الميلاد يطرح موضوع دور العقل في أمور الإيمان. فالمعرفة العقلية يؤكد على ضرورتها بحجة إنارة الإيمان وذلك منذ أن انتشر هذا الاتجاه في الغرب عن طريق مؤلفات القديس توما الاكويني في القرن الثالث عشر. ولا شك في انه ساهم في إضعاف المسيحية في الغرب. إذ إن المسيحية لا تعاش حقاً إلا في الإيمان بالقلب والروح. ربما عمل العقل ضروري ومهم كمقدمة للإيمان بالقلب والروح. غير أن وظيفته أن يعرف حدوده وعند بلوغه إليها أن يتخلى عن معرفته. الإنسان بالإيمان يحيا. بما يفوق العقل، بإحساس القلب والكيان العميق. فإذا أهمل هذا الوجه انتفت تالياً شروط الإيمان الحق التي هي إحساس الإنسان بضعفه والتوبة والدموع. فكيف لعيني قلبه أن تنفتحا لينتقل إلى تخوم الحياة الأوفر ويؤمن ويرى؟ القديس اسحق السرياني يدعو الدموع “باب المعرفة”.
الكنيسة تتأمل في طقوسها ميلاد المسيح طيلة اثني عشر يوما على التوالي (منذ 20 كانون الأول – وهو بدء تقدمة العيد – حتى 31 منه، وهو وداع العيد)، فتدخلنا في جوّ هذا السرّ العظيم، لكي نمجّد الربّ كما يليق.
1. مما يلفت النظر أن أول فكرة ترد في هذه التأملات (أول قطعة في 20 كانون الأول) هي عدم تناول السر بالعقل فقط، بل الانتقال بالعقل إلى القلب:
• “إذ نرفع العقل إلى بيت لحم، فلنرتق بضمائرنا ونشاهد بأفكار القلوب… البتول مقبلة لتلد في المغارة ربّ الكلّ إلهنا”.
• وكأنّ للعقل باصرة أعمق منه: “حتى إننا بباصرة العقل نشاهد المسيح صائرا طفلا”.
• فالاستعداد يكون بالروح: “لنستعد الآن بالروح لنتقبله” إذ “يا لها من أسرار تفوق العقل”.
• صحيح إننا “نقدم التسبيح عقلياً” ولكن بعد أن “نطهّر عقولنا بالسيرة”، “فنرتقي بحال إلهية ونعاين تنازلاً إلهياً”.
• لذلك نقول: “أوصى العارفين أن اسهروا”
– لان المعرفة تستلزم الاهتداء:
“إذ قد اهتدينا إلى نور المعرفة الإلهية”.
– فالمعرفة هنا معرفة سجود: “ميلادك أيها المسيح إلهنا قد اطلع نور المعرفة في العالم، لان الساجدين للكواكب به تعلموا من الكوكب السجود لك يا شمس العدل”.
– ومعرفة إيمان:
“السرّ لا يحتمل فحصا بل جميعنا نمجدّه بالإيمان فقط”
2- لذا تؤكد الكنيسة كثيرا على وجوب التنقية المسبقة:
“لنطرح عنّا كلّ أدناس الأهواء، ولنتلألأ بالنقاوة ونسطع بالفضائل”.
– وينبغي أن تكون التنقية كليّة:
“لنرحض عقولنا ونتنق نفساً وجسداً” “حتى نتقرب أيها الأنقياء إلى الطاهر”.
– وداخلية عميقة: “لنذخر الأعمال الصالحة في خزائن النفوس”.
– ولا بدّ من الدموع والاعتراف بغية الاغتسال من الأدناس: “فلنتقدم إلى المسيح بكل قلوبنا وينابيع دموعنا مغتسلين بواسطة الاعتراف”، “مفرغين العبرات كالطيوب”.
– ولن تستقيم نشائدنا إلا بالاستقامة الداخلية: “لنهتف بالنشائد بضمائر مستقيمة”.
– وبالتواضع: “ولا نتشامخ بعقولنا”، “فنتواضع بالروح”.
3- وطبيعي أن يسيطر الشعور بالسرّ والاندهاش إزاءه:
“إنني أشاهد سراً عجيباً مستغرباً”: “حبلاً لا يفسّر” – “ولادة لا توصف”- “مولداً غريباً”- “أيها الملائكة في السماء تعجبوا”- “يا له من مشهد رهيب” – “وعجب رهيب”.
– تتساءل الكنيسة مع العذراء: “كيف؟: “يا ابني، أيها الشمس، كيف أحجبك في الاقمطة، أم كيف أرضعك أيها المغذي الطبيعة كلها، أم كيف أحملك بيدي أيها الضابط البرايا بأسرها، أم كيف أحدق إليك يا من لا يتجاسر الكثيرو العيون على النظر إليه؟”. “أيتها البتول… كيف تحملين الخالق على ساعديك، كيف لم يفسد حشاك؟”.
4- ويملأ الفرح الدنيا:
“اليوم البرايا قاطبة تمتلئ فرحا”. “أيتها الجبال والتلال وأشجار الغاب والبحار والأنهار وكل نسمة تهللي وابتهجي” “فافرحي أيتها المسكونة إذا سمعت”. فان العذراء: “ولدت الفرح للعالم”.
– ويشترك الجميع، الجميع كلهم في هذا الابتهاج: “ابتهجي يا أمي” “يا أيها السماويون ابتهجوا ويا أيها الملائكة افرحوا، ولتهلل بالروح الأرض مع الرعاة والمجوس”. “يا أنبياء الله الإلهيين افرحوا الآن”. “يا إسرائيل الجديد ابتهج واطرب وتهلل وتباشر واقض أعيادك ببهجة”. “أيها القفر ابتهج”…. “يا عدن” “يا بيت افراثا”…
– حتى الذين تحت الثرى: “يا جميع نفوس الصديقين التي تحت الثرى ابتهجي معا”.
– ويمتزج الفرح بالدمع: “إن البتول لما أبصرت حبلاً لا يفسر… هتفت وهي مسرورة تذرف الدمع”.
5- وتتقدس الأرض نفسها:
– فالمغارة ندعوها “المغارة المقدسة” والمذود “عرشاً شاروبيمياً للمجد” و”مذوداً سعيداً” و”السماء كرزت بك للجميع” و”تقطر السحب حلاوة الابتهاج”.
– وتستنير:
“استنارت البرايا بأسرها” إذ “قد أنرت الخليقة كافّة” “فتلقّوا اندفاق النور المدهش” رائع هذا الشعور بتقديس الخليقة ومشاركتها لنا في السجود والتسبيح: “الذي تسجد له كل خليقة بخوف مسبحة إياه مدى الدهور”.
– إن المسيح بميلاده يجمع الأرض والسماء ويوحدهما: “مريدا أن يتمم العالم العلوي”. “ليجعل الجميع سماويين”.
6- ويبقى التسبيح أساسياً:
أمام عجائب الله. فالإنسان “حيوان مسبح” (animal hymnologique) وبالتسبيح يتسع كيانياً ويتحقق متمثلاً سر الكون: “أمجد وأسبح وأسجد بحبور لحضورك بالجسد”. “لنبادر ونسبح بالفم والقلب المسيح الآتي بالجسد ونسجد له بإيمان”.
– وطبيعي رغم ذلك أن يخالط الخوف والرعدة هذا التسبيح لعظمة محبّة الله: “انذهلي مرتعدة أيتها السماء ولتتزلزل آساسات الأرض”. “اسمعي أيتها السماء وانصتي أيتها الأرض ولتتزعزع الأسس، ولتستحوذ الرعدة على ما تحت الثرى”. “فالشعب المرضي للمسيح يستغيث الآن بدموع أن يسجد لمجد ظهوره الإلهي”.
بقلم: الاب الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى