نشر في ما يلي النص الكامل لمقالة “الثالوث الأقدس الإله الواحد الحق” للدكتور روبير شعيب* التي نشرت سابقاً على صفحة زينيت في أقسام عدة.
كشف لنا يسوع أن “الله محبة” (1 يو 4، 8. 9). لقد بين عن ذلك في كلماته، في أفعاله، في حياته وفي مماته، موت الصليب. إن التجسد بحد ذاته هو كلمة حب بليغة، هو إعلان حب وكشف عن حب الله. يعلمنا ديونيسيوس الأريوباجي أن “المحبة هي قوة مُوَحِّدة”، والتجسد إنها هو اتحاد الله بطبيعتنا لكي يرفعها، لكي يؤلهها.
في صلاة من الليتورجية الافخارستية بحسب الطقس الماروني، نجد تعبيراً جميلاً للوحدة التي نتحدث عنها: “وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك. أخذت ما لنا، ووهبتنا ما لك، لتحيينا وتخلصنا لك المجد إلى الأبد”.
“الله محبة” يعني أمرين اثنين: إن كل أفعال وصفات الله هي أفعال محبة، وقبل كل ذلك، الله هو محبة في ذاته، في كيانه الأعمق. سننطلق من البعد الأول، الذي هو بعد تصرف الله نحو الخلائق، لكي ننظر في ما بعد في كيانه الذاتي بحسب الوحي الإلهي.
الله ليس إلا محبة
لا يمكننا أن نفهم معنى “الله محبة” إلا إذا فهمنا أن الله ليس إلاّ محبة. فمن السهل أن نعتبر المحبة من بين مختلف صفات الله، ولكننا لا نصل بهذا الشكل إلى إدراك جذرية إله المسيحيين. يدعونا الأب اليسوعي فرنسوا فاريون للمرور في نار النفي. ومن خلال مقاربة تكاد تكون استفزازية يتساءل اللاهوتي: هل الله كلي القدرة؟ ويجيب: كلا، الله ليس إلا محبة؛ هل الله لا متناهٍ؟ – كلا، الله ليس إلا محبة.
ويشرح فاريون أجوبته لافتًا إلى أن كلية قدرة الله وقوته لا علاقة لها بقوة ديكتاتور متغطرس أو قوة قنبلة نووية مدمرة. يجب أن ندرك أن كلية قدرة الله هي كلية قدرة الحب وأن الله لامتناهٍ بمعنى أن حبه لا حد له، حبه هو اللامتناهي.
بكلمات أخرى، الله لا يستطيع أن يفعل إلا ما يستطيع الحب فعله، والله لا يستطيع أن يريد إلا ما يريده الحب، والله لا يستطيع أن يكون إلا ما يستطيع الحب أن يكون.
هذا الإطار يبدل كل نظرياتنا وأفكارنا بشأن الله. إن الكثير من الملحدين لم يكونوا ليعتنقوا الإلحاد لو لم تكن فكرتهم بشأن الله غريبة وغير مقبولة لدرجة أنه يمكننا أن نقول مع خوان آرياس: “لا أؤمن بهذا الإله”. فما من مؤمن يقبل بإله من هذا النوع. يجب علينا أن نعمِّد صورتنا وفكرتنا عن الله، أن نمررها بمنخل يسوع. التبشير الجديد يبدأ هنا.
إن الإنجيل هو مقياس يؤهلنا أن نقيس ونوطد فكرتنا بشأن الله. من يرى يسوع يرى وجه الله الحق. عندما ينطق يسوع بالتطويبات، عندما يلخص الشريعة بوصيتي محبة الله ومحبة القريب، عندما يغفر الخطايا، عندما يعانق الأطفال ويعلّم البسطاء، عندما يحب حتى المنتهى فينحني عند أقدام تلاميذه ويغسلها، عندما يموت غافرًا ومسلمًا روحه في يدي الآب… مع قائد المائة، ننظر إلى يسوع هذا، ونرى كيف عاش ومات ونعلن إيماننا: “كان هذا الرجل حقًا ابن الله” (مر 15، 39).
عندما نتأمل بحياة يسوع ندرك أن “الحب ليس صفة من صفات الله، بل إن صفات الله جميعها هي من صفات المحبة” (فرنسوا فاريون). الارتداد الحق هو تحويل نظرتنا بشأن الله، تغيير عقليتنا، تغيير نظرتنا؛ لا يجب أن نخلق الله على صورة أفكارنا بشأنه، بل أن نحول فكرتنا بشأن الله من خلال التبحر والتأمل بحبه الذي ظهر لنا في يسوع المسيح
الله الآب بحسب الأديان وبحسب يسوع
يسوع ليس أول من استعمل كلمة “أب” للحديث عن الله. هوميروس في الأوديسيا يسمي زيوس “أب البشر والآلهة”. وفي طقوس ميترا الأسرارية يُسمى الإله “أب المؤمنين”. وتُعلم الـ “ريغ فيدا”، الديانة الهندية القديمة، أن النبات يأتي من اتحاد الأرض الأم (بريثيفي) مع السماء الأب (دياوس بيتا).
هذا وإن الأبوة الإلهية في الأديان كانت تؤدي إلى الحلولية. فالأرض ليست مخلوقة من الإله، بل هي تنبع منه مثلما ينبع النور من الشمس.
لهذا السبب، كان العهد القديم حذرًا جدًا في استعمال “الأبوة” في الحديث عن الله. وعندما يتحدث عن هذه الأبوة فهو يشير إليها بتوضيح ضروري.
التوضيح الأول يربط أبوة الله بالعهد، بالميثاق. فإسرائيل هو ابن الله بفضل اختيار الله له وأمانته للعهد (راجع خر 4، 22 – 23؛ تث 14، 1 – 2).
المعنى الثاني يشير إلى الفداء. فالله هو أب لإسرائيل لأنه يفدي ويخلص شعبه: “أنت، أيها الرب، أبونا، من الأزل دُعيت مخلصنا” (أش 63، 16).
المعنى الثالث يشير إلى الخلق. “أنت يا رب أبونا، ونحن كالخزف بين يديك. أنت تصوغنا، ونحن جميعًا عمل يديك” (أش 64، 7). الله أب بمعنى أنه الخالق الحنون. إن فكرة “الخلق” تنفي كل مفاهيم الحلولية وانبثاق الخليقة من الله، وتقيم فصلاً واضحًا بين الخالق والخليقة.
قلما يتوجه العهد القديم إلى الله فيدعوه “آب” بالصلاة. وعندما يستعمل ذلك، يربطه دومًا بكلمة “رب” للتشديد على سمو الله. نرى مثالاً على ذلك في سفر ابن سيراخ: “أيها الرب، أب حياتي وإلهها…” (23، 4).
هناك أمر لافت في العهد القديم: إن أبوة الله لا تأخذ طابعًا أبويًا حصريًا، بل يستعين الكتّاب الملهمون بصور وخصائص أمومية. فيتم التعبير عن رحمة الله، على سبيل المثال، من خلال الحديث عن الرحم الأمومي (رحميم بالعبرية). إن حب الله لنا هو أمومي، ينبع من الأعماق، هو متجذر بكيانه الأعمق.
حنة باربارا غرل تبين كيف أن الكتاب المقدس يقدم ما لا يقلّ عن 20 صورة أنثوية للحديث عن الله. “مثلما تعزي الأم ولدها، هكذا أعزيكم أنا” (أش 66، 13). لقد أصاب ذلك الطفل الذي أجاب على السؤال عما إذا كان الله أبًا أو أمًا عندما قال: “إن الله أبٌ يحب بقلب أًم”.
ولكن هناك أمر آخر هام: إن كُتّاب العهد القديم، لا يكتفون باستعمال التشابيه الأبوية والأمومية للحديث عن الله، بل يبينون كيف أن أبوة وأمومة الله تتجاوز المحدودية التي تميز هذه الأدوار البشرية. نستشهد بآيتين لإيضاح الفكرة: ” قالت صهيون: ’تركني الرب ونسيني سيدي‘. ’أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لا أنساك” (أش 49، 14 – 15). وأيضًا: “إذا تركني أبي وأمي فالرب يقبلني” (مز 27، 10).
ميزة العهد الجديد
مع العهد الجديد نرى تحولاً جذرياً. يسوع يتوجه دوماً إلى الله بكلمة “آب”. هناك استثناء واحد، عندما يصرخ يسوع على الصليب: “إلهي، إلهي، لِمَ تركتني؟” ولكن هذا الاستثناء يثبت القاعدة لأنه استشهاد بالمزمور 22.
يتوجه يسوع دوماً إلى الآب بدالة لا سابق لها، ويستعمل كلمة تُستعمل في الإطار البيتي الحميم: “أبّا” (مر 14، 36). لقد انطبعت دالة يسوع هذه في قلب التلاميذ لدرجة أنهم نقلوا الكلمة بالأصل الأرامي حتى في الأناجيل المترجمة إلى اليونانية (راجع روم 8، 15؛ غل 4، 6).
يعلم الناصري تلاميذه النظر إلى الله كأب صالح: “من منكم إذا سأله ابنه رغيفا أعطاه حجرا، أو سأله سمكة أعطاه حية؟ فإذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تعطوا العطايا الصالحة لأبنائكم، فما أولى أباكم الذي في السموات بأن يعطي ما هو صالح للذين يسألونه!” (مت 7، 9 – 11).
يدعو يسوع تلاميذه لكي يكونوا كاملين ورحماء مثل أبيهم السماوي (راجع مت 5، 48؛ لو 6، 36) الذي “يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل المطر على الأبرار والفجار” (مت 5، 45). ويعلم يسوع تلاميذه أن يتوجهوا إلى الآب بالصلاة بدالة الأبناء قائلين: “أبانا” (راجع مت 6، 9؛ لو 11، 2).
بحق يلخص المؤرخ أدولف فون هارناك النواة الأساسية في المسيحية خصوصاً في “إعلان أبوة الله”.
هل كان يسوع يدرك أنه الله؟
رغم أن يسوع علم تلاميذه أن يتوجهوا إلى الله كآب، إلا أنه لم يُقِم أي رابط مساواة بين علاقته بالآب وعلاقة البشر به. نجد في كلام يسوع تمييز كبير بين “أبي” و “أبيكم” (راجع يو 20، 17).
يقول اللاهوتي لويس فرنسيسكو لاداريا: “لا نجد أبداً في العهد الجديد مقولة يضم فيه يسوع نفسه إلينا وكأننا على المستوى نفسه. فعلاقة يسوع بالآب هي فريدة لا تتكرر. هذا الأمر يظهر إن في كلماته وإن في تصرفاته، وبشكل خاص في صلاته الفردية”.
إن بنوتنا تختلف كلياً عن بنوة يسوع. لا بل نحن أبناء بفضل بنوة يسوع الفريدة. فنحن نضحي “أبناءً بالتبني من خلال يسوع المسيح” (أف 1، 5؛ غل 4، 5). وكما يشرح بشكل جميع القديس إيرناوس: “نحن أبناء بالابن”.
سنقدم بعض الشواهد الكتابية التي تثبت ما نقوله:
يتحدث يسوع عن الله دوماً كـ “أبي” (راجع مت 7، 21؛ 10، 32؛ 11، 27؛ 16، 17؛ لو 2، 49؛ 10، 22؛ يو 2، 16؛ 5، 17، إلخ). في الأناجيل الإزائية، يتم الحديث عن يسوع كـ “ابن الله” في لحظات محورية من سيرته: في البشارة (لو 1، 35)، في المعمودية (مت 3، 17؛ لو 3، 22)، في التجلي (مت 17، 5؛ مر 9، 7)، في الموت على الصليب (مت 27، 54؛ مر 15، 39).
هذا وإن أعداء يسوع بالذات يؤكدون تحت الصليب أنه قال عن ذاته: “أنا ابن الله” (مت 27، 43).
ويقدم لنا إنجيل يوحنا إطاراً متيناً وغنياً يكشف عن العلاقة الفريدة بين الآب ويسوع. فيسوع يتحدث عن ذاته دومًا كـ “الابن” بإشارة واضحة جداً إلى الآب. ويقول علانية “ابن الله” (يو 11، 4)، و “الابن الوحيد” (يو 3، 16).
هذا ويفتتح الإنجيلي مقدمة إنجيله بالاعتراف بألوهية يسوع: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله والكلمة كان الله” (يو 1،1) وبالشكل عينه يختتم المقدمة الشعرية: “الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي الله والذي هو في حضن الله، كشف عنه” (يو 1، 18).
وفي ختام إنجيل يوحنا نسمح الإنجيلي يعلن عن مقصده في كتابة الإنجيل: “لكي تؤمنوا بأن يسوع هو المسيح، ابن الله، ولكيما، بإيمانكم به، تكون لكم الحياة باسمه” (20 ،31).
هذا وإن الأناجيل الأربعة هي مشبعة بإعترافات الناس بأن يسوع هو “ابن الله”.
إذا ما تعمقنا في قراءة الأناجيل، نرى أن يسوع لا يعتبر نفسه “ابن الله” مثل أحد أبرار العهد القديم. يسوع يدعو نفسه ابن الله بمعنى المساواة والوحدة مع الآب. لهذا السبب كان اليهود يريدون أن يرجموه، لأنهم كانوا يظنون أنه يجدف إذ أنه “يدعو الله أباه، مساوياً نفسه بالله” (يو 5، 18).
وبالحديث عن نفسه، يستعمل يسوع في إنجيل يوحنا مرات عدة تعبير: “أنا هو” الذي يشير إلى اسم الله بحسب ما كُشف لموسى (راجع خر 3، 14). خيار يسوع هذا كان يثير غضب اليهود، الذين كانوا يدركون جيداً معنى استعمال هذا الاسم (راجع يو 8).
وعليه، فالأناجيل تبين لنا بوضوح تام أن وحدة يسوع بالله الآب، ليست مجرد وحدة أخلاقية، وحدة محبة وقداسة من قِبل خليقة أمينة نحو خالقها.
وحدة يسوع بالآب هي وحدة جوهرية، كيانية، جذرية. يقول يسوع دون مراوغة: “أنا والآب واحد” (يو 10، 30).
وعليه فالجواب على السؤال الذي نطرحه في عنوان هذه المقالة هو: نعم وألف نعم!
خلاصة القول، إن الأناجيل، التي نملك مخطوطات قديمة جداً منها تعود إلى القرن الأول، تشهد باستمرار لألوهية يسوع المسيح. لا كقرار أخذته الكنائس، بل كإرث تلقاه المسيحيون، كوديعة لا يحق لهم أن يتلاعبوا بها أو أن ينكروها.
ولكمّ كان يطيب لهم أن يقولوا أن يسوع كان مجرد نبي، أو مجرد معلم وحاخام! أما كان لذلك أن يعتقهم من اضطهاد اليهود ومن غضب الرومانيين؟ ما كانت مصلحة المسيحيين بإعلان ألوهية المسيح، لو تكن وديعة سلّمها لها يسوع؟
هذا، ومن ناحية أخرى، نسأل: كيف لنا أن نفهم بغض اليهود ليسوع لو أنه لم يشر دوماً إلى ألوهيته، جاذباً غضبهم وغيظهم وكرههم لما اعتبروه تجديفاً؟
سيناريو سيرة يسوع التي يشهد لها التاريخ تؤكد أنه رُفِض من قبل اليهود بسبب إعلانه عن ذاته كابن الله. والمسيحيون عانوا فورًا بسبب أمانتهم ودفعوا بالدم ثمن إيمانهم. ولذا إعلان ألوهية يسوع كان وسيبقى فعل أمانة وإيمان بطولي.
هل الله سجين وحدته؟
يميز القديس باسيليوس بين نوعين من الكلمات: كلمات مُطلَقة وكلمات نسبية. إن مثلاً بسيطًا يفي بالإيضاح:
“رجل”، “حصان”، “شجرة” هي كلمات تشير إلى واقع ما بحد ذاته، ولا ترمي إلى علاقة ضرورية تجعل هذه الوقائع ذاتها. فالحصان هو حصان بحد ذاته، لا يُنسب بشكل مطلق إلى شيء، ولا تتضمن المكلمة بحد ذاته نسبةً ما. وكذلك كلمة “شجرة” لا ترمي بشكل ضروري إلى واقع آخر.
أما كلمات مثل “صديق”، “ابن”، “أب”، هي كلمات نسبية وهي تدل بشكل ضروري إلى نسبة، إلى علاقة مع آخر. فالابن يشير إما إلى أب أو إلى أم أو إلى الاثنين معًا، وإلا لا يكون ابنًا. وكذلك كلمة أب، تشير بحد ذاتها إلى علاقة مع ابن أو ابنة.
بقلم: الدكتور روبير شعيب