نشأت الثيؤطوكيات كأدب كنسي مكتوب يتضمن إيمان الكنيسة المحفوظ في وعيها وضميرها وتعليمها الشفاهي. وهي تتضمن خلاصة اللاهوت المريمي في قطع قبطية موزونة لتمجيد والدة الإله القديسة الطاهرة مريم، لتشرح في اصطلاحات لاهوتية عميقة رموز ونبوءات وتوصيفات وتشبيهات عن العذراء وسر التجسد الإلهي العجيب. لذلك حوت ألقابًا ومديحًا وتطويبًا للعذراء، عاشته الكنيسة على الدوام وإلى مدى الأجيال عبر العبادة الكنسية اليومية، مضافًا إليها ما انتهت إليه المجامع الثلاثة القانونية. وتدل هذه الثيؤطوكيات على أن واضعيها كانوا شخصياتٍ لاهوتيةً ونسكية بارعة، حرصوا أن يجعلوا اللحن صلاةً والصلاة لحنًا، وأدخلوا تفاسير الكتاب المقدس لآباء الكنيسة كمادة أساسية في العبادة، تشكِّل المفردات والاصطلاحات اللاهوتية الغنية في مضامينها، لتكون معبِّرة عن وحدة الحياة وما يغترفه المسيحي من معانٍ كتابية في صلواته اليومية، فلا يبقىَ الكتاب المقدس مصدرًا قائمًا بذاته منفصلاً عن الحياة الكنسية، بل مادة بناء للحياة المسيحية التَقَوية، وبالذات في العقيدة والليتورچيا… وقد أتت في جملتها غنية وخصبة بالإشارات والتفاسير والرمزيات ضمن التيار الروحي النسكي والليتورجي في وحدة وانسجام.
احتوت الثيؤطوكيات على لاهوت العهد الجديد الذي تحولت فيه رموز العهد القديم إلى حقائق إلهية، تمت بحسب تدبير النعمة لتكميل الخلاص في شخص مريم العذراء القبة الثانية المباركة، التي صارت قدس أقداس وفيها لوحَا العهد، تلك العذراء هي التي دلتنا على (اليوتا) اسم الخلاص، الذي تجسد منها بغير تغيير وصار وسيطًا لعهد جديد، ومن قِبَل رشاش دمه الكريم تطهرنا وتبررنا وفزنا بالرحمة… هذه هي العذراء المتسربلة بمجد اللاهوت من داخل ومن خارج، قدمت لله شعبًا وشعوبًا كثيرة من قِبَل طهارتها. هي قديسة كل حين لأنها قسط الذهب النقي التي في وسطها المن المخفي، حملت في بطنها المَنّ العقلي الذي أتى من الآب، ولدته بغير دنس ولا مباضعة. هي منارة ذهبية حاملة المسيح النور الحقيقي، وهي المجمرة الذهب النقي الحاملة الحجر المختار والبخور العنبري، حملت في بطنها غير المنظور كلمة الآب، هي الحمامة الحسنة وزهرة البخور التي أينعت، وهي عصا هارون التي أزهرت بغير غرس ولا سقي، مشتملة بالأنوار والطهارة وأعمال كريمة قيلت عنها، لأن الرب أشرق جسديًا منها، ومن قِبَلها رجع آدم إلى رئاسته دفعة أخرى… بسبب طهارتها أحببنَ العذارى الطهارة وصرنَ بنات لها، ومن قِبَلها نجد دالة عند الديان بعد أن صارت هي إكليل فخرنا ورأس خلاصنا وثبات طهرنا.
عالية هي الأعجوبة التي لولادتها، وعظيم هو مجد بتوليتها الكاملة، الذي جعلها كالسُلّم الذي رآه يعقوب ثابتة على الأرض ومرتفعة إلى السماء، جعلها كالعليقة المشتعلة التي لم تحترق، وككنز الجوهر التي وَلدت خالق الكل، وكباب المشرق المختوم بختم عجيب، دخل وخرج منه رب القوات وبقي مختومًا على حاله.
إن كرامة العذراء لا يُنطق بها، زينتها في السموات العلوية عن يمين حبيبها، والمواهب الإلهية التي نالتها كانت مواهب مضافة إليها وظلت كذلك، طهارتها خشب لا يسوَّس لأنها حازت من النعمة بالقدر الذي يؤهلها أن تكون أم القدوس، المظللة بقوة العلي (بالشكينة) فصارت عرشًا ملوكيًا للمحمول على الشاروبيم، وارتفعت عن الطبائع العلوية العقلية لأن الذي في حجرها الملائكة تسبحه والشاوربيم يسجدون له باستحقاق والسيرافيم بغير فتور… هي باب المشارق، الخدر الظاهر الذي للختن، وكلنا نسير في ضيائها لأنها ولدت لنا الحياة مخلص العالم الحي والمحيي. ولدت الحمل ومن مجده سَتَر كل عُري، ومن صوفه (ناسوته) وُلدت الطبيعة الجديدة وعدم الفساد، حملت بالظافر كسحابة نيِّرة ممطرة بالنعمة وخلاص العالم، لتُطفئ عطش حواء وتستر آدم الذي طردته نتانة العصيان… فكانت سحابة وعطرًا وبخورًا (اسطوينوفي) ومعملاً للاتحاد غير المفترق.
حقيقة إن هذه الثيؤطوكيات عميقة وغنية وزاخرة بالمعاني والحياة والأصالة وتحقيق النبوءات، ارتفعت درجتها الروحية فوق التعبير اللفظي بل وفوق المعقول… تتكشف معانيها بالبرهان العملي، وتتميز بأن جوهر الوزن فيها هو للوزن الفكري والإلهام، ولِمَا لا؟ ما دامت مريم العذراء هي فردوس الكلمة الحاوية للاهوت؟! فكل تمجيد للمسيح هو فخر للعذراء، ويُعتبر في حد ذاته مديحًا لها كأم المسيح، فلا يمكن فَهم قداستها وتمجيدها بعيدًا عن المسيح المتجسد، ففي تكريمنا لها مراجعة لكافة أحداث الخلاص بصفتنا مشاركين لا مشاهدين، نرقىَ إلى كرامة شهود عيان لتاريخ الخلاص، شهود يعاينون حياة المسيح عيانًا… هذه كلها حرص عليها الشاعر القبطي في وضع الثيؤطوكيات لتكون لنا نسيج قماشة التسبيح الذي لا يَعرف التقسيم العقلي الذي ساد مدارس اللاهوت في فصل التجسد عن الصليب والقيامة وأسرار الكنيسة… إنها أوبرا إلهية وسيمفونيات ومدخل إدراك الخلاص الذي يتحقق الآن في عبادة الكنيسة، فيتعظم مجد مريم وتطوِّبها الشعوب.
بقلم: القمص أثناسيوس چورچ