الجزء الأول
نسمع بين الحين والآخر أصوات تحذر من الفخاخ التي تحيط بكنيستنا السريانية، والمؤامرات التي تُحاك ضدها، وتُريد سلبها مجدها التليد. ثم تتعالى الأصوات التي تدعو إلى الحفاظ على طقوسنا وعقائدنا، وما ورثناه من أجدادنا، وتُطالب بحماية لغتنا السريانية ممن يتربصون بها سوءاً. ثم يخبروننا عن تغلغل البروتستانتية في الكنيسة، ومن قبلها في القرون الماضية البعثات التبشيرية الكاثوليكية وما خلفته من ويلات على كنيستنا بحسب ما كانوا يشتكون. ناهيك عن تشنيف آذاننا بأخبار الزؤان التي تزرعه جماعة فلان، ومجموعة فلان. لكني أـتمنى على رواد المواقع الالكترونية والمؤتمرات والمنابر أن يسألوا أنفسهم أولاً: لما وصل حال كنيستنا السريانية إلى ما هي عليه اليوم؟ وأن يدخلوا إلى العمق منطلقين كل واحد من ذاته، وخاصة العلماني الذي لا يجب أن يبرئ ساحته ويرمي المسؤولية على الاكليروس فقط، بل أن نحلل واقعنا المرير من دون أن نجعل الآخرين شماعة لأخطائنا وعيوبنا. تُرى هل انتبهنا جميعاً اننا تغنينا على الأطلال لقرون وقرون حتى وصلنا إلى حالنا السيئ اليوم؟
هل وعينا لاستهتارنا كسلطة كنسية انشغلت عن الجوهر بالأمجاد الشخصية، لاسيما أن الحاجة كما أعلنها المعلم السماوي هي إلى واحد. وقد نسيت السلطة، وهي تكنز لها كنوزاً على الأرض أن نفسها وأنفس رعاياها ستطلب منها اليوم أو في الغد القريب. أم ترانا أدركنا كشعب علماني لامبالاتنا وقساوة قلبنا غير التائب، وأننا قد تخلينا عن الكنيسة، أو قمنا بإدارة مؤسساتها إرضاء لفلان، وخدمة لفلان. أو استسلمنا لما نتعرض له من صعوبات واتهامات كاذبة. إذاً من يحمي كنيستنا اليوم وممن يحميها؟ وهل نحن أقرب إلى الواقع عندما نتحدث عن وجود تيارات وجماعات خارجية تخطط لإضعافنا؟ وهل نحن أقوياء حتى يأتي أحدهم ليضعفنا؟ فإني أميل إلى الرأي الرافض لفكرة المؤامرة وذلك لأني اعرف واقعنا ومدى استهتارنا وتقاعسنا، بل اعرف الكثير عن الآخرين. ثم أننا لو حصنا أنفسنا وصنا أجيالنا لما استطاعت كل شرور العالم واضطهاداته أن تؤثر فينا أو تنال من قوتنا. إذاً لماذا يحاربنا الآخرين؟ ما الذي نمتلكه حتى يطمعون فينا؟ إذا كانت كنوزنا الروحية مطمورة، وقد تجاهلنا مخطوطاتنا وأصبحنا نعاينها من خلف زجاج المتاحف، وفي أدراج الباحثين الغربيين. والأكثر ألماً أنه ليس هناك من يكلف نفسه عناء البحث أو الترجمة، أو أضعف الإيمان المطالبة بالحق الضائع هنا وهناك. إذاً على ماذا يحسدوننا ؟ على كنائسنا الفارغة من المؤمنين وخاصة الأطفال والشباب. أم على من يشاركون في الصلوات والأنشطة كنوع من العادة، وهم غالبية عظمى وليسوا قلة.على ماذا يحسدوننا؟ على مراكز التربية الدينية التي ينقصها الأساسيات الضرورية لتعليم الأطفال والنشء. أم على مكتباتنا وأبحاثنا. أم على وعاظنا ورعاتنا الذين لا تقدر غالبيتهم العظمى على إيصال المسيح ورسالته الخلاصية. برب السماء اخبروني لماذا نُحارب؟ على أديرتنا المتروكة لنا خراباً أو تضم بضعة أشخاص. أم على جامعاتنا لتعليم اللغة السريانية والتاريخ المجيد.
سيحاربوننا ونحن لم نتفق إلى اليوم على أصل اسمنا السرياني ولمن ننتمي تاريخياً، مع أن الانتماء الحقيقي يكون للرب يسوع المسيح الإله الحي الذي خلق العالم، وهذا أمر قد نسيناه وتجاهلناه منذ قرون لذلك نشطت الروح الإنجيلية وأخذت تجذب عائلاتنا المتعطشة للفرح والخلاص الذي لن تناله بدون يسوع المسيح وهو ما تركز عليه تلك الكنائس. ثم ما حكاية الكيل بمكيالين، فلدى الكثير من أبناء شعبنا ولاء كبير للأقباط لأنهم على نفس عقيدتنا الأرثوذكسية، وليت من يتكلمون يستطيعون التعبير عن ماهية العقيدة الأرثوذكسية وإذا كانوا قد فهموها. ثم أنهم يُسمون أقباطاً وليسوا سرياناً إذا تحدثنا بالمنطق المتعصب. فلماذا نواظب على كنائسهم ووعظاتهم مادمنا نريد مجد السريان العظيم.(أنا احترم كل الكنائس القبطية والكاثوليكية والإنجيلية إذا كانوا قادرين على تقديم بشرى الخلاص السارة لرعاياهم). نحتاج أن نستيقظ من سباتنا العميق فنحن نفرغ من ذواتنا. نحن خيرة من يتغنون بالماضي. نحن أساتذة في الافتخار بالتراث وإن كان واقعنا مخجل فيه من المهاترات والخلافات الكثير جداً. كنيستنا ضعفت لأننا انشغلنا بجمع الأموال، وبالانتقادات اللاذعة، ونسينا الهم العام، وتكريس روح الجماعة، وقد فقدنا الحافز الذي ينعش فينا الأمل بحاضر أفضل ومستقبل مشرق. لاسيما وقد زُرِعت فينا ثقافة التغني بالماضي العظيم لكي ننشغل عن واقعنا الضعيف، وعن كسلنا نحن شخصياً، لذلك سر ضياعنا يتمثل فينا، وفي الذين لقنونا أبجدية البكاء على الأطلال ونحن نقف بكبرياء على ركام الحاضر، وننظر للمستقبل فتعمي أعيننا سحابة قاتمة تحجب عنا رؤية الطريق والحق والحياة. لقد تعبنا بسبب قساوة قلوبنا، فكيف نكون أبناء أبينا السماوي الذي أوصانا أن نحب الجميع حتى الأعداء، فكم بالحري إخوتنا من كنائس أخرى.
وهنا لدي سؤال على هامش المحاججة:هل البروتستانت(هم ليسوا بشهود يهوه وحركتهم الضالة) شياطين؟ أم هم مسيحيون مثلنا لهم عيوبهم كما لنا نحن عيوبنا. أم تناسينا أو لعلنا لا نعرف أننا كسريان نشترك معهم في مجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط، وقد وافق مجمع أحبارنا على الانضمام للمجلس الذي أسسه البروتستانت، فكيف يحصل هذا إن كانوا أصحاب إيمان خاطئ أو هرطقات وبدع كما يروج البعض. كذلك جماعة النعمة وغيرها أرجو أن تعطوني مثالاً عملياً واحداً عما خربوه في كنيستنا حتى نحاربهم ونحملهم مسؤولية ضياعها، مع أن الجماعة إن صح التعبير انطلقت منذ سنوات بينما معاناة كنيستنا مرٌ عليها عشرات السنين. فكنيستنا تضعف منذ زمن بعيد، ومن الظلم أن نحمل الكنائس الأخرى أو بعض التيارات سبب فشلنا. سأعطيكم مثالاً واقعياً: أيهما أفضل للكنيسة اليوم أن أكون متأثراً بفكر الإنجيل الذي أوحى به ربنا يسوع المسيح لا الناس، واخدم كنيستي السريانية بإخلاص مستفيداً مما يميز باقي الطوائف المسيحية وكلنا عائلة واحدة. أم أن أبيع المواعظ؟ ولساني لا يكف عن الانتقادات وأنا لا اُقدم خدمة أو قرشاً لكنيستي السريانية التي انبري للدفاع عنها فقط بالكلام على المنابر المتعددة الألوان والاتجاهات. إنه سؤال اترك إجابته لضمير كل واحد فينا.
ختاماً: نحتاج أن نحصن بيتنا السرياني من الداخل لأن معظم الحروب التي نتعرض لها داخلية(خلافاتنا- انقساماتنا- حرماناتنا- طريقة اختيار وتأهيل اكليروسنا- عدم حكمتنا في التعامل مع الأحداث، وقدرتنا على تضخيم أبسط الخلافات بالرأي لتحويلها إلى جبل من المشكلات بسبب كبريائنا وعدم محبتنا). طبعاً لا أحد ـينكر وجود حروب خارجية سببها التيارات الإباحية التي تغزو العالم، والاختراعات والصرعات الحديثة المتتالية لتسيطر على عقول أولادنا وشبابنا. ناهيك عن المنظمات الإلحادية، وأيضاً الضائقة المادية وعدم العيش بكرامة التي تدفع الناس للهجرة. لكنها جميعها لن تستطيع أن تنتصر علينا إن لجأنا لمعونة الرب وروحه القدوس، وإن حمينا بيتنا السرياني من الداخل، لأنك إذا أردت الانهيار لعائلة أو كنيسة ّأو مجتمع أو حتى وطن وأمة عليك أن تزعزع أركانها من الداخل لأن البيت المبني على الصخر قوي متماسك لا أحد قادر على هدمه، بينما من السهل هدم ذلك البيت الهش المبني على رمال الأنانية والزيف والتعصب والرياء، وسقوطه سيكون عظيماً. لكن لنا الوعد كأبناء لله أن كنيسة المسيح لن تقوى عليها أبواب الجحيم، والأمل الوحيد أن نسعى لإعادة كنيستنا السريانية إلى حظيرة المسيح لتخرج من محنتها، وحتى ذلك الوقت استودعكم نعمة الرب القائل على لسان اشعيا النبي:هلم نتحاجج، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج.
الجزء الثاني
كان الحديث مشوقاً، بطرس الرسول يعلنها بكل وضوح: أنت هو المسيح ابن الله الحي، ويرد عليه ملك الملوك مخلصنا يسوع قائلاً: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة (أي الايمان) ابني كنيستي.
وفي يوم انتصار يسوع على الموت، وانتقاله من هذا العالم إلى بيت أبيه السماوي ظهرت خليقة جديدة متجددة، وانطلقت شرارة الكنيسة التي تؤمن بالمسيح القائم من الأموات، وإن كان تاريخ ميلاد الكنيسة الرسمي هو يوم العنصرة، وحلول الروح القدس المُعزي على التلاميذ لينطلقوا في رسالتهم التي سبق ودعاهم إليها المعلم عندما ارسلهم ليتلمذوا جميع الأمم ويعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وأخذت الكنيسة تنمو بقوة، بينما سبيل الانضمام إليها كان بالايمان بيسوع المصلوب رباً ومسيحاً (أع2: 36). ثم بنوال المعمودية، يتبعها رتبة وضع الأيدي التي تمنح الروح ومواهبه (أع 8: 16).
وكانت حياة الشركة بين الأخوة متمثلة بكسر الخبز، وإقامة الصلوات المشتركة، والمشاركة في تسديد احتياجات بعضهم بعضاً. ثم يأتي القديس بولس الذي انفرد بتحديد مفهوم عميق للكنيسة في (1كور12 :13) قائلاً: لاننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد. ثم تحدث عن المسيح رأس الكنيسة التي هي جسده (أف1: 22-23). وبعد قرون توالى ظهور مجموعة طقوس وفروض، وقد اخترقتها عدة ممارسات أخذت رويداً رويداً تُبعدنا عن الجوهر الحقيقي الذي تأسست الكنيسة لأجله على صخرة الايمان. لذلك السؤال المُلح اليوم: هل حقاً تؤمن الكنيسة بيسوع المسيح ابن الله الحي القائم من الأموات؟ طبعاً أنا أو غيري لايحق لنا أن نُدين سرائر الناس، فالله وحده فاحص القلوب والكلى. لكن يسوع قال: ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يصنع ارادة ابي الذي في السموات. وماهي إرادة الله الآب؟ أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون… وأن يعرفوك أنت الاله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته. ويؤكد الرسول بطرس ارادة الرب بالقول: وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة (2بطرس9).
واليوم لنفحص ذواتنا بعمق: فالكنيسة تقوم على جماعة المؤمنين. إذاً أين الجماعة، والكنيسة فارغة من المؤمنين المُصلين؟ الكنيسة تقوم على أسس المحبة لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد. لكن هذا الواقع المرير يثير الهلع في طريقة تعاملنا معاً أو مخاطبتنا لبعضنا بعضاً، وفي الكم الكبير من الخلافات والانتقادات التي نشهدها. ولااعرف هذه التراكمات على مر العصور إلى أين ستوصلنا؟ نحن نُطالب الكنيسة بالقومية واللغة. إذاً لنسميها دولة أو حزباً. كذلك نحن نُطالب الكنيسة بالأنشطة والحفلات. إذاً لنسميها صالة استقبال. أو قاعة احتفالات أو نادياً. نحن نُطالب الكنيسة بالأموال وتكديسها، والعقارات وتكثيرها. إذاً لنسميها بنكاً أو شركة. نحن نُطالب الكنيسة بالفروض والأعمال الشكلية الخالية من الروح لكي نتبرر ونتستر على ضعف ايماننا، وخطايانا الكبيرة.
إذاً لنسميها جمعية خيرية. نحن نُطالب الكنيسة بخلق توازن بين الروحي والاجتماعي والترفيهي تطبيقاً لشعارنا الأرضي يوم لك ويوم لربك. إذاً لنسميها مانشاء. لكن حرام أن نسميها كنيسة، بما تمثله كجسد للمسيح، وهو الرأس، لأنه وللأسف فإن واقع الحال اليوم لايعطيه الرئاسة، ولا المكان الطبيعي في المقدمة بسبب سلوكياتنا، صراعاتنا، وزيف ايماننا الذي نُجسده بسلسلة أعمال، وترداد للكلمات بينما القلب غير تائب. نحن نحتاج حقاً أن نُعطي للمسميات معناها الحقيقي، فنحن من مفهوم الكنيسة براء لأننا غالباً نُمارس طقساً أسبوعياً ممزوجاً بالنقد وعدم الرضى وغياب الأغلبية. وشعب العهد القديم الذي لم يُعاين النور كان يفعل ذلك. نحن نجتمع تحت سقف واحد في الصلوات والأنشطة، لكن الكثيرين يفعلون ذلك في مختلف ميادين الحياة. لذلك يجب أن نعرف لماذا نجتمع؟ وحول شخص من؟ أي من هو سيد اجتماعاتنا وصلواتنا، ومحور حياتنا؟ المال أم اللغة أم الطقوس أم الأنشطة، أم رجل يدعى يسوع الناصري مر يوماً على هذا العالم ورحل عنه. أم نحن نؤمن ونعيش ايماننا حقاً بشخص إلهنا الحي يسوع المسيح الذي لايزال يعمل لتكون لنا حياة أفضل، ولنرث معه الملكوت. وطبعاً هذا يُمثل فكر الانجيل المقدس (كما ذكرت أعلاه)، الذي أوحى به الرب منذ ألفي عام، وقد استشهد الأجداد والآباء لأجله، وهو ليس فكر أي جماعة بشرية أو طائفة مسيحية كما يروج البعض عن جهل، أو لغايات شخصية ضيقة .
إن الواقع صعب جداً في كنيستنا المسيحية جمعاء، والكلام ينخز في الوجدان، لكن تعالوا نتحاجج بمحبة وحنو على بعضنا بعضاً، وبدون رياء، والآخرين ليسوا بحال أفضل من حالنا، ويكفينا فخراً أن تكون بداية العودة للصواب من جانبنا، والفرصة بالتأكيد لاتزال سانحة لنُعيد لجماعتنا ألقها وأمانتها، وأن نهدم الحواجز التي تفصلنا عن عيش انجيل يسوع المسيح، حتى نكون حقاً إخوة في كنيسة الرب التي لن تقوى عليها أبواب الجحيم كما قال السيد المسيح للقديس بطرس
بقلم: كابي يوسف ـ كندا