“سيرة مار مارون على خطى تيودوريطس أسقف قورش” هو عنوان الكتاب الذي صدر باللغتين العربية والايطالية للباحثين الأبوين الفرنسيسيين باسكال كستلانا وروموالدو فرنانديز، وذلك بمناسبة الاحتفال بمرور 1600 عام على رقاد أبي الطائفة المارونية مار مارون(410 – 2010). وقد أهديا الكتاب لذكرى زميلهما الراحل الأب إنياس بنيا الذي توفي في 26 تموز 2010 ، والذي شاهد معهما لأول مرة في شباط 1971 قبر مار مارون في براد ودلّ على مكان وضع ذخائره.
يذكر المؤلفان في المقدّمة ان الكتاب ثمرة حبّهما للرهبان السوريين القدماء وخاصة الحبساء منهم والذين بفضلهم نشأت الأديرة الرهبانية وانتشرت.
تألف الكتاب من 120 صفحة أي 60 صفحة لكل من اللغة العربية والايطالية تخللها أكثر من 120 صورة ومخطط للتفاصيل الدقيقة من النقوش والرموز والمباني التي تناولها البحث الذي توزّع ضمن فصلين، تناول أحدهما مكان تنسك مار مارون والآخر مكان دفنه في بلدة براد. وقد زوّد الكتاب بخريطة رائعة لجبلي سمعان وحلقة من إعداد الخبير الايطالي لدى إيكاردا بييرو دالتان إعداد العام2008 ذكر فيها جميع المواقع الأثرية والطرق المؤدّية اليها في المنطقة الممتدّة من حلب الى باب الهوا غرباً وحتى قورش والحدود التركية شمالاً(وقد قمتُ بترجمتها الى العربية ووضعتها مع الطبعة الجديدة لكتابي عن كنيسة القديس سمعان العمودي وآثار جبلي سمعان وحلقة).
وانطلق الباحثان من سيرة مار مارون بحسب كتابات تيودوريطس أسقف قورش معرّفين بسيرة الأسقف ولمحة عن مدينة قورش(سيروس/النبي هوري حالياً) عبر التاريخ، وأن مار مارون لم يعش في أبرشية قورش بل في منطقة قريبة منها على قمة جبل كان فيه معبد وثني حوّل الى كنيسة. وبعد مناقشة المعابد الوثنية في المنطقة والاستدلال بالمواقع الأثرية المزارة توصّل الباحثان بالمنطق الى ان مار مارون عاش على قمة الجبل حيث تقوم قلعة كالوطه التي حوّلت من معبد الى كنيسة ثم الى قلعة في القرن العاشر للميلاد.
وبيّن الباحثان في الفصل الثاني مكان دفن مار مارون في براد مبتدئين بوصف أهمّية بلدة براد كما بيّنها بطلر مدير البعثة الأمريكية الأثرية لجامعة برنستون الى ىسورية في الأعوام 1899، 1904 و1909، وذكرا الوصف والصور التي أخذها الباحث جان لاسوس زميل الباحث الكبير جورج تشالنكو العام 1947 لكنيسة جوليانوس والجناح الشمالي الشرقي الذي أضيف اليها لاحقا ليتوصّلا بعد محاكمة منطقية الى أنّ الجناح المضاف هو المكان الذي دفن فيه مار مارون المتوفى حوالي العام 410 م، ووضعا صورا مع جرن الذخائر أخذاها للموقع في شباط 1971.
ومن المعروف انه تم تحديد تاريخ وفاة مار مارون بين 406 و423 م لأن تيودوريطس الذي كتب “التاريخ الديني” أو “أصفياء الله” العام 444 م ذكر ان يعقوب تلميذ مار مارون تنسك 38 عاما وعاش فترة قبل تنسكه مع مار مارون. إذن نصل بحذف 38 عاما من 444 الى العام 406 حيث كان مار مارون حياً. أما التاريخ النهائي 423 فهو تاريخ أسقفية تيودوريطس وكان مار مارون قد توفي. وهناك رسالة موجهة الى مار مارون من القديس يوحنا ذهبي الفم العام 407 لذلك يجمع الباحثون على تحديد وفاة مار مارون حوالي العام 410.
ويجمع كذلك الباحثون اليوم على مكان دفن مار مارون في براد وفي الجناح الذي أُضيف الى كنيسة المعمار جوليانوس التي حوّلت من معبد وثني الى كنيسة العام 398 – 402 م، وأضيف اليها جناح حوالي العام 410 م ليضم رفات مار مارون، ويقع جرن ذخائر مار مارون الى الجنوب من الحنية الصغيرة المضافة الى الكنيسة.
توضيح وتعليق:
كان الهدف من الكتاب بيان اطلاع الآباء الباحثين على مكان دفن مار مارون منذ العام 1971(وليس كما صرّح الباحث غسّان الشامي في كتابه “في ديار مار مارون” انه كان أول من أزال التراب عن قبر مار مارون في براد عام 1999)، وكذلك بيان مكان تنسّك مار مارون في قلعة كالوطه وليس في كفر نابو، كما بيّن الأب بطرس ضو في كتابه “تاريخ الموارنة”، وتبنّى الرأي نفسه الباحث غسان الشامي دون محاكمة منطقية. وأعتقد ان الرجوع عن الخطأ فضيلة. وأضيف الى ما ذكره الباحثان ان كفر نابو بلدة صغيرة مزدهرة فيها كنيستان وفيلات ومعاصر وفندق…ولا تصلح لتكون مكان تنسّك مار مارون الذي عاش في مكان منعزل في العراء. ولو فرضنا جدلا ان مار مارون عاش فيها لكان أهلها أولى من سواهم بحفظ جثمانه لديهم، ولن يمكّنوا آخرين من أخذ رفاته كما فعل أهل براد.
وفي الخاتمة يرجّح الباحثان الى حدّ التأكيد ان القديس مارون عاش في العراء على قمة قلعة كالوطه وشفى الكثيرين من أسقامهم الجسدية وقدّم المشورة الروحية للعديد من النفوس العطشى الى الرب، وهناك تكوّنت مجموعة من أتباعه أرادت الاقتداء به. وفي آخر أيامه عندما توفي قام صراع، حيث كان يعيش في المكان المنعزل أعلى الجبل، تمكّن أهل مدينة براد الأكثر عددا والأشدّ بأساً من الحصول على الجثمان المقدّس ودفنه في جناح ضريح ألحق بكنيسة جوليانوس.
ويتابع الأبوان الباحثان: يصمت التاريخ عن الفترة الزمنية التي كُرّمت فيها رفات مار مارون في براد، وقد تَكشف لنا يوماً مخطوطة أحد الرهبان ما نجهل. ويلمّحان الى عادة سرقة المحتضرين والموتى القديسين حيث كانت تنقل رفاتهم الى مدن أخرى للتبارك بها. لذلك يجب أن لا نستغرب إذا كانت جمجمة مار مارون قد تمّ نقلها الى مدينة فولينيو(إيطاليا) وبقيت هناك الى أن أعيدت قبل بضع سنوات الى كفر حيّ في لبنان إثر مطالبة السلطات الدينية اللبنانية بها.
ويبدو نفَس الأب روموالدو واضحاً في الكتاب من خلال الزخم في رموز وصلبان ونقوش المباني الدينية التي اختصّ بها، كما بيّن في المراجع أسماء الكتب التي اعتُمد عليها وفي مقدّمتها كتبهم المشتركة أو المنفردة التي ألّفوها عن حياة النساك وآثار جبال الكتلة الكلسيّة شمال غرب سورية.
مع الذكريات القديمة والحديثة:
بالعودة الى أرشيف الصور الذي يحتاج الى تنظيم آمل ان أتفرّغ له يوماً، وجدتُ رسالة وجّهها اليّ الأب باسكال العام 1972 خلال إيفادي الى ألمانيا الديمقراطية ، ما يدل على مرافقتي الآباء في جولاتهم منذ ذلك التاريخ. وأذكر زيارتي براد مع الآباء الباحثين الثلاثة والصديق المرحوم صبحي الصواف بين أوائل السبعينات وقبل العام 1977 تاريخ وفاة المرحوم الصوّاف. كما أذكر انني زرت معهم مرة أخرى دير براد وأخذتُ لهم صورة أعتزّ بها وهم يقيسون الأبعاد لموقع عمود الناسك العمودي(صورة ) الذي لمّح الأب جوليان لاحتمال وجوده في دير براد خلال زيارته لآثار المنطقة العام 1888 كما بيّن في كتابه بعنوان”سوريا وسيناء”. وقد تأكّد للآباء وجود الناسك العمودي في دير براد وكتبوا عنه في كتابهم الثاني بعنوان “النساك السوريون في الأبراج”.
تكلمتُ عن مار مارون ودفنه في براد في كتابي “كنيسة القديس سمعان العمودي وآثار جبلي سمعان وحلقة” الذي صدر عن دار ماردين بحلب بمناسبة الاحتفال بمرور 1500 عام على إنشاء كنيسة القديس سمعان العمودي (491 – 1991) وتأخّر طبع الكتاب حتى العام 1995.
تعرّفتُ على الباحث الأستاذ غسّان الشامي خلال زيارته لبراد مع العماد ميشيل عون وقابلته في فندق الشيراتون بحلب في 10/2/2010 بعد تصفّحي السريع لكتابه “في ديار مار مارون” الذي طبع منه باللغات العربية والفرنسية والانكليزية 40000 نسخة وزّعت مجانا مع CD على الجماهير في براد وفي لبنان، ولاحظتُ انه لم يذكر كتابي بين المراجع. سعيتُ للقائه وإبداء إعجابي بالكتاب الرائع. عندما قابلته في بهو الشيراتون كان لديه صديقان من الطائفة المارونية (الأب أنطوان هب الريح والمهندس أنطوان بغدود)، سألته اذا كان قد اطّلع على كتابي عن القديس سمعان العمودي فأجاب بالايجاب، خجلتُ أمام الصديقين أن أسأله لماذا لم تذكره بين المراجع. وسعدتُ بأخذ صورة تذكارية معه(الصورة ) وهنّأته على الكتاب.
عندما قرأت بامعان كتابه الذي يذكر فيه انه أوّل من أزال التراب عن قبر مار مارون العام 1999، وعمل الفيلم الوثائقي عن مار مارون مع الفنان الممثل السوري جمال سليمان عام 2000، عرفتُ عندها لماذا لم يذكر اسم كتابي بين المراجع وقد ذُكر فيه مدفن مار مارون في براد عام 1995.
ربما كان عليه أن يذكر انه كان أول من أزال التراب عن قبر مار مارون بعد الأب بطرس ضو بين الأخوة اللبنانيين. أما في سورية فيبدو انه لم يطلع على مقالة “أين تنسّك مار مارون” التي نشرها الأب باسكال كستلانا بالايطالية العام 1982 في القاهرة، ويذكر تنسكه في قلعة كالوطه وليس في كفر نابو كما ذكر الأب بطرس ضو ويفنّد الأسباب المؤدية الى ذلك. لقد أوضحتُ ذلك في مقالة بعنوان ” لغز ديار مار مارون” نشرتها في مجلّة “المشرق” العدد الذي صدر عن كانون الثاني – حزيران عام 2011 . وأكرّر بمحبّة: الرجوع عن الخطأ فضيلة، إنّ مار مارون تنسك في قلعة كالوطه وليس في كفر نابو. وتعالوا نبحث عن دير مار مارون حيث عاش تلامذته، وهو حلقة الوصل بين براد وجبال لبنان. علّنا نجد في المخطوطات وكتب التراث خيط نور يوصلنا الى مزيد من المعرفة.
ومرّة أخرى شكراً للباحثين عميد آثار الكتلة الكلسية الأب باسكال كستلانا متّعه الله بالصحة الجيّدة وقد بلغ التسعين من العمر والأب روموالدو ناسك دير مار بولس في الطبّالة (دمشق) الذي كان كتابه هذا، بالاضافة الى الحقيقة العلمية الخالصة، كلمة وفاء لذكرى مواطنه ورفيق دربه الأب إنياس بنيا رحمه الله.
إنّه كتاب رائع ورصين يضاف الى المكتبة الأثرية المسيحية والى تاريخ الطائفة المارونية بشكل خاص، وينمّ عن عبق القداسة الذي ينضح من بلادنا الحبيبة.
عرض وتعليق: المهندس عبدالله حجار