدين هو أكثر من ألفي عام، وفي كل دقيقة وفي كل ثانية يحصل تغيُّرات في الدنيا لابدَّ من مواكبتها! سيردني مئات الأسئلة والأقوال والآيات التي يستشهدون بها من الكتاب المقدس، تناقض رؤيتي وطرحي، .. والمفلق في الأمر أنهم يبرِّرون أسباب الظلم اللاحق والماحق بهم، ويفرحون لأنهم يكنزون لهم كنوزاً في السماء، ولأن أجرهم في السماء عظيم! يجدون أنفسهم في هلاك دائم وأولادهم الرضّع يُقتلون أمام أعينهم ويتشبَّثون بالمسامحة والفوز بكنوز السماء، ما هذه الكنوز التي تنتظرنا أو ننتظرها ونحن هنا في حالة يُرثى لها، نغوص في محرقة متواصلة على مدى الأيام والشهور والسنين، وهل ستهرب تلك الكنوز لو عشنا حياة كريمة، أسئلة كثيرة ولا أرى إجابات مقنعة لها من خلال تشبثاتكم المسامحاتيّة!
أتساءل، لماذا السيد المسيح له المجد، لا يقدّم لنا أعاجيب في بغداد والشرق والغرب حيث طوفان المحارق والمظالم تغلي فوق رقابنا، ويضع حدّاً لهذه المحارق والمجازر الدينية والروحية والإنسانية التي تحصل لهذا الشعب المؤمن البريء، كي يردع أصحاب الفكر الظلامي ويهديهم إلى الإيمان الكبير والمحبة للبشر كل البشر، وكي يتمكّن المؤمن أن يتمسَّكَ بإيمانه بكلِّ صبر عندما يرى نفسه محصَّناً من قوة إلهية خارقة، تصون له عرضه وكرامته وتفرش أمامه جنان النعيم وكنوزه السماوية، لماذا يترك السيد المسيح قوى الظلام تدنّس المقدَّسات وتقتل الرهبان والراهبات والقساوسة والمطارين والمؤمنين، ويتركهم يفتكون بنا ونحن ندافع عن أنفسنا من خلال المسامحة والغفران! لماذا يتركنا نحني رؤوسنا لسيوف الظلم والطُّغيان ويطلب منا أن نسامحَ أعداءنا! أي منطق من هذا الطرح الاذلالي والانهزامي في هذا المنحى العقيم؟!
ونحنُ كيفَ نقتنع بأنَّ هذا الكلام لم يقله المسيح في هذا السياق، إلا أننا نحشره في هذا السياق حشراً، وكيف لرجالات الدين والمؤمنين يفهمون هذه المسألة من هذا المنظور الضيق، لماذا لا يترجمونه في سياقٍ آخر، ويعتبرون هذا الذي يبيدنا ويسحقنا ويمحقنا، هو مرض يستفحل بالانسانية وبنا وبالحياة، وعلينا أن نردَّ عليه بكلِّ القوانين الموجودة على وجه الدنيا والتي تكفل للمرء أن يعيش حرَّاً كريماً.
وأودُّ التأكيد على أن من أهم الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الحال هو الغرب نفسه، وتحديداً أميريكا، لأنها دخلت واحتلت العراق ليس لسواد عيون العراقيين والعراق بل من أجل سواد الذهب الأسود، ولولا وجود النفط في العراق، لما دخلت أميريكا واحتلت العراق، فالقضية هي اقتصادية محضة ولا تتعلق بتحرير العراق ولا بتطبيق الديمقراطية في العراق، والسؤال المهم، مَن أتى لنا بالنظام السابق وديكتاتوريته، ومَن ساند النظام السابق، نظام صدام حسين على امتداد حربه مع إيران؟! أليستْ أميريكا؟! أما كانت تعلم أميريكا أن صدام حسين سيحتل الكويت، ولو أرادت، أما كانت تستطيع أن تمنعه من غزو الكويت وتجنِّبنا وتجنّب العراق والمنطقة والعالم ويلات ما بعد الحرب، ولكنها تركت صدام حسين أن يحتل الكويت وكان هذا فخَّاً لصدام حسين كي يبيح لأميريكا أن تدخل في الخليج ثم تحتل العراق، لماذا؟ أعود مؤكّداً من أجل سواد الذهب الأسود، وكانت تعرف سلفاً أنه باسقاط النظام العراقي السنّي، لابد من إيجاد بديل معارض، فلا يوجد بديل معارض ذو شعبية كبيرة سوى النظام الشيعي، فأول فخ فخَّخته أميريكا للعراق والعراقيين هو الفخ الطائفي، لأنها تعلم أن العراق سيستمر عقوداً عبر الحرب الطائفية الشيعية السنّية، لأنها جاءت وغذَّت الحرب الطائفية بتنصيب حكومة أغلبها من الطائفة الشيعية، وكأنها نصّبت حرباً طائفيّة مفتوحة على العراق والعراقيين، وهنا أودّ الوقوف عند موضوع الطرح الطائفي، أنا شخصياً ضد الطرح الطائفي والمحاصصة الطائفية في هذا السياق وضد الطرح الديني في قيام أية دولة على وجه الدنيا، أنا مع طرح حقوق المواطنة كمواطَنة وليس عبر الطائفة أو الدين سواء كانت الطائفة أقلية أو أكثرية، ومن الخطأ الفادح ونحن في القرن الحادي والعشرين أن نرى تركيبات شرقنا الغافي على الذهب الأسود تتمركز على نار الطائفية البغيض، ويصفِّي المواطن أخيه في الوطن وأميريكا ومَن لفَّ لفَّها لا تؤمن بالدين كرؤية في بناء دولة، ولكنها تؤسِّس الشرق على رؤية مذهبية طائفية كي يحصد الشرق ذاته بذاته وهي تتفرَّج وتحل مشاكلنا من خلال نهبنا ونحن نظن أو بعض عباقرة الشرق يظن أنها تجلب لهم الديمقراطية والحرية والعدالة، فأنا لا أصدِّق ولا يوجد أي إنسان عاقل على وجه الدنيا يصدِّق، أن أميريكا تفكِّر أو تخطِّط لإقامة الديمقراطية في الشرق أو العالم العربي، ويزعجها تماماً عندما تجد بوادر نموّ الديمقراطية والحرية في العالم العربي، لأن وجود الديمقراطية والحرية يلغي وجودها، لهذا وجودها مقرون باستمرارية ديكتاتورية الشرق، ولهذا تشدِّد أميريكا على ضرورة أن يفرّخ الشَّرق حروباً متواصلة، وتسعى هي بتفريخ الحروب بما يناسبها، ولا يرمش لها جفن لو تمَّ تفجير كنيسة هنا أو جامع هناك، لأنها تريد هذا، ولأن هذا هو الطريق المضمون لبقائها طويلاً كي تجني خيرات البلاد على حساب خلخلة رقاب العباد، وأغلب الأنظمة العربية هي أنظمة مفصّلة على تطلعات الغرب وأميريكا، وحالما ينزاح نظاماً ما عن مساره المعهود نراها تنصب له الكمائن والفِخاخ كما حصل للعراق، لأن أميريكا هي التي صنعت بصيغةٍ ما أغلب الأنظمة العربية وهي تعرف نقاط قوة الأنظمة وضعفها وهي التي تستطيع أن تقرِّر متى وكيف تقضي عليها عندما لاتنصاع إلى توجُّهاتها، كما حصل مع صدام حسين، حيث وصلت أميريكا إلى نقطة الصفر بالاستمرار مع نظام صدام حسين خاصة بعد حرب الخليج الأولى، فوجدَتْ أنه سيشكِّل خطراً عليها لهذا نجحَتْ في نصبِ الفِخاخ له، ثم قدَّمَتْ لنا بعد القضاء عليه هذه الحكومة المهلهلة التي لا تستطيع أن تحمي نفسها فكيف ستحمي كنيسة أو جامع أو دير أو أي مواطن، والحكومة أصلاً في مثل هذه الأحوال لا تفكِّر سوى بنفسها والاستمرار في الحكم كي تحقِّق للعراق الديمقراطية العتيدة التي وعدتْنا بها أميريكا، هذه الديمقراطية القائمة على جماجم القساوسة والمطارين والشمامسة والرهبان والراهبات والمؤمنين الذين كانوا يصلّون في هيكل الرب، هؤلاء الذين بنى أجدادُهم حضارة العراق، أحفاد نبوخذ نصَّر وحمورابي وجلجامش، أحفاد الآشوريين الكلدان السريان، أحفاد هؤلاء الَّذين بنوا حدائق بابل المعلَّقة، إحدى عجائب الدنيا السبع، … واأسفاه أحفاد أوّل الحضارات أراهم يُقتلون الآن أمام هيكل الرب في كاتدرائية سيدة النجاة، على مرآى الكون برمّته وأميريكا تقهقه بأعلى صوتها أنّها قدَّمت الديمقراطية للعراق والشعب العراقي، والجميع رأى كيف وضعت أقدامها ودبَّاباتها في العراق وسحقت حضارة العراق ونهبت آثار وتماثيل العراق، وكأنَّنا نرى مشاهد من العصور ما قبل الحجرية، أنا القائل، أميريكا حضارةُ نارٍ وكبريت، هذا كان عنوان نص شعري ردّاً على حصار العراق واحتلال أميريكا للعراق وردّاً على نهبها للعراق وردّاً على دمار العراق والشَّرق وبقاع كثيرة من العالم!
ما هو الحل إزاء ما نراه من قتل وتشريد الأبرياء المسيحيين في العراق وقتل وتشريد الأبرياء من الطوائف والأقليات الأخرى، ماهو الحل في إحلال السلام والوئام والمحبة في العراق بين كافّة الأطياف والأديان والقوميات والاثنيات والأقليات والأكثريات؟!
الجواب بسيط ولا يحتاج إلى عبقرية، وهو أن يقتنع كل مواطن عراقي أنه إنسان، لهذا عليه أن يطرح نفسه إنساناً منفتحاً حضارياً بما يليق حضارته وتاريخه الغابر ويبتعد عن كل طرح ديني طائفي مذهبي قوموي تعصبي تشدُّدي، وينظر إلى جاره وأخيه المواطن كمواطن، بغض النظر عن مذهبه ودينه وقوميته وحزبه وتياره، ويؤسِّس دولة المؤسَّسات القائمة على الكفاءة والأهلية العلمية والحضارية والتقدمية، ويفكِّر بتنشئة جيل مسالم، طيب، برئ، بعيد كل البعد عن التعصب الديني والقومي والمذهبي والطائفي، وليمارس كل مواطن دينه كما يريد ويشاء، ولا يمكن قيام أية دولة على وجه الدنيا على أساس ديني أو طائفي أو قومي صرف، وفكرة المحاصصة الطائفية والقومية والمذهبية والقبلية وما هنالك من رؤى تدعو إلى التعصب والتشدُّد والخلاف العدائي ثم يتحوَّل إلى صراع مذهبي وديني وقومي ويفكر كل طرف القضاء على الآخر، هي فكرة رجعيّة متوحِّشة ويكتشف هؤلاء بعد عقود أو قرون كم كانوا أغبياء وهم يقتلون بعضهم بعضاً مثل الوحوش الضارية دفاعاً عن وجهات نظر متخلفة وغالباً ما يكتشفون الأمر بعد فوات الأوان!
فلماذا لا نسبق نحن الأوان، ونعيد نحيي من جديد بذور حضارتنا الآفلة، نعيد خلقها الآن قبل فوات الأوان؟! وكيف ممكن أن نحقِّقَ هذا الأمر في هذه الآونة ونحن نشتعل أمام هول الطوفان؟!
إن أوّل طريق للوصول إلى حلّ لما نحن عليه من تفتُّت وتشرّد وضعف هو أن نوحّد كل الطوائف المسيحية ونتّفق على صيغة عمل مشترك، كي نشكِّل كلمة واحدة موحّدة لها وزنها وأهميتها في المحافل الدولية والشرقية.
علينا تأسيس أحزاب ومؤسسات وأنظمة وهيئات تتعاون مع بعضها بعضاً، وتشكيل لجان مختصة ومنبثقة من كل حزب أو هيئة لهذا الأمر بحيث أن تمثلنا وتسعى إلى تحقيق أهدافنا المنشودة في الأوطان الأم وبلاد الاغتراب عبر المحافل الدولية.
إيصال صوتنا وتظلمُّنا عبر مستجدات مجازر ما حصل ويحصل إلى أعلى هيئات حقوق الإنسان العالمية، كالبرلمان الأوربي، الكونغرس الأمريكي، هيئة الأمم، مجمع الكنائس العالمي، جامعة الدول العربية، المرجعيات الاسلامية العربية والعالمية، وتحويل واقع الحال الذي نعاني منه إلى قضية عالميّة ولا بدَّ من حلِّها عبر هيئات حقوق الإنسان العالمية، شأننا شأن بقية شعوب المنطقة، لأنَّنا أبناء البلاد الأصليين ومع هذا نعيش كغرباء في بلادنا.
ما هو رأيي في المجزرة التي وقعت في كنيسة سيدة النجاة، ووضع المسيحيين العراقيين؟!
برأيي كانت صفعة قوية لحكومة المالكي ولمسلمي العراق قبل أن تكون مجزرة العصر لمسيحيي العراق والشرق والعالم أجمع!
إن حل مشكلة مسيحيي العراق لا يتم عبر المظاهرات والخطابات والحوارات والقصائد والنقاشات وبيانات التنديد والشجب والاستنكار، لأن المشكلة في العراق أكبر من مسيحيي العراق ومن العراق ذاته، لأن المشكلة الكارثية في العراق هي أنَّ أميريكا وضعت العراق على حافة بركان طائفي يغلي غلياناً مميتاً لكل الأطراف، وكل هذا بدعوة أن أميريكا تحاول قصارى جهدها أن تحقق الديمقراطية في العراق، وهكذا بعد أكثر من ست سنوات من سقوط النظام السابق، وصلنا إلى لبِّ الديمقراطية التي رسمت أميريكا معالمها وهي قتل الرهبان والقساوسة على مذبح الرب وهم يتضرعون إلى الله كي يحمي العراق، وبرأيي أنَّ الحكومة هي القاتل رقم واحد، لأنها طالما لا تستطيع أن تحمي ذاتها وتحمي مواطنيها فلترحل وتسلم الراية لغيرها! لأنني أرى أن يحكمَ ديكتاتوري بارع ويؤمِّن الأمان لمواطنه العادي الفقير المسالم غير السياسي، هو أفضل من أكبر ديمقراطي غير قادر على نشر السلام والأمان في البلاد، هل من المعقول أن نرى ما رأيناه من قتل وتشريد مسيحيي العراق على دور صدام حسين، أنا كنتُ وما أزال ضد سياسة صدام حسين الديكتاتورية ولكنها تعتبر رحمة الرحمات بالنسبة لما نراه الآن من بطش وتنكيل وقتل المسيحيين والعراقيين على مختلف مشاربهم وطوائفهم وأحزابهم، هناك فلتان أمني مخيف، لأن الوضع أصبح مخيفاً ومميتاً لا يُطاق إلى أبعد حدود الخيال!
هل تقبل أميريكا والسياسيون الأميريكيون أن تُقتل أمهاتهم وأولادهم وقساوستهم في وضح النهار، كيف ستحل أميريكا الصراعات الناشبة في العراق، بلد الحضارات وهو على مفترق طرق من براكين الموت من كل حدبٍ وصوب، منَ سيقنع الشيعي العراقي أن يقبل محاورة السنّي العراقي، والمفلق في الأمر أن مسيحيي العراق أصبحوا كبش فداء على كلا الجانبين وعلى كل الجبهات، فعندما يختلف أي طرف مع آخر يهجم على مسيحيي العراق ويقتلهم بدمٍ بارد وهم ليسوا طرفاً في اللعبة السياسية السقيمة، وكل جرمهم أنَّهم مسيحيون، وما الهجمة الأخيرة على كنيسة سيدة النجاة إلا رداً على أميريكا “النصرانية”، وعلى الحكومة العراقية التي نصَّبتها أميريكا علينا مستبشرة بقدوم الديمقراطية على ظهر دباباتها وهي تنهب حضارة العراق وتعبث بمتاحفها في وضح النهار، ما هو شعور أميريكا وهي ترى طفلاً شهيداً يُقتل في كنيسة وهو في حضن أبيه، هل تشعر أنها حقَّقت الديمقراطية في بلد الحضارات، أم تشعر بالعار والإهانة، أم أنها لا تكترث أصلاً بالموضوع بل تعتبره خطوة جيدة لها كي تبقى مدةً أطول في العراق وكي تبيِّن للعالم أن العراق يحتاج إلى الدعم الأميريكي والخارجي!
هل ثمَّة حل، نعم هناك الكثير من الحلول والكثير من الضحايا ولا حل طالما يسير العراق على هدى نيران وبراكين الطائفية، وأفضل الحلول هو أن يقتنع الغرب وأميريكا على وجه الخصوص أن الديمقراطية العتيدة التي بشَّروا بها لا تتم بهذا الشكل الأحمق، وأنا برأيي أن العراق بحسب واقع الحال الحالي لا يناسبه هكذا توجّه ديمقراطي مهلهل، لأنه توجُّه ديمقراطي بالإسم، العراق والشرق برمَّته يحتاج إلى دولة المؤسَّسات، دولة تسنُّ القوانين في البلاد بشكل ديمقراطي حقيقي وتكفل تأمين حقوق المواطنين كل المواطنين وتحمي وتصون الوطن بعيداً عن الطرح الطائفي والديني والقوموي، والتركيز على سنِّ قوانين تكفل حماية وصون حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى بحيث كل مَن يرتكب جرماً في حقِّ المسيحيين وغيرهم من الأقلِّيات ينال عقوبة تصل إلى حدِّ الإعدام، ويتم حماية المسيحيين وتأمين حقوقهم الثقافية والقومية والدينية، وممارسة حقهم في مناصب الدولة بأرفع المواقع من رئاسة الدولة والوزارة ومروراً بكل دوائر الدولة وذلك بحسب الكفاءات المتوفرة لديهم، إسوة بالآخرين، وكل هذا لا يمكن أن يتحقَّق إلا عبر منظمات حقوق الإنسان عبر المحافل الدوليَّة فمتى سيتوحَّد شعبنا ويحوِّل قضيته إلى قضية عالمية ويفرضها على العالم وعلى أرض الرافدين، موطنه الأصلي، اسوةً بغيره من الأقوام والشعوب التي جاءت بعده بآلاف السنين!
بقلم: صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم