إن أوّل من استعمل صليب الأرض المقدسة كان الفرنجة أيام غودفروَا دو بويون الذي أصبح ملك القدس بعد احتلالها العام 1099 مع تأسيس الإمارات الصليبية في الشرق.
يتألف صليب الأرض المقدّسة من صليب كبير متساوي البعدين يمثل مملكة القدس التي احتلّها الفرنجة العام 1099. أما في المربعات الأربعة حول مركز الصليب الكبير فكانت هناك أربعة صلبان متساوية صغيرة تمثل الامارات الصليبية التي أسستها الفرنجة وهي إمارة الرها (إديسّا) وأنطاكية وطرابلس وكيليكيا (أرمينيا الصغرى) وعاصمتها سيس. ومن المعروف انه تمّ استرداد القدس العام 1187 م على يد صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطّين وقبلها استُرِدّت إمارة الرها على يد الأتابك عماد الدين زنكي العام 1144 م، واستعاد السلطان الظاهر بيبرس أنطاكية العام 1268م واستعاد السلطان قلاوون طرابلس العام 1289 م كما استعاد المماليك كيليكيا العام 1375 م. وكان هناك في فترة احتلال الفرنجة لبلادنا رهبان فرسان محاربون هم فرسان المستشفى وفرسان المعبد، انتهى دورهم بسقوط المملكة والامارات الصليبية في الشرق.
جاء القديس فرنسيس الأسيزي (1182 – 1226 م) ورهبانه المسالمون الى الشرق تحدّياً لحروب الفرنجة، وكان شعاره غزو الشرق بالمحبة وليس بالسيف والقوّة. قابل الملك الكامل بن الملك العادل أخو صلاح الدين الأيوبي العام 1219م في بلدة دمياط (أحد فروع نهر النيل في مصر). وقد سُمح له مع رهبانه بالتجوال في الأراضي المقدّسة. وسُمّي تلاميذه “رهبان الحبل” لتمنطقهم بحبل أبيض حول الخصر يتدلّى منه ثلاث عقد تمثّل الفقر والطاعة والعفّة (البتولية)، وهي الصفات التي ينذر الراهب الفرنسيسي العيش في فضائلها طيلة حياته.
تبنّى القديس فرنسيس “صليب الأرض المقدسة” شعاراً له وقد أضاف اليه اليدين المتقابلتين رمزاً للعيش مع السيد المسيح المصلوب وقد ظهرت فعلاً جراحات السيد المسيح في جسد قديسنا العظيم، كما ترمز للقاء الانسان العادي والراهب في محبة القريب والعمل لخلاص النفوس. كان مار فرنسيس نصير البيئة من حيوان وطبيعة وجماد محبّاً لكل أنواع المخلوقات وفي مقدمتها القريب. ومن الصلوات التي كان يتلوها هذه الصلاة:
يا رب إجعلني أداة لنشر سلامك
حيث تكون الكراهية إجعلني أزرع الحب
وحيث يكون الظلم إجعلني أزرع المغفرة
وحيث يكون الشك أزرع الايمان
وحيث يكون اليأس أزرع الأمل
وحيث يكون الظلام أزرع النور
وحيث يكون الحزن إجعلني أزرع الفرح
واجعلني لا أبحث عن تعزية لنفسي بقدر تعزيتي للآخرين
وأن أفهم الآخرين أكثر من أن يفهمني الآخرون
وأن أحِبّ أكثر من أن أُحَبّ
لأنّه بالعطاء نُعطى وبمسامحة الآخرين يُغفَر لنا
وبالموت نولد في الحياة الأبدية.
مع هذه الروح المتسامحة والمنفتحة لا نستغرب أن يجعل البابا يوحنا بولس الثاني بدءاً من العام 1986 من “أسيزي” مدينة القديس فرنسيس مكان لقاء في حوار الأديان من أجل السلام.
ومن المعروف ان أول رهبان فرنسيسيين وصلوا حلب أيام الأيوبيين بناء على اتفاقية بين البابا غريغوريوس التاسع والملك العزيز محمد بن الظاهر غازي العام 1238م، وذلك لتقديم الرعاية الروحية لسجناء الفرنجة في سجون قلعة حلب حتى يتم إطلاق سراحهم بدفع الفدية المطلوبة عنهم. وأقام رهبان مار فرنسيس في أماكن متفرّقة من حلب قرب باب أنطاكية وفي حي “الجديدة” .. كان آخرها في خان الشيباني (جنوب الجامع الأموي الكبير) حيث أسّسوا الى جانب ديرهم وكنيستهم أول مدرسة ثانوية بحلب العام 1859 هي معهد الأرض المقدسة College de terre sainte سبقت بِ33 سنة المدرسة الحكومية الثانوية “السلطاني” (التجهيز الأولى أو المأمون) التي تأسست العام 1892، وخرّجت شخصيات مرموقة تابعت دراستها في الجامعات مثل الدكتور ناظم القدسي والدكتور مصطفى العطار والدكتور أدولف بوخه والاستاذ جبرائيل غزال والدكتور أنور حاتم وسواهم من كبار تجار ووجهاء حلب.
ونذكر اليوم فضل الرهبان الفرنسيسيين الآباء إنياس بنيا وبسكال كستلانا وروموالدو فرنانديز، عن طريق كتبهم التي زادت على العشرة كتب أصدروها خلال عملهم الدؤوب طيلة أربعين عاماً، في التعريف بالحياة النسكية والتراث الحضاري الانساني الذي تجلّى في الكنوز الأثرية للكنائس والمباني المنتشرة في الريف السوري، ما يشكّل في توثيقه لبنة أساسية في تنشيط السياحة الثقافية الدينية، وفي طريق التنمية المستدامة التي يُطمَح اليها في الريف السوري. رحل الأبوان إنياس وباسكال عنا الى الأخدار السماوية، الاّ ان أحجار دروب القرى الأثرية المنسية تحنّ الى وطء أقدامهم الطريّة. نسأل لهما من الباري الرحمة وذكر الطيبين المنتجين يدوم الى الأبد.
إعداد: المهندس عبد الله حجار
بمناسبة تذكار عيد مار فرنسيس الأسيزي الواقع في 4 تشرين الأول من كل عام.