رحيل الأرشمندريت أغناطيوس ديك
(1926 – 2013)
غادر هذه الحياة الفانية المغفور له الأرشمندريت أغناطيوس ديك وقد ناهز الثامنة والثمانين من العمر إثر مرض الشيخوخة حيث أدخل المستشفى عدة مرات في الأشهر الأخيرة، وقد أصيب مؤخراً بغيبوبة عدة أيام فارق على إثرها الحياة في المستشفى في الساعة الأولى من صباح الاثنين الواقع في 4 تشرين الثاني 2013، وبذلك فقدت حلب وطائفة الروم الكاثوليك فيها منارة حقيقية وعلماً من أعلامها الكبار.
ولد الأرشمندريت أغناطيوس،وكان اسمه باسيل، بحلب في 15 كانون الثاني العام 1926 ودرس المرحلة الابتدائية في مدسة الرام للآباء الفرنسيسكان بحلب وتابع دراسته وكان ذكياً جداً، ورسم كاهناً في 25 حزيران 1949. قام بالتدريس في إكليريكية القديسة حنّة في رياق(1953 – 1957) وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا العام 1960 حول “تاودوروس أبو قرّة أسقف حرّان الملكي”. ودرّس تاريخ الكنيسة والإسلاميات في إكليريكية القديسة حنة الكبرى في القدس في عامي 1962 – 1963.
قام بحلب بعدّة مهام ضمن نشاط وخدمات طائفة الروم الكاثوليك بين عامي 1963 و2013 من أهمها القيام بمهام النائب الأسقفي العام للطائفة، وقد عُيّن العام 2002 مستشاراً في مجلس الوحدة المسيحيّة.
صدر له أكثر من 20 كتاباً في الفترة(1963 – 2013) من أهمّها:
– تاريخ الكنيسة (بالاشتراك مع الأب ثم المطران ميشيل يتيم(طبعةأولى 1963، طبعة مزيدة 1991)
– الشرق المسيحي(1973) ترجمة لكتابه الذي صدر بالفرنسية العام 1965 وبالانكليزية العام 1967
– تاودوروس أبو قرّة أسقف حرّان الملكي: مقدّمة عامة، نص وتحليل، ألميمر في إكرام الأيقونات لتاودوروس أبو قرّة ، وكلا الكتابين نشرا ضمن سلسلة “التراث العربي المسيحي”، العام 1982 و1983 على التوالي.
– سيرة البطريرك خريستوفوروس الأنطاكي صديق سيف الدولة، 1999
– إكليروس الروم الملكيين الكاثوليك في حلب خلال القرن المنصرم ، 2000
– الحضور المسيحي في حلب في الألفين المنصرمين، جزءان(2002، 2004)
– البطريركية المسكونية وتطوّر الأرثوذكسية والمسيحية الشرقي في العصر الحديث، 2005
– المسيحيون في سورية، تاريخ وإشعاع، ثلاثة مجلّدات، 2007 – 2009
– العلاقات المسيحية المسيحية في سورية عبر التايخ، 2011
– العلاقات المسيحية الاسلامية في سورية عبر التاريخ، 2011
– الايمان المسيحي دستور الحياة، 2012
كما شارك في العديد من المؤتمرات المسيحية الدولية التي دعي اليها.
مع الذكريات:
عرفتُ الأب ديك منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وتميّز بذكائه وتواضعه الجمّ مع غزارة علمه وسعة اطلاعه ودقّة ملاحظاته. كما عرف بروحه المرحة وتقليده الدقيق لحركات وأصوات المقرّبين اليه في حال وجوده في جلسة سمر ودّية. وكان يرافق المطران نيوفيطوس إدلبي في الحفلات التي كان يدعى اليها أحياناً، وتحوي ما لذّ وطاب، ويظهر خفّة روحه ومشاركته المرحة مع وجود بلبل المجالس الشاعر أنطوان شعراوي ونكاته الظريفة.
كنتُ أهديه كلّ كتاب لي حال صدوره، ولا يلبث أن يقرأه بإمعان ويسجّل ملاحظاته حول ما ورد فيه من آراء أو أخطاء له فيها وجهة نظر معيّنة، كنتُ غالباً أحترمها وأقدّرها. وكان بدوره يهديني كتبه التي يصدرها. كنتُ أزوره في غرفة مكتبه في مطرانية الروم الكاثوليك في ساحة فرحات، وأغبطه على وجود مكتبة الطائفة ومكتبة المطران إدلبي تحت تصرّفه، وأتساءل متى سنتمكّن من الاطلاع على الكتب المكدّسة في صناديقها فنراها مرتّبة في خزاناتها ومفهرسة في قاعة خاصة كي نستعين بها في أبحاثنا؟ وكان الجواب دائما: قريباً،إن شاء الله، عند إنجاز ترميمات البناء وتخصيص الغرف وتفريغ أحد الكهنة للاهتمام بمكتبة الطائفة وأرشيفها.
كان المرحوم الأب ديك متمسكاً برأيه أحياناً لا يحيد عنه. وفي آخر لقاء شاركنا فيه في ندوة بتاريخ 25 آذار 2012 كانت في صالة كنيسة القديسة تريزيا في حي “السريان الجديد” وكان موضوعها “الحضور المسيحي في حلب” تحدّث فيها الأب ديك والاستاذ رياض جرمق وأنا. ذكرتُ فيها وثيقة الدلاّل حول “زقاق الأربعين” بحلب والتي تبيّن إنشاء الزقاق في العام 1638، وأبدى الأب ديك شكوكه حول صحة المعلومة. فكرّرت له تأكيد انّ ما ذكرتُه معتمد على الوثيقة في حال صحّتها، فلم يقتنع. ويعتقد مع الشيخ كامل الغزّي أن الزقاق أُقيم أيّام السلطان سليم الأول العام 1516 وليس أيام السلطان مراد والعام 1638.
كان غزير العطاء، وكان آخر كتاب نشره بمناسبة سنة الايمان 2012 – 2013 بعنوان”الايمان المسيحي دستور الحياة”، وصدر وهو مقيم في دير اللاتين في حي “العزيزية”، إثر إصابة مقرّ مطرانية الروم الكاثوليك في ساحة فرحات بإحدى القنابل والقذائف العديدة التي قُذف بها حي “الجديدة”. وكان رحمه الله رغم تقدّمه في السن، وهو في الثامنة والثمانين، يشارك أحياناً في كنيسة اللاتين في تقديم قربانة المناولة للمؤمنين أثناء القدّاس أيام الآحاد والأعياد.
ولمّحتُ له مؤخراً انه يستحق جائزة الباسل للإبداع الفكري التي يمنحها سنوياً مجلس مدينة حلب، وذلك لكتبه الرائعة عن تاريخ حلب وخاصة كتاب” الحضور المسيحي في حلب خلال الألفين المنصرمين”. وقد سرّ بالفكرة، إلاّ انه لم يعش ليراها تتحقق بسبب الظروف الصعبة الراهنة التي تعيشها حلب الصامدة والأبيّة من حصار اجتماعي ومعيشي وثقافي خانق، نرجو زواله قريباً بإذن الله.
رحمك الله يا أبانا أغناطيوس الحبيب وجعل مثواك مع الصالحين الأبرار الذين يعاينون وجه الباري تعالى. إنّك باقٍ بما خلّفت من كتب قيّمة وسمعة طيبة بتواضعك وبساطتك ولطف معشرك، وذكر الطيبين يدوم الى الأبد.
بقلم: المهندس عبدالله حجار