تعيش الكنيسة القبطية نهضة ليتورچية كبيرة في التسبيح. يتشارك فيها عشرات الآلاف من العابدين الساهرين المسبِّحين من الشعب البار الحافظ الأمانة، في ظاهرة تَقَوية رائعة تمتد عبر الزمان… فتراث كنيستنا الليتورچي موسوم بمذاقة الخبرة الروحانية التي لا تبدأ بالمفاهيم والنظريات بل بالتذوق الكياني والخبرة… كنيسة مسبِّحة مرنمة، كنيسة العيش واختبار الفرح الذي يعلنه صديق العريس. الفرح الكائن بذاته كالهواء الصافي في ضوء الشمس. الفرح المعطىَ مقدمًا للجميع، الفرح الهائل الفريد الكائن في التجسد الإلهي. الفرح الذي هو (سيمفونية) المعنى (للحاجة إلى واحد)… هذا الفرح والتسبيح والتمجيد لاستقبال مخلص العالم مشتهىَ كل الأجيال الكائن معنا (هيبّي إفكي نيمان).
هذا وترتب الكنيسة السهرات الكيهكية، ضمن خدمة إيقاعية مرافقة لسير الزمن حسب الطقس الكنسي، حيث نعيش سر التجسد حاضرًا ونحياه الآن في الكنيسة، فتذوب حياتنا في حياة صلاة الكنيسة المجتمعة، ويتناغم صوتنا الضعيف مع صوت الكنيسة الواحدة كلها، ويكبُر بانضمامنا لجموع المؤمنين عبر الأجيال كشهود عيان لتاريخ الخلاص، نعاينه عيانًا كرسم للأبدية في الزمن (ضمن الزمن دون أن يكون منه)… وبالتسبيح الأصيل والانجماع (قم انهض يا مسكين وإلبس ثوب اليقين…) تصير العبادة حلوة في حناجرنا أكثر من العسل، وتتجمع فينا الحواس بيقظة (نفسي وعقلي ارفعهما إلى السماء). ونتنبَّه إلى عمق معاني النص المقدس لسر التدبير، بالتأمل المتواتر في الهوسات الأربعة والثيؤطوكيات والإبصاليات والمدائح والطروحات والتفاسير، فتصير لنا زادًا روحيًا نتلمّس من خلاله إعلانات الله ومواعيده عن مجيء المخلص في ملء الزمان ليردنا مرة أخرى إلى الفردوس ويهبنا العتق من الفساد.
تبتدرنا تسبحة كيهك بالتسبيح لله صاحب المبادرة الخلاصية الذي سعى ليجتذبنا إليه، وأخذ الذي لنا ليعطينا الذي له… عبر أنبيائه القديسين الذي تعهدنا بهم، وصولاً إلى البشارة بولادة يوحنا المعمدان صديق العريس ليهيء الطريق قدامه، ثم البشارة المفرحة ل (م ر ي م) فخر الرتب، وزيارتها لإليصابات، ثم حدث الميلاد البتولي والطلقات الروحانية والعجب العُجاب كقول الأنبياء… فنهتف بفهم مع القوات العلوية وتمتلئ السماء والأرض بمجد الأعالي، وبالسلام على الأرض، وبمسرة الناس، حيث يجتمع الجميع معًا: العلويون والأرضيون، الذين في السماء مع الذين على الأرض، قطيعًا واحدًا في تسبيح الغلبة والخلاص (الهوس الأول)، وتسبيح الشكر للرب لأنه صالح، وإلى الأبد رحمته (الهوس الثاني)، وهو حاضر معنا وسط أتون برية العالم (الهوس الثالث)، ونسبحه مع كل نسمة ومع خليقته وجميع قديسيه (الهوس الرابع).
وتهدف الكنيسة عبر برنامجها أن تُعدّنا لنعيِّد لحياتنا ولخلاصنا الأبدي، لا لتذكار أو ذكرَى، لكن لقبول مسيح المذود الحي الحقيقي… نرى ونشهد ونُخبر بالحياة التي اُظهرت لنا، وللمولود الإلهي الذي وُلد لنا، واستَعلن نفسه حاضرًا دائمًا معنا… حيث التسبيح المتوازي والمتبادَل مع تعابير المجد اللائق لعمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، والذي صار لنا تسبحة دائمة في أفواهنا، نسبحه باحتراص ربوات مضاعفة.
وفي الشهر المريمي يقترن صوم الميلاد بالتسبيح والتهيئة لعيد الميلاد والإبيفانيا والأوكتاف بعد أربعين يومًا في عيد الختان، حيث يلتحم الصوم باللحن الكيهكي، كمصدر فرح روحاني لاستقبال كنز خلاصنا في المسيح، الذي هو ثمين وغالٍ جدًا ومتعدد المفاعيل. سرٌ لا يمكن فض ختومه أو إدراكه بكلمات بشرية، لذا نوقره بذبيحة تسبيحنا ثمار شفاهنا، فلا شيء يساوي معجزة خلاصنا وتقديسنا ومصالحتنا وتجديد خلقتنا واستعادة بنوّتنا بالواحد من الثالوث.
نهضتنا الليتورجية مصدر القوة الإلهية لحياتنا الروحية وانعكاس للشهادات النبوية ولرسالة الإنجيل وتفسيرات آباء الكنيسة… عندما نقف أمام تدبير الله الخفي الذي استُعلن لنا في تجسد الكلمة لتستودعه الكنيسة (سر جسده) والتي لا زالت تحيا انتظاره وآية حضوره الدائم فيها، وإعلان بشارته الخلاصية التي رفعت بشريتنا إلى السماء، حتى لا نحيا بأنفسنا بل بروحه القدوس. فبيت لحم هو بابنا المفتوح عبر طريق الجلجثة للحياة مع الله أو بالحري لحياة الله معنا، وكما تفرح العروس بعريسها، هكذا تفرح الكنيسة بربها وتُشرك معها الخليقة كلها في تسبيح الشكر لإله يعقوب.
في الكنيسة خيمة العجائب نتقدم في سبل البر عبر (مجرىَ) خلاص الله في التاريخ وحضوره فينا، فنتلذذ بالقدير وتجتذبنا أنوار بيت لحم، وتسبيح أصوات الملائكة لنعيش سنة الرب مستترين مع المسيح، مُحضرين هدايانا مع المجوس والرعاة للذي حل بيننا ونصب خيمته في وسطنا ورأينا مجده وأسس التدبير بالنعمة التي لتدبير الخلاص المعطىَ لنا من الآب والابن والروح القدس… معلنين العقيدة الخلاصية للثالوث التي هي رأس وأصل ومحتوىَ إيماننا وخلاصنا، والذي عليه تأسست الكنيسة (قلبي ولساني يسبحان الثالوث، أيها الثالوث القدوس ارحمنا).
إنها عبادة تحقق الوحدة بين الزمان الماضي والزمان الحاضر، أي بين الإعلان الإلهي وحاضر الكنيسة، وبلغة الليتورچية القبطية بين (كما كان) وبين (هكذا يكون)، من جيل إلى جيل وإلى دهر الدهور… وهكذا ننتقل بالتسبيح والتمجيد والبركات من التاريخ إلى الحاضر، الآن وهنا، فالبشارة والحبل الإلهي تصير فعلاً مضارعًا تامًا في حياة الكنيسة الآن!!!
ننتظر ونترقب ونشتاق لمسيحنا الذي تهللت كل الأمم بمجيئه عبر ليالي التسبيح، ويختمر فينا الوعي عبر الألحان والمدائح والشروحات والتطويب وترانيم الخلاص وتحقيق المواعيد… متجاوبين مع صدىَ النبوات والرموز والتشبيهات وصلوات الآباء. كذلك لا شك أن هذا التسبيح يخلصنا من الفردية والعُزلة والأتعاب النفسانية، ويوحِّدنا مع الكنيسة، فنتجاوز أوجاعنا البيولوجية وآلام زماننا الحاضر، ونعيش كعائلة سماوية مع مجمع المقدسين والأبرار المكمَّلين الفعَلة الأمناء، ومع محفل الملائكة، متأصلين في سماء اللاهوت وعبادة الكلمة المتجسد، الذي به وحده نكون أعظم من منتصرين، وفيه مركز الكون الذي يطلب وجه رحمته.
إنها نهضة ليتورچية ورحلة روحية نتلمس فيها البشارة والفرح العظيم والرؤىَ مع زكريا الكاهن وإليصابات ومع يوسف النجار حارس الميلاد البتولي، ونتلمّس الإيمان والصمت والسجود والابتهاج وحلول الروح القدس، وبخور يمين المذبح، وحضور جبرائيل الواقف قدام الله، وتسبحة عظائم القدير التي لسيدتنا وملكتنا العذراء كل حين. فليعِد الله علينا هذه الأيام بسِمة الفرح والثقة الغالبة على الملتصقين به، وليقبل ويكمل أعمال يديه، وليرفع عنا الأتعاب ويقرر لنا سلامه.
بقلم: القمص أثناسيوس چورچ.
الرب معكم.