تصلي الكنيسة في العالم كله لذكرى مرور أربعين يومًا على هؤلاء الشهداء الذين صاروا باكورة وصدى مدويًا وذبائح حية وفصحًا مستمرًا لن يُمحى… هؤلاء الشهداء وقّعوا بدمائهم وأرواحهم ورائحة أجسادهم المشوية أعمق بيان استشهادي في التاريخ الكنسي المعاصر… صاروا سياجًا يصدّ الرصاص والقنابل… فدوا الكنيسة بالدماء والحياة… دشنوا العتبات والمداخل والأعمدة بدمائهم وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت… نطقت معهم الحجارة ببقاء كنيسة الله الحي, وفي مذبحة جماعية سالت دماؤهم كالشلّال وتناثرت أعضاؤهم كالنهر حين يبلغ المصَبّ. صارت مداخل الكنيسة أضرحة لهؤلاء الشهداء فزيّنوا الزمان والمكان, اشتعلت الحناجر بالتنهدات وطلب المراحم في ساعات الظلمة مع بداية فجر نهار لسنة جديدة في التجربة العديدة.
عظام وجماجم وأعضاء ودماء تنساب وتسيل في مدينة الشهداء وفي بيعة مارمرقس الكاروز والقديس بطرس الشهيد حيث راية الصليب مرفوعة على المنارة وأجراس حزينة لكنها عالية, قلوب منفطرة, دموع وأنين مصحوبة بالتعزية والرجاء, من جموع غفيرة ثابتة وشجاعة تأبى الإنكار وتنطق بالاعتراف الحسن قبالة قوات الظلمة.
فمثلما قامت الكنيسة الأولى بتصوير أمثلة وصور الشهداء على الفريسكا والرخام والفخار والنقش على الأحجار لتعميق الوجدان عن طريق الرؤية, هكذا صارت الكنيسة بحجارتها وأبنيتها, نقوشها تضمّخت بالدماء والرُفات معلنة التوثيق اليقيني لملامح الاستشهاد المذهلة التي صارت لشعبنا القبطي وسجلت درجات أسطورية من الثبات والتعزية, وظهر ذلك النموذج لدى عائلات الشهداء والمعترفين ولدى شعب الكنيسة بالقطر كله.
لقد ذكر المؤرخون عن تأثير كرسي مدينة الاسكندرية الكبير على الحضارة المسيحية في أنحاء العالم, وكيف أن مدينة الاسكندية يمكن أن تفاخر قبل أية مدينة أخرى أنها صاحبة النصيب الأكبر في الجهاد من أجل انتشار الإيمان المسيحي وازدهاره, وهي أيضًا في صدارة المدن التي قدمت شهداء حتى اليوم, بحيث أنه لو وُضع شهداء العالم كله في كفة وشهداء كنيسة مصر في الكفة الأخرى لرحجت كفة شهداء مصر.
إن وقفتنا هي عند الصليب ونحن مدعوون للشهادة حتى نهاية الحياة عينها, من حيث هي سعي إلى الأمجاد الأبدية (مُعَقْلَن) ومنظم, فوجهة سيرنا معلنة منذ البداية حتى لا نفقد بُوصلتنا المؤدية إلى ميناء الخلاص بسلام. وكل الذين اتحدوا بالمسيح يعرفون أن موت المسيح هو النموذج والنمط لموتهم فيسلمون نفوسهم بإرادتهم ويستودعونها كما لخالق أمين…. المسيحي لا يسعى إلى الموت لكنه يعيش الحياة بكل ملئها كعطية إلهية, لكن حينما يأتيه الموت يتقدم إليه بشجاعة وثقة في الله القادر أن يقيمه… في استعداد من أجل الموت, شهادة على قيامة السيد الرب من بين الأموات وبرجاء قيامتنا العتيدة نحن أيضًا معه.
إن حياتنا لا تؤخذ في أسر الموت بل بالحري تُدفن وتقوم من جديد في مجد القيامة العامة, فالموت كان عقوبة الخطية وقد تحول لنا خلاصًا, بعد أن كسر المسيح شوكته بتدبيره الخلاصي, لهذا نؤمن بأننا سنحيا أيضًا معه بعد أن حوّل لنا العقوبة خلاصًا, فإن متنا كل يوم معه فسنتمجد معه, وكل ما نتعرض له من أجل اسمه سيكون لنا ذخرًا في الدينونة, فلا نجزع إذن ولا نرتاع بل نؤمن ونحيا ونصدق بما نؤمن به بمؤازرة فيض النعمة وعطية البر.
وسيكتب التاريخ كيف أن النظام السياسي الساقط قد اضطهد الكنيسة اضطهادًا كبيرًا يستحق التوثيق والتأريخ المدقق, وكيف أن وزير داخليته المقبوض عليه الآن كان عدوًا لدُودًا للمسيحية, وكيف أن المنوط بهم حراسة البلاد هم الذين خططوا ونفذوا جرائم التفجير والفتك بخراف المسيح, وسيكتب التاريخ كيف أن هذا النظام الساقط هو الذي أوغر صدور المتعصبين وحرض القتلة وأرباب السجون وأطلق أياديهم لإرهاب الأقباط وترويعهم وإضرام النيران فيهم وفي كنائسهم وبيوتهم وأرزاقهم, وسيكتب أيضًا التاريخ أنه في عهد حسني بن مبارك والي مصر أطلق يد وزير داخليته لقمع وسلب ومحاصرة الأقباط, وسيكتب عن حلقات الاضطهاد والمظالم المتراكمة خلال عصره البائد, بينما نحن نحسب أن تاريخ الكنيسة كله هو (زمن نعمة) كلما وهنت فيه شهادة الكلمة وانتهت شهادة الدم, غُيّب الإيمان… فليس خفي إلا وسيُعلن وها الغربلة قد صارت, وها روح الرب يحرك المياة الراكدة!! وتستفيق الشهادة, والشهداء المُحدِثون يعانقون شهداء البارحة, إنها نعمة فوق نعمة يضيفها العلي على حصاده, ويقلع بها كل زرع لم يزرعه الآب السماوي, ويعمل روح الله في من يشتاقون إلى مجيئه حتى تمتلئ المخازن السماوية قديسين.
إن دماءكم أيها الشهداء الأماجد الصارخة إلى الله أسقطت فوريًا القتلة وكشفت الكثير من جوانب موجات الضيق التي حاقت بالكنيسة المعاصرة على يد أولئك الذين أطلقوا الرصاص على شباب كنيسة نجع حمادي وعلى شباب كنيسة العمرانية قبل أن يرسلوا زبانيتهم ليفجروا أجسادكم وكنيستكم, لكن يد الله لم تقصر عن أن تخَلّص… فهم عثروا وسقطوا أما أنتم قمتم وانتصبتم… أنتم في الراحة وسجِلّ الخلود وشرف الإيمان, أما هم ففي خزي المذمة وعار الجريمة, سيهلكون وسيجازيهم الله ضيقًا, وقد تمت فيهم الأقوال الإلهية (قد رأيت الشرير عاتيًا.. فعبرت فإذ هو ليس بموجود.. طلبت مكانه فلم يُوجد مز 35:37) إن الله حافظ وديعته في حزمة الحياة أما ممالك الأشرار فتُباد, ومن يقاوم الله ترخص حياته وتُحتقر, وغدًا سيشرق نهار جديد بضياء أشعة نور سماوي ولكل شيء تحت السماء وقت.
بقلم: القمص أثناسيوس جورج