لقد برز الروم الملكيين الكاثوليك في مجتمعاتهم بحسب ما سمحت لهم الظروف والأنظمة القائمة ، فقد كانوا ، منذ تبلور طائفتهم ، في صميم العمل الوطني من خلال ممثليهم في المجالس الوطنية ، ووظائف بعضهم إلى جانب الأمراء فخر الدين المعني وبشير الثاني الشهابي ، إضافة إلى دورهم في إعلان دولة لبنان الكبير ، كما كان للروم الملكيين الكاثوليك دور بارز في مصر منذ الحملة الفرنسية وفي عهد محمد علي ، إضافة إلى كونهم رواداً في القطاع الصناعي ، ولقد شاءت الكنيسة الملكية الكاثوليكية أن تشكل من نفسها جسر عبور للقاء الشرق والغرب .
” لقد أراد الله بحكمته الأزلية أن نكون شهوده في هذه البقعة العزيزة من العالم ، وهي إرادة نفرح بها ونستجيب لها. إن كنائسنا راسخة في هذه الأرض وهي في قلب مجتمعاتنا تساهم في بناء الإنسان فيها وتشارك في الحياة العامة بكل أوجهها ومتطلباتها وصعوباتها وتضحياتها ، وتقف بجانب الفقير والمحتاج والمحروم والمظلوم ” بهذا الكلام توجهت الرسالة الرعوية الصادرة عن اجتماع رؤساء الكنائس في الشرق المنعقد في لبنان عام 2000 إلى شعوب المنطقة قاطبة ، هذه الشعوب التي تنوعت في أعراقها وطوائفها لتشكل بعد انصهارها في البوتقة العربية نسيجا مترابطا ، ومن هذه الطوائف ، هناك طائفة مسيحية نعرفها اليوم باسم طائفة الروم الملكيين الكاثوليك ، وهنا أحب أن أوضح ترابط هذه الطائفة مع القومية العربية ، موضحا دورها الهام في يقظة العرب لمساهمتهم في الحضارة الإسلامية .
للتعريف بهذه الطائفة، لا بد من العودة إلى زمن انتقال السيد المسيح إلى السماء ، حيث أنه بعدها ، توجه الرسل الاثني عشر ( وهم الحواريون حسب العقيدة الإسلامية ) إلى جهات متعددة من العالم القديم ، مؤسسين هم ومن جاء بعدهم من المؤمنين – مراكز رئيسية في أربعة من المدن الكبرى حينها (إضافة إلى القدس بعدها)، وسميت هذه المراكز ، بالبطريركيات ، وهي خمسة إنطاكية ( التي تمت فيها تسميتهم بالمسيحيين ) والإسكندرية والقسطنطينية والقدس وروما ( عاصمة الدولة البيزنطية ) ، وعندما كانت تستوجب الأمور العقائدية ضرورة اتخاذ قرارات ما، كانت تتم الدعوة إلى عقد مجمع كنسي في إحدى المدن للاتفاق على اتخاذ التوجيهات والتصحيحات الضرورية اللازمة .
إن تسمية الـروم الملكييـن الكاثوليك تنقسم إلى ثلاثة مراحل ، الأولى هي تسمية ” الملكييـن ” حيث أن تسمية ” ملكيين ” قديمة العهد وتعود إلى القرن الخامس الميلادي الذي شهد الخلاف بين مدرستي الإسكندرية وإنطاكية اللاهوتيتين ، عندما تبنى مجمع خلقيدونيا، سنة 451 ، وجهة النظر الانطاكية ، بدعم من البابا لاون الكبير(440 – 461) ، وتثبيت من الإمبراطور البيزنطي مرقيانس (450 – 457) ، مما زاد حدة الخلاف بين الفريقين . وانطلق أهل المعارضة في تحديهم للسلطة المركزية البيزنطية ، فأطلقوا على اتباع المجمع الخلقيدوني لقب ” الملكيين ” أي اتباع الملك ، نسبة إلى الإمبراطور مرقيانس ، في حين أطلق أنصار المجمع على المعارضة لقب اليعاقبة ، نسبة إلى يعقوب البرادعي، ويجب أن نوضح بأن الملكيين هم مؤمنوا البطريركيات الثلاثة الإسكندرية وإنطاكية والقدس ، وهي بطريركيات تقع في قلب الشرق، كما أنهم (الملكيون) تغذوا من تقليد آباء الكنيسة، من اليونان والسريان ، وحافظوا على شركتهم مع المركزين البطريركيين روما والقسطنطينية في وحدة إيمان الكنيسة التقليدي .
أما تسمية ” الروم ” فهي تسمية حديثة نسبيا، إذ لم تكن معروفة في الدولة الإسلامية ، فالاسم الذي كان شائعا آنذاك هو ” الملكية ” أو ” الملكانية ” ، وقد استمر معروفا حتى أوائل القرن الثامن عشر . أما كيف أطلق لقب ” الروم ” على الكنيسة الملكيـة فهذا يعـود – بحسـب البعض – إلى خطأ في التـرجمة الأجنبيـة للاسم ، فكلمة ” روم ” مقتطعـة من لفظـة ” رومانيين ” (ROMANIAN) الواردة في التواقيع السلطانية العثمانية، وذلك نسبة إلى الاسم الذي أطلق على القسطنطينية منذ تأسيسها، (روما الجديدة) ، وكون أن الكنيسة الملكية أنتسبت إلى القسطنطينية بتراثها الفكري واللاهوتي والفني واللغوي، فليس مستغربا ربط اسمها باسم القسطنطينية (آنذاك) وهو روما الجديدة .
أما الجزء الأخير من الاسم ، وهو الكاثوليك ، فناتج عن اتحاد فريق من الكنيسة الانطاكية الملكية بروما سنة 1724 ، لذلك عُرف المتحدون بروما بالروم الملكيين الكاثوليك . أما الذين عارضوا الاتحاد فقد عرفوا بالروم الأرثوذكس مسقطين عنهم لقب الملكيين .
أسس البابا أوربانس الثامن (1623 – 1644) ، مجمع انتشار الإيمان ، الذي اخذ على عاتقه نشر الكثلكة في الشرق ، وبدأت الكنيسة الجامعة في روما بإرسال موفدين ورجال دين إلى الشرق ، وكانت لمدينة حلب الدور الكبير في استقبالهم ، فلقد استقبل مطران حلب (للملكيين ، وقبل إضافة كلمة الروم) ملاتيوس كرمه المرسلين الأولين في دار المطرانية حيث انشأوا مدرستهم الأولى . وبعدما ترقى ملاتيوس كرمه السدة البطريركية لكرسي إنطاكية للملكيين عام 1634 ، تفاوض مع روما لإبرام معاهدة وحدة بين الكنيستين الانطاكية والرومانية ، إلا انه توفي في أثناء المفاوضات ، ولعله دفع حياته ثمنا لخطواته الوحدوية مع الكنيسة الكاثوليكية، إذ قد سرت إشاعات مفادها انه مات مسموما .
وبدأ تيار كاثوليكي قوي ينمو ويتسع داخل الكنيسة الملكية يتوجيه من رجال الدين اللاتين القادمين من روما وفي طليعتهم اليسوعيون، وذلك من خلال عمل الرهبانيتين المخلصية والحناوية (الملكيتين) . وفي العام 1683، عندما عين كاهن ملكي عربي من حلب ، هو إيوثيميوس الصيفي، مطرانا (أي رئيس أساقفة) على أبرشية صور التابعة لكرسي إنطاكية ، بادر المطران الصيفي هذا إلى إعلان اعترافه بسيادة بابا روما ، وهكذا بدأ الانشقاق في الكنيسة الملكية الانطاكية بين ما يسمى ” بالروم الكاثوليك ” و ” الروم الأرثوذكس ” .
وعندما سنحت الفرصة بوفاة البطريرك اثناسيوس الثالث (البطريرك الانطاكي) ، سنة 1724، وشغور الكرسي البطريركي الانطاكي ، عمد الفريق الكاثوليكي من الملكيين إلى انتخاب سيرافيم طاناس ، ابن أخت الصيفي وتلميذ مجمع انتشار الإيمان في روما ، بطريركا باسم كيرلس السادس ، ولأول مرة كان البطريرك عربيا وليس يونانيا ، وجرت الرسامة في دمشق ، في20 أيلول 1724، فاكتمل بانتخابه تنظيم الكنيسة الملكية الكاثوليكية الجديدة ، وجميع رجال كهنوتها بطبيعة الحال من العرب ، إلا أن الأساقفة الأرثوذكس التأموا في سينودس انتخابي في القسطنطينية ، في يوم الأحد 27 أيلول وانتخبوا سلفسترس القبرصي بطريركا على الكرسي الانطاكي الملكي ، وشهد خريف إنطاكية في العام 1724 ظهور بطريركين على الكرسي الملكي ، أحدهما أرثوذكسي تدعمه السلطة العثمانية والكرسي القسطنطيني، والآخر كاثوليكي يدعمه المرسلون اللاتين ، ويدعمه الكرسي الروماني بحذر .
لكن ذلك يجب أن لا يجعل الشك يساورنا ، إلى أن ما حدا بالروم الكاثوليك على الانفصال عن الروم الأرثوذكس لم يكن فقط العقيدة الدينية ، بل هو أيضاً ، ذلك الاستياء من سيطرة الكهنوت اليوناني الذي تزايد انتشاره في تلك الفترة بين الملكيين من ذوي الأوضاع المادية الحسنة في الشام ، وخاصة في مدينة حلب . وهكذا جاءت حركة الروم الكاثوليك منذ بدايتها حركة عربية في أساسها ، وان لم يعِ القادة الأوائل لهذه الحركة عروبة مراميهم . وهناك ما يدل على عروبة حركة الروم الكاثوليك عند قيامها. فعندما بدأ المتعلمون من الروم الكاثوليك يكتبون دفاعا عن ملتهم الجديدة لم يكتبوا إلا باللغة العربية ، واستخدموا لنشر كتاباتهم أول مطبعة عربية انشأوها هم أنفسهم في العالم العربي ، وقد أنشئت بادئ ذي بدء في حلب ، على يد المطران ملاتيوس كرمة ، ثم نقلت إلى دير القديس يوحنا الصايغ في الخنشارة بلبنان .
وعندما حاول البطريرك سلفستروس (البطريرك الملكي الانطاكي) إرغام جميع أبناء الطائفة الملكية على التجرد من آرائهم الكاثوليكية ، حظرت السلطات الرومانية على الكاثوليك الاشتراك مع الأرثوذكس في القدسيات وذلك سنة 1729، فتكرس انقسام الطائفة بذلك إلى شطرين ، وكان قبل ذلك أنصار الوحدة يعيشون حياة كنسية واحدة مع الفئة الأخرى .
واشتدت خلال عشرات السنين الاضطهادات على المتحدين بروما ، ويذكر التاريخ أنه في حلب قتل عشرة من الكاثوليك عام 1818 بحجة عدم خضوعهم لرئيسهم الشرعي (الأرثوذكسي) ، واضطر كافة الكهنة الروم الكاثوليك من مغادرة حلب واللجوء إلى لبنان ، وتمكنوا من العودة عام 1825 بعد اتفاق مع السلطات الأرثوذكسية تتيح لهم ممارسة خدمتهم الروحية تجاه الكاثوليك مقابل أن يدفعـوا لهم الرسوم المترتبة .
كما أن الروم الملكيين الكاثوليــك والروم الأرثوذكس في المشـرق العربي ، عارض كل منهما هيمنة الأطراف الأخرى عليه ، فالروم الملكيين الكاثوليك عارضوا سياسة طبع الطقوس الشرقية بالطابع اللاتيني للكرسي في روما ، والروم الأرثوذكس عارضوا السياسة الهلينية التي كانت تحرم على الناطقين بالعربية الوصول إلى الدرجات العليا من النظام الهرمي للكنيسة ، التي كانت تسيطر عليها الكنيسة اليونانية .
وقد ساعد بعد نظر البابا بندكتوس الرابع عشر في مساعدة الشرقين من الكاثوليك ، حيث ندد في رسالة له عام 1743 ، بانتقال الملكيين إلى الطقس اللاتيني (التقاليد اللاتينية وليس العقيدة الكاثوليكية) بتشجيع من فرنسيسكان دمشق : ” إننا نحظر ثانية على كل مؤمن من الروم الكاثوليك الانتقال إلى الطقس اللاتيني ونحظر على المرسلين…محاولة تحريضهم على انتحال الطقس اللاتيني ” وتأسست كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك بذلك، وساهمت في مسيرة القومية العربية، ووقفت بشدة أمام محاولات المس بالقضايا العربية عموما ، وباللغة العربية خصوصا ، ولا ننسى أن قرارا من مجمع التفتيش في الكنيسة الكاثوليكية بروما في 9 كانون الأول 1959، حظر على الكهنة الشرقيين الكاثوليك العاملين في أوروبا الغربية وأميركا استعمال اللغات المحلية ولو جزئيا ، فتصدى للقرار مكسيموس الرابع بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك تصديا حازما أحاط بالأمر قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرين ، فرجع مجمع التفتيش عن حظره ، كما يجب أن لا ننسى المواقف البطولية لرمز من الرموز الوطنية في العالم العربي وهو المطران هيلاريون كبوجي مطران القدس في المنفى لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك ، والذي سجنته قوات الاحتلال الإسرائيلي انفراديا ، اكثر من ثلاث سنوات .
هذه هي الطائفة العربية المسيحية التي قدمت في الماضي، وتقدم في الحاضر، وسوف تتابع عملها في المستقبل برفد الحضارة العربية بما يلزم في جميع الأوجه.
اللهم اشهد اني بلغت.
بعض المراجع
– بيت بمنازل كثيرة – الكيان اللبناني بين التصور والواقع – تأليف د. كمال الصليبي – منشورات مؤسسة نوفل – الطبعة الثانية – 1991 – بيروت – لبنان
– الملكيون – عقيدة وتراث – تأليف الارشمندريت اغناطيوس ديك – 1998 – حلب – سورية
– المسيحية والإسلام في الحوار والتعاون(9) – تراث وحداثة قراءة للفكر العربي الحالي – تأليف بولس الخوري – مركز الأبحاث في الحوار المسيحي الإسلامي – المكتبة البولسية – جونيه – لبنان – 1997
– تاريخ الكنيسة – ج 2 – الكنائس الشرقية الكاثوليكية – تأليف الأب جان كمبي – دار المشرق – الطبعة الأولى – 1997 – بيروت – لبنان
بقلم: المهندس باسل قس نصر الله
مستشار مفتي سورية