هل الله نائم؟
هذا هو السؤال الذي نطرحه عندما نقرأ حكاية يسوع مع تلاميذه في السفينة، ولكن لا نجد جواباً بل استغراباً:
غريبٌ يسوع بالفعل فإنه ينام في السفينة “وكان هو في مؤخرها نائماً على الوسادة” رغم الريح العاصفة الشديدة والأمواج المتلاطمة المندفعة، ورغم المياه التي كادت تملأ السفينة وتغمرها، ورغم صراخ التلاميذ وخوفهم الشديد لدرجة أنهم يضطرون الى ايقاظه قائلين: “يا معلم، أما تبالي إننا نهلك؟” فهل كان يسوع لهذه الدرجة تعبان ونعسان؟ وهل كان حقاً نائماً لدرجة أنه لما يشعر ولم يسمع ما يحدث؟ وإذا شعر فهل كان لامبالياً أو خائفاً على نفسه وعلى تلاميذه؟ أم أنه كان يريد أن يمتحن إيمانهم وثقتهم به؟ أم أنه كان يريد أن يعلمهم الاعتماد على الذات وتدبر الأمر لوحدهم؟ أم أنه كان “متخابثاً” ليرى كيف سيتصرف التلاميذ في هذه المحنة؟
والغريب أيضاً بأن التلاميذ يلجؤون اليه لكي ينقذهم من هذه الورطة ويخلصهم من هذه الشدة وكأنهم يعرفون بأنه قادر أن يفعل شيئاً. يبدو أنهم قد جربوه مرات عديدة في مثل هذه الحالات الصعبة، ويبدو بأنهم يؤمنون بقدراته العجائبية الخارقة؟ ويبدو بأن ايمانهم ضعف قليلاً لأن يسوع نائم لأنه معهم ولم يفعل شيئاً، بينما في المرة الأخرى عندما عصفت الرياح بالسفينة ليلاً لم يكن معهم فقد أتي إليهم ماشياً على البحر.
وغريبٌ أيضاً موقف يسوع عندما نهض من النوم فإنه يتصرف تصرفاً بسيطاً عبَّر عنه الانجيل بكلمات موجزة: “فاستيقظ وزجر الريح وقال للبحر: “اسكتّ اخرس!”.. وكأن الامر عادي..! وغريب أيضاً ما حدث في الحال “فسكنت الريح وحدث هدوءٌ تام”.
وغريبٌ موقف يسوع من تلاميذه إذ أنه يعاتبهم ويوبخهم: “ما بالكم خائفين هذا الخوف؟” لا بل يضيف “إلى الآن لا إيمان لكم؟” فمن الطبيعي أن يخافوا في مثل هذا الموقف، ومن الطبيعي أن يشكوا في إيمانهم خاصة وإنه نائم (لا عنده ولا عند باله).
وغريب أيضاً ردة فعل التلاميذ بعد هذا التوبيخ فقد ازداد خوفهم “فخافوا خوفاً شديداً” بدلاً من أن يفرحوا ويطمئنوا، لا بل ازدادت تساؤلاتهم وحتى شكوكهم أو اعجابهم واندهاشهم أمام ما رأوا وسمعوا لذلك تساءلوا “من تُرى هذا، حتى الريح والبحر يطيعانه؟”.
اعتقد بأن موقف يسوع كان غريباً بالمنظور البشري وأن موقف التلاميذ كان طبيعياً لا بل إنسانياً، فلو كنا مكانهم في مثل هذا الموقف لتصرفنا نفس هذه التصرفات لا بل أكثر: لصرخنا بيسوع لكي يقوم، ولوبخناه أكثر لأنه لا يبالي ولا يهتم بهم وسط العاصفة، ولشككنا بقدرته على فعل شيء، ولاستنجدنا به لكي يفعل شيئاً لا بل لحملناه المسؤولية التامة عن سلامتنا..!
يبدو أن منطق الله غير منطق البشر وفكر الله غير فكرنا.
إننا في هذه الأيام وفي هذه المنطقة وخاصة في بلادنا لا بل في العالم بأسره نمر بنفس الخبرة: نعيش أوضاعاً صعبة عاصفة، رياح شديدة وأمواج متلاطمة من كل حدبٍ وصوب، وقد أربكت سلامنا وهدوءنا لا بل قد أفقدتنا صبرنا وبصيرتنا لدرجة أننا لا نعرف كيف نتصرف.. ونطرح نفس الأسئلة ونصرح ونستنجد ونشك ومع ذلك نتعلق بحبل الايمان لأننا في حيرة من أمرنا وفي ضيق شديد وما زلنا نعتقد بأن ليس لنا معين ولا مجيب إلا الله رغم أننا أحيانا نعتقد بأنه غائب عن سفينتنا وأحيانا نائم فيها ولكن لا يهمه أمرنا.. وهذا يقودنا الى السؤال التالي:
هل الله غائب؟
هذا هو السؤال الذي نطرحه عندما نقرأ النص الثاني من حكاية يسوع مع تلاميذه الذين أرسلهم في السفينة التي عندما ابتعدت عن البر كانت الأمواج تلطمها لأن الريح كانت مخالفة فكادت تغرق.. في هذه الحادث لم يكن السيد المسيح معهم بل كانوا لوحدهم… في تلك اللحظة جاء إليهم يسوع ماشياً على البحر فاضطرب التلاميذ واستولى عليهم الخوف فصرخوا. المنظر مخيف: البحر الهائج، السفينة تتلاطمها الأمواج وتكاد تغرق، الليل دامس، ورجل يمشي على البحر وكأنه شبح. وهنا تأتي كلمات يسوع المهدئة: “ثقوا، أنا هو، لا تخافوا”. ولكي يتأكد التلاميذ بأنه المسيح وليس خيالاً طلب منه بطرس أن يأمره ليأتي نحوه على الماء، ففعل ولكنه بعد أن مشى بعض الخطوات على البحر خاف من شدة الريح فأخذ يغرق فصرخ: “يا رب، نجنيّ”.
هنا يمد يسوع يده ويمسكه فينشله وينقذه ولكنه يعاتبه: “يا قليل الإيمان، لماذا شككت”. وبعد ذلك ركبا السفينة، فسكنت الريح. طبعاً هذه الحادثة تختلف عن حادثة تسكين العاصفة عندما كان يسوع نائماً في السفينة وهبت العاصفة، ولكننا نرى بوضوح أن ركوب المسيح في السفينة نتج عنه سكون الريح وهدوء العاصفة. إن حضور الله يسكن رياح وعواصف عالمنا المضطرب!
إن الله ليس نائماً ولا غائباً إنه حاضرٌ معنا ومقيم بيننا لأنه “عمانوئيل” ولكن عالمنا يريد أن “ينيمه أو يغيبه” لا بل يستغني عنه إن لم يكن “يموته” على حد قول نيتشه “الله مات وأنا قتلته” بالفعل إننا نقتل الله في عالمنا لأننا نهتم بكل شيء ما عداه.. وحتى هؤلاء الذي يدعون بأنهم يؤمنون به ويتعبدون له ويقتلون باسمه فإنهم لا يقتلون اخوتهم البشر فحسب بل يدمرون صورة الله الحقيقية بقتلهم لأخيهم الانسان لأنهم يقتلون المخلوق على صورة الله ومثاله.
لذلك فإن حاجتنا الملحة هي لله بأن يكون بيننا ومعنا وفينا…! نعم يا رب تعال بيننا أقم عندنا..! قُم.. لا تَنَم.. ولا تَغِب عنا! إننا بحاجة لحضورك وكلماتك المعزية، إننا نصرخ اليك “يا رب نجنا إننا نهلك” فيا رب امدد يدك ويمنك وانتشلنا فلا نغرق.