“الأبرار إلى الأبد يحيون”
عندما أفكِّر بالموت، وخاصة موت طفلٍ صغيرٍ، فمن الصعب عليَّ أن أتصوَّر نفسي كشخصٍ يلعب دور المختبر الذي يعرف أكثر من الآخرين ويرشدهم إلى التصرّف المثالي تجاه التجربة. من الصعب جداً في مثل هذه الحالة أن تتكلم أو تفكر بأيَّ شيء. لا بل على العكس، من الحكمة أن تتعلَّم من حياة هؤلاء بدلاً من أن تعلّمهم وهم الذين يتألمون كثيراً، ويجاهدون أكثر، ويتصارعون مع إيمانهم، ويختبرون خطر الموت كلّ لحظةٍ بما يفوق قدراتهم واحتمالهم، أو على الأقلّ أن تتعلّم من أولئك الذين يجاهدون حقيقةً لكي يهبوا حياةً وصحّةً وتعزيةً للأطفال الذين يعانون، تعزيةً أساسيّةً ورجاءً جوهريّاً لأهلٍ يعانون ويتألمون لكي يصمدوا متماسكين.
الواقع الُمرّ
ليس هناك أقسى من رؤية طفلٍ يتألم. إنها لتجربة عظيمة ومؤلمةٍ جداً، عندما تشاهد طفلاً يتوجَّع ويعاني وأنت لا تستطيع ان تقدَّم له المساعدة، ولستَ متأكداً من شفائه التامّ. وخاصةً عندما يكون الطفل صبوراً، لطيفاً، وبلا أدنى شكَّ ذو براءةٍ واضحةٍ. تتشابك الأسئلة، مثل “لماذا”؟، “في أيَّ عالمٍ نعيش؟”، “من هو المسؤول عن معاناتنا هذه؟”، أيَّةُ أخلاقياتٍ وأيُّ منطقٍ وأيَّةُ قوانين تحكم وتحوِّلُ فرحنا العظيم بطفلنا إلى عذابٍ وألمٍ لا يمكن وصفه بسبب تدهور صحّته؟”، … مع الأسئلة البشريّة المشتركة بين كلِّ الناس من قبيل “هل سيصبح على مايرام؟”، “ماذا علينا أن نفعل”؟، ” هل علينا أن نغادر خارج البلاد للحصول على علاجٍ أفضل؟”، وتخلق كلُّ هذه الاسئلة حالةً من الألم والشعور بمأزقٍ لا يمكن تجاوزه. فتتحطّم آمالنا، ولكن دون أن تختفي تماماً من حنايا قلوبنا.
نبذلُ قصارى جهدنا، ونذهب إلى أفضل الأطباء، نُظهر محبّةً أعظم، ونحاول أن نقنع أنفسنا بآمالٍ أكبر وأفضل لِنواصلَ حياتنا، ونلتجِئ إلى الصلوات، ونطلب المساندة من أصدقائنا، وفي لحظةٍ ما تظهر الحقيقة القاسية لتحبطنا. تأتي الحقيقة لتحطِّم بالإضافة إلى آمالنا إيماننا بكلِّ ما هو صالحٌ، بكلِّ ما هو حقيقيٌّ، بكلِّ ما يستحقُّ أن نؤمن به، بكلِّ ما نعتبره سنداً حقيقاً.
في نهاية المطاف، طفلنا قد رحلَ، فهو ليس بجانبنا بعدُ، ونحن مشتاقون لنظرته، يجرحنا اختفاء آثاره وعدمُ الشعورِ بوجوده. فَعَدَمُ قدرتنا على مداعبته وتقبيله وعناقه وملامسته، كلّ ذلك وكأننا نختبر الموت بأنفسنا. نحن الفراغُ الذي تركه غيابُه لا يمكن لأحدٍ أن يملأَه، لا بل وحتى إخوته الآخرون الذين لا ذنب لهم. بالتأكيد ليست محبّتنا لهم أقلّ. ولكن كلّ ولدٍ لنا لا يمكن استبداله بطفلٍ آخر، ولا بأيِّ شخصٍ آخر في الدنيا.
يمرُّ أناس كثيرون وبمحبةٍ كبيرةٍ يقدمون التعزية والمساندة، فهم يسردون أحاجيج حكيمةٌ متعددةٌ لكي يغيّروا أفكارنا عن الحياة، وعن كلِّ ما ذكرناه سابقاً، ولبثّ شعاعٍ من النور في ظلامنا القاتم الذي لا يمكن اختراقه. نحن ممتنُّون لمحبَّتهم ولاهتمامهم ولمساندتهم، ولكن في بعض الأحيان هذا يمكن أن يجعلَ حِملَنا أثقل. فالمساندة والدعم والإهتمام والمحبة لا يمكنها أن تساعدنا في الشفاء من معاناتنا. نحن بحاجةٍ إلى شيءٍ آخر، لقد تغيَّر كلُّ عالمنا، وأظلمت نفوسنا. نترجَّى بصيصاً من الأمل، سنداً صغيراً، لكي بشكلٍ ما نحيا بين الحقيقة والكذب، نتخبّط بينهما لكن غير مستسلمين.
يسمِّي البعض طفلنا ملاكاً، وكانوا يدعونه هكذا عندما كان على قيد الحياة، رغبةً منهم في وصف حلاوة حضوره ورقَّة جماله. ولكن الآن تأخذ هذه التسمية معنى آخر، ألعلَّهم يسمِّونه هكذا لكي يعزُّوا انفسهم؟ ربَّما لكي يدعمونا؟ أو يقصدون أنه يعيش دون أن يُرى مثل الملائكة؟ وأنَّه انتقل إلى حياةٍ أفضل وأرقى من الحياة البشريّة المادّية؟ وأنَّه يُشاهدنا ويتواصل معنا؟ وأنَّ علاقة الطفل بالله هي الآن أوثق من علاقته بطبيعته البشريّة؟ وأنَّه خلعَ ثوب الزمن وارتدى ثوبَ الأبديّة؟ وأنَّه هرب من رباط الفساد وهو الآن يعيش في عالمٍ حيث “لا وجعٌ ولا حزنٌ ولا تنهدٌ ولكن حياة لاتفنى”.
يقولون لنا أنَّه قريبٌ من الله، كيف يمكنهم معرفة ذلك؟ هل يشعرون به؟ أو ربَّما يتخيَّلون ذلك ويقولون لنا هكذا لكي يعزُّونا؟ في النهاية ما الذي يحدث؟ وماهي الحقيقة؟ كم كان بودِّنا لو كنّا نستطيع أن نشعر أنَّ طفلنا على قيد الحياة، وأنَّه بحالةٍ أفضل بكثير من الحالة التي كان يعيش فيها بالقرب منّا، وأنَّه بطريقةٍ ما يشعر بنا ويسمعنا ويشاهدنا ويتابعنا. ربَّما علاقته بنا الآن هي أقوى مما كانت من قبل. بالفعل قد يكون الآن في سلامٍ وهدوءٍ وارتياح. لقد كانت محبَّتنا له قويةً لكنَّها تبقى محبَّةً بشريّةً، فهي محبَّةٌ محدودةٌ، ولها نهاية. أما الآن فعلاقتنا مع بعضنا سريةٌ، فتواصلنا معه يفتح لنا عالماً جديداً، ولكن يمكننا الاقتراب منه روحياً فقط، وعندها سنلتقي ثانيةً بطفلنا المحبوب حتى ولو “بهيئةٍ أخرى” وليس كما كنّا نعرفه، ولكن كما هو الآن، ودون فسادٍ، ودون مرضٍ، ودون خطرِ الفراق والخسارة.
الحقيقة المخفيّة
اقتربت منّي منذ بضع سنواتٍ أمٌّ شابّةٌ كانت قد خسرت طفلتها الوحيدة بطريقةٍ مُفجعةٍ وبعدها بأيامٍ قليلةٍ خسرت أيضاً زوجها. كانت علاقتهما وخاصَّةً بطفلتهما من النوع الفريد في متانته وقوّته. فهي لم تكن تستطيع ان تتصوَّر نفسها دون طفلتها الصغيرة. كانت هذه الطفلة الصغيرة بالنسبة للأمّ ليس ذروة فرحها فقط بل كلّ حياتها. كانت هذه الطفلة لطيفةً، تتميَّز بعلامات النضج المبكر، وبذكاءٍ فريدٍ بالنسبة لعمرها، وبكلامٍ حلوٍ عذبٍ وجذابٍ، بلطفٍ وبراءةٍ تفرض نفسها على الآخرين. قد تكون علاقةٍ مبالغاً بها بين الأمّ والطفلة، لا بل وربَّما كانت هذه العلاقة من النوع المَرَضيّ، ولكن لها مبرِّراتها لأن هذا أمرٌ بشريّ.
تّمتْ جنازة الطفلة الصغيرة، والأمّ في حالةٍ مؤلمةٍ، لم تكن تستطيع أن تتصالح مع الحدث والواقع بأيّ شكل من الأشكال. لقد كانت منهكةً تماماً، مقطَّعة من شدة الألم، وانتابها دوارٌ من كثرة الأدوية. تقبَّلتْ تعزية المئات من الناس، بعضهم كان صامتاً كتوماً، والبعض الآخر قدموا لها التعزية كواجب اجتماعي، والبعض الآخر لم يستطيع تصديق ما حدث، فالأكثرية همسوا كلماتٍ في أُذنها بموَّدةٍ، أمَّا هي فكانت تبدو غير قادرة على سماع أيَّ شيءٍ، ولا أن تفهم الكثير أيضاً.
كانت ترغبُ في أن تضعَ حدَّاً لحياتها، غادرتْ إلى مكانٍ ما لبضعة أسابيع، وكانَ من المستحيل عليها أن تنسى ألمها، فابتعدت لكي ترتاح وهذا ساعدها قليلاً. حاولت العودة إلى حياتها الطبيعية، لكن من أين تستمدُّ أملاً وبصيص نور. لم تكن مؤمنةً، ولم يكن لديها أيُّ علاقةٍ مع الله، إذ لم تَعْتَدِ التفكير بطبيعة عالمٍ آخر مغاير لهذا العالم وبمنطقٍ يختلف عن المنطق البشريّ. كان من المستحيل عليها أن تتماسك وتواجه الحقيقة والواقع.
مضت ثلاثة أشهر تقريباً، وفي لحظةٍ ما عادت بها الذاكرة إلى أمر يوم جنازة طفلتها، فمن بين الأشخاص الكثيرين الذين قدَّموا التعازي لها كان من بينهم صديقٌ قديمٌ لها همس في اذنيها الغير قادرتين على الإصغاء بعض الكلمات قائلاً:
ـ ليكن بمعلومك، طفلتك أنستاسيّا لا تزال حيّة!
بعد ثلاثة أشهر عادت هذه الكلمات تتردّد في أذنيها، فأحيت لديها بعض الأمل، تمكنت أيضاً من إحياء طفلتها داخلها.
بدأتِ الأم تتساءل عن أهمية هذه الكلمات، وتبحث عن ماهيّة حقيقتها، بدأت تبحث عن أدلّةٍ مقنعةٍـ ليست أدلّة نظريَّة وتعزية نفسية وغير واضحة. عندما يرحل طفلٌ من هذا العالم، هل يعيش في مكان ما؟ إذا كان الجواب نعم، فأَين هو وكيف يمكن لشخص ما أن يكون على اتصال معه؟
ـ أريدُ ان أضع حدَّاً لحياتي، كرَّرتْ عليَّ ذلك، أريدُ لقاء أنستاسيّا. أنا مشتاقةٌ جداً لطفلتي، وحزينةٌ جداً في داخلي. لا أستطيع التحمّل، أرجو أن تتفهّمني.
ـ لا أعرف إن كنتُ أتكلَّم بجرأةٍ. أجبتها، لكن َّ فِكرَاً يقول لي أنكِ ستخلُصين عندما ستريدين أن ترحلي من هذا العالم لكي تلتقي أولاٍ مع الله. إذا كان الله غير موجودٍ، فلن تلتقي أبداً مع ابنتكِ أنستاسيّا. ولكن إذا كان الله موجوداً، فهذا ما أنتِ بحاجةٍ له أكثر من طفلتك
واكثر من حاجتك أن تكوني معها. فالله سيكشف لك أنستاسيّا منذ الآن في هذه الحياة الأرضية أيضاً. أيُّهما أفضل:
أن تكونا أنتما وحيدين دائماً في عدمّية هذا العالم أم أن تكونا معاً ومعكما الله إلى أبد الدهور؟
ربما تصبح ابنتك والدتك، فالطفلة التي ولدتها جسدياً يمكنها ان تلدك روحياً، ويمكن لتلك التي وهبتها هذه الحياة الحاضرة ان تَرُدَّ لك المعروف مقدمة لك الحياة الحقَّة. إن تلك التي كنت تظنين انك قد خسرتها هي التي ستجعلك متصلة بعالمها الحقيقي الحالي. تلك التي تسمينها ملاكاً سماوياً لكي تخفف من عذابك ستصبح ملاكك لكي تنيرك روحياً.
في نهاية المطاف، لا يهمنا أين هو ابننا ولكن يهمنا إذا كان فعلاً موجوداً، وإذا كان حياً فعلاً، فكيف، وفي أيَّة حالةٍ هو موجود؟
أودّ ان أسرد قصةً ثانية:
والدا طفل يدافعان عن رأيهما بأن كل شيء في هذه الحياة ينتهي هنا. يعاني طفلهما من سلسلة امراضٍ قلبيِّة. شخَّصَ الأطباءُ أن الطفل سيموت حالما يصل سن البلوغ، ويبدو أن الزيارات المتعددة إلى أمريكا، والمحاولات المتكررة، وَنُظُمَ الاختبارات الحديثة كانت عاجزةً عن ضبط الحدث. ساءت حالةُ الطفل الصحيَّة، ومع ذلك كان مميَّزاً بذكائه، فهو الأولُ في مدرسته، وشعبيته واسعةٌ بين أصدقائه في الصف، تواضعه وتهذبيه نادران، يفرضُ حضوره وشخصه بجاذبيّة على الجميع. يكتب مواضيع إنشائَّيةً وقصائد، تظهر فيها موهبةٌ نادرةٌ ونفسٌ حساسةٌ جداً.
بلغ الطفل سنِّ الثانية عشرة من عمره، وعاجلاً ساعَدَه ليس فقط ذكاؤه، ولكن أيضاً وبصورةٍ رئيسيَّةٍ شعورُه الحدسيُّ على أن يدرك أنَّ حياته في هذا العالم ينتهي خلال وقتٍ قصير. فهو يوزّع شعوره بين والديه السلبيّين لكلّ فكرٍ إيمانيّ. وكلاهما يشعران بالصدمة، فهم يحاولان أن يعزَّيا طفلهما بأقوالٍ كاذبة وبحججٍ غير مقنعةٍ من قبيل “لا تبالغ، كلُّ شيءٍ سيصبح على ما يرام”. بالحقيقة هم يرفضون أن يواجهوا الحدث، يتحدثون وبهدوءٍ شديدٍ عن الحياة الأخرى، عن الله، عن تفاهة هذا العالم، عن الحاجة لأن نكون أكثر حكمةً، عن الموت وكأنه انزلاقٌ إلى الحقيقة التي ليس لها نهاية.
كانت ردّة فعل الأب أنه أوقف النقاش. بمثل هذه اللهجة:
ـ لو كان الله موجوداً، لشفيتَ الآن.
ـ لو كان الله الذي تتحدَّث عنه موجوداً، لما كنتُ مرضتُ أبداً، يجيب الطفل.
كانت الأمُّ أكثر ليونةً، فأبدت احترامها لأفكار طفلها وصَمَتَتْ.
ازدادت الأمور سوءاً، فانفصل الوالدان، وابتعد الأب ثمَّ اختفى بطريقةٍ ما. أما الطفل فكان من حينٍ لآخر يشير إلى الحياة الأخرى. عادةً تبكي الأم، فهي مقتنعةٌ بنظريات الإلحاد، لكنَّها ببساطةٍ تتحمَّل طفلها. تنطفئ حياته ببطءٍ، ويقضي لحظاته الاخيرة على الأرض. أصيب بأرتفاع ضغط الدم الرئويِّ فامتلأت رئتاه بالدمَّ، ضَعُف تنفُّسه تدريجيّاً. فعانقته أمُّه.
ـ آهٍ، يا إلهي، لا أستطيع بعد، يهمس الطفل.
ـ ماذا تقول، إلهي؟ لا وجود لله، تقولُ الأمُّ باستياء.
ـ الله موجودٌ يا أمّي، همس الطفل ومات.
لفظ الطفل نفَسَه الأخير في هذا العالم، لكنّه جلب حياةً إلى أمّه من العالم الآخر. أخذها معه إلى حيث ذهب.
قدَّم لها ظهوراتٍ وتأكيداتٍ لحالته المباركة والمختلفة.
الشعور بالحضور السرِّيّ
لا أستطيع إلا أن أذكر حادثتين مؤثرتين وملهمتين من خبرتي حدثتا خلال وجودي لمدة أربع سنواتٍ في مشفى الأطفال بمدينة بوسطن. لم تكن التقنيَّة التكنلوجيّة والعلميّة في المشفى أو شموليته هما اللذان أثَّرا في قلبي، ولا حتى إنجازات الأطباء البارعة هناك وعبقريتهم، ولا حتى أيضاً الإنعاش الفعلي لأطفال صغار كنت شاهد عيانٍ عليها والتي كانت تتمّ لأعدادٍ كبيرة، ولا حتى التعاون المنتظم لوحدات الدعم النفسيِّ والموظّفين الإداريين مع طاقم الممرِّضين الباهر، وجماعة المتطوعين الذين كانوا يشاركون بفعاليَّةٍ في حياة المشفى، ويستمدُّون حياةً منها ويقدّمون حياةً أيضاٍ من حياتهم.
هناك تعرَّفتُ على سيِّدةٍ تدعى فاسيليّا، جعلتني أعي حقائق ما بعد هذه الحياة، وأقنعتني بجمال وقوة التفكير بمنطقٍ مختلفٍ، ووسَّعتْ أمامي أفق الرجاء والمستقبل والحقيقة. هناك عِشْتُ قرب سيدّةٍ كانت تجاهد بشغفٍ للبقاء بجانبنا، محاولةً تأمين أفضل الظروف لقضاء أطول وقتٍ ممكن مع هؤلاء الملائكة.
كانت تجد طريقةً للتواصل معهم حتى بعد توقف قلوبهم الرقيقة في هذا العالم، كانت تعيش الفرح الناتج عن رحيلهم إلى الحياة الأبديّة بقوّةٍ كما كان نضالهم للبقاء في هذه الحياة الفانية. فهي لم تُعَرِّ أبداً بأقوالٍ نموذجيةٍ أو مثالية. لم تُسْدِ أبداً نصائح وشعارات، فكانت تجمع بين عيش الألم العميق وخبرة الأمل المفعم بالحياة. الفرح واضحٌ على وجهها مع عينيها الدامعتين، بلاغة صمتها وكلماتها البسيطة المملوءة محبَّةً لهذه الحياة تترافق مع إيمانها القويِّ بالحياة الأخرى.
خلال السنوات الأربع التي تعاونّا فيها معاً مرَّ علينا أكثر من مئة طفل يوناني، وكله مصابون بأمراضٍ خطيرةٍ، أمراضٍ قلبيةٍ خطيرةٍ، تشوُّهاتٍ تشريحيَّةٍ وحالات نادرةٍ وصعبة لتشخيص مرض السرطان، بالحقيقة هي أمراضٌ لا يمكن تشخيصها وتُجبرُ الأطفال الصغار على السفر بعيداً مع آبائهم إلى أمريكا يائيسن باحثين عن القليل من شذرات الأمل. كان عقلُ السيِّدة فاسيليّا يتحرَّك بسهولةٍ من التفاصيل إلى الأحداث، ويتنقَّل بسهولةٍ بين أحداثٍ حاضرة وأحداثٍ جَرَتْ في الماضي، ولديها قدرةٌ غير معقولةٍ على جمع آلاف الأسماء وكانت تتذكَّرها كلّها تقريباً. أحضانُ هذه المرأة مفتوحةٌ للجميع، وتتّسع بسهولةٍ لمئات الأطفال والعديد من الآباء والأمهات، وأفراحٍ فريدةٍ، وأحزان، وموتٍ مفاجئ، وتغيُّرٍ مفاجئ في مسيرة شيءٍ ما، وأسماءٍ، لا بل كلّ شيء.
كانت الصغيرة ميخاليتسا تصارع للبقاء على قيد الحياة. أُجبِرتْ على إجراء خمس عملياتٍ جراحيَّةٍ كبيرةٍ بسبب إصابتها بسبعة أمراضٍ قلبيَّةٍ قبل أن تنهي السنة الثالثة من عمرها. كلُّ طاقم المشفى كان يكافح لإبقاء الطفلة على قيد الحياة. كان من المستحيل إيقاف التدهور السيء لمسيرتها الصحيَّة، بالرغم من واحدٍ وثلاثين يوماً من التنفُّس الاصطناعيّ، وأربع محاولاتٍ فاشلةٍ لفكِّ التنفُّس الأصطناعيّ، وأطباءٍ اختصاصييّن بجراحة القلب، وأطباء قلبٍ، وممرضاتٍ، وأهلها، والسيدة فاسيليّا. لم يمكن بمقدور العلم وفريق التمريض المميز، وتنسيق جهود عشرات الأشخاص، وفائضٍ من المحبة، وصلواتٍ كثيرةٍ، أن تجعل الرئتين تعملان من تلقاء نفسهيما. كان جسدُها الهزيل يصارع المرض. فكلُّ طاقم المشفى كان يدعمها ويسندها.
ذهبتُ في الصباح الباكر يوم الاثنين 12 كانون الأول من عام 1987 إلى غرفة ميخاليتسا للقائها، وكانت في أحضان السيدة فاسيليّا. لقد كانت صورةً مؤثرةً جداً فقد كان جسم الطفلة الصغيرة المتعبُ يرتاح في الأحضان الأكثر دفئاً في هذا العالم، وجسدها كان ملفوفاً بالأسلاك، أما قلبها فكان يحلّق بعالمٍ آخر. كانت محاطة ببعض الألعاب الصغيرة وبأجهزةٍ ترسم نبضات القلب، أجهزة من أحداث منجزات التكنولوجيا. على وجهها تقطر دموعٌ عذبةٌ للغاية، ناتجةٌعن محبةٍ أصلية. بعد قليلٍ ستعود الطفلة إلى فراشها، وتخرج السيدة فاسيليّا إلى غرفة الانتظار.
ـ أعتقدُ أن ميخاليتسا ستغادرنا اليوم. إنَّه لشيءٌ غريبٌ للغاية، عندي نبتةٌ من زهر الأقحوان، وفي مراتٍ عديدةٍ عندما يغادرنا طفلٌ إلى السماء تزهر الأقحوانةُ زهرةً جديدة. حدث هذا عدَّة مرَّات. لقد وضعتُها بجانبِ الأيقونات لكي لا أنسى الأطفال الذين يرحلون إلى السماء، فهذه النبتة تحوي أزهاراً بعدد الأطفال الذين غادرونا تماماً، أمَّا اليوم فقد خرجت زهرةٌ جديدةٌ دون ان اتوقّع ذلك. اعتقد ان هؤلاء الاطفال يتحضّرون لاستقبالها.
قالت هذا وصمتت. كانت عيونها تدمع دون توقف.
ـ لماذا تبكينَ سيدة فاسيليّا، سألتُها، طالما انك تؤمنين أن الاطفال لا يموتون؟
ـ أنا لا أبكي لأن مخاليتسا ستغادرنا، بل لأن عالمنا سيفتقر لضحكتها، سيصبح أكثر جفافاً بسبب غياب الرقة والبراءة التي للأطفال. أبكي على والديها لأن حياتهما ستصبح فارغة بغياب طفلتهما، لأن السكين قد وصل إلى العظم ولا يمكننا أن نقول لهما أيَّ شيء. ولكنَّني أتعزَّى عندما أفكّر أنّ عرش الله يتزيَّن بمثل هذه النفوس الطاهرة، فأنا أصلِّي بحرارةٍ ألى الأربعة عشر اقحوانةً ( إلى الأطفال الذين غادرونا) وليس الأربعة عشر ملاكاً، إلى باقة أزهاري الروحيَّة وليس إلى القدِّيسين.
جلسنا معاً وقتاً كافياً، وبعد قليل جاء والدها، أخذوا الأم جانباً وقالوا لها:
ـ أعتقد أنّ ميخاليتسا ستغادرنا بعد وقتٍ قليلٍ، لنذهب حتى تأخذينها في أحضانكِ.
ـ أخاف، أجابت.
ـ لا تخافي، فمن الأفضل أن تلفظ آخر أنفاسها وهي بين يديك وليس في فراشها. ذلك هو الأفضل لك ولها. سوف تتذكرين هذا طيلة حياتك، هكذا ستبقيان سويةً ولن تنفصل الواحدة منكما عن الأخرى.
استدارت وهمست لي:
إنه لشيء عجيب! كل الأطفال، وحتى الرضع، لا بل حتى الأطفال الذين هم في غيبوبةٍ، يختارون أن يرحلوا عن هذه الحياة وهم في أحضان أمهاتهم أو في نوبةِ ممرِّضتهم.
عند هذه المرحلة بدأت دقاتُ قلب الطفلة الصغيرة تضعف تدريجياً، وبعد عشرين دقيقة كانت قد استراحت إلى الأبد. في المرة القادمة ستزهر الأقحوانة الخامسة عشرة. إن العالم الآخر رقيقٌ وناعم جداً. طوبى لأولئك الذين يشعرون بلطفه. طوبى لأولئك الذين يعيشون حضوره المعزِّي.
كانت السيدة فاسيليّا تعيش حتى اليوم برفقة الألم مع غمرة المحبة، فهي تُكرِّسُ كل وقتها لأطفال المشفى، وتضع كلَّ رجائها على الأطفال الذين رحلوا إلى السماء. حياتها كلها مليئة بخيراتٍ غنيةٍ مع الأطفال. عندما بلغت الثانية والخميسين من عمرها ظهرت عليها أعراض تشبه أمراض الأطفال. كانت تُدهشُ كل الذين يفحصونها طبياً، ولكن من كان يعرفها روحياً كان يؤكد أنها صورة عن هؤلاء الأطفال.
ظهر فجأة في وجهها ورمٌ وعائيٌ (بقعةٌ حمراء) ولم يستطع أحدٌ أن يساعدها. فحصها جميع أصدقائها الأطباء، وحتى أطباء الأطفال ولكن دون نتيجة. وفي يومٍ ماظهرت الأقحوانة الخامسة عشرةَ وكانت زهرتها هذه المرة. صلّت صلاتها الحارة لعائلتها المحبوبة في السماء، وتلقَّت في اليوم نفسه ست مكالمات هاتفية من آباء الأطفال الستة الآخرين الذين غادرونا إلى السماء، وبالطبع دون ان يعلم الواحد بما قام الآخر لأنهم لم يسبق وتعرّف الواحد منهم على الآخر، بعد عدة أيام اختفى الورم نهائياً.
لايسودُ الموت من بعد
هذه الحوادث حقيقة وواقعية. فهي تلقي ضوءاً من نفسها ليس فقط على الماضي، ولكن أيضاً على حاضرهم المبارك، رغم أنه للأسف مجهول بالنسبة لنا. ليس مصدر تعزيتنا الحجج القوية ولا حتى الأحاسيس المفتعلة والكاذبة ولا المحبة البشرية ولا الخدع النفسية. كلُّ هذه لوحدها ليست كافية. تأتي التعزيةُ الحقيقةُ من أولادنا، ليس إذا فكَّرنا بهم كما كنَّا نعرفهم، ولكن إذا تعرَّفنا إليهم كما هم الآن فعلاً.
هناك ثلاث حقائق عظيمة يمكنها أن تنيرَنا.
الحقيقة الأولى هي ان أطفالنا الذين رحلوا عنا في وقت مبكر جداً، ليسوا ضائعين في العدم، بل هم أحياء.
الحقيقة الثانية: إن الله ليس معنى مجرداً، او قوة غير محدودة، أو اختراعاً بشرياً، بل هو موجودٌ، حيٌّ وحقيقيٌّ، والذي في هذه الحياة يرى فقط كما في مرآةٍ تعكس صورة ما يعبده، بينما أولادنا يشاهدونه ” وجهاً لوجه”.
أما الحقيقة الثالثة فهي أنه يتعذر علينا بسبب كثافة جسدنا أن نتواصل معهم، أما هم فبوضوحٍ أكبر وبطرقهم الخاصة، يظهرون علامات حياتهم الأبدية.
السؤال “ أين هم ملائكتنا الصغار”؟ الذين جرحونا بمحبتنا لهم، قد لايحتاج السؤال “أين إلى الإجابة عليه. لأن ” ليس لها اهمية كبيرة، فما يهمُّ هو الشعور الحقيقي بأنهم أحياء، وأننا قادرون على التواصل معهم والأمل بلقائهم في الحياة الأبديّة.
بالتأكيد ففي أيامنا هذه تزداد صعوبة الإيمان، فالتشكيك متزايد. وربما لهذا السبب يصبح ألمُ الوالدين لا يطاقُ، ومعالم الموت أكثر وضوحاً أمامهم من معالم الحياة. وبالفعل إنه لشيء جنونيٌّ أن تشعر أن الموت نهاية قاطعة لارجعة فيها. كم هو فظيعٌ ومؤلم جداً أن تعيش فراقاً لا لقاء بعده.
لكن إنه لأمرٌ أيضاً ذو تعزيةٍ كبيرةٍ عندما يرافق الموت، مع الألم الذي يخلّفه، الإيمان بكل مايشير إلى الحياة الحقَّة، فإذا لم ننجح نحن في نقل هذا الإيمان إلى أطفالنا، فلنتعلم منهم على الأقل، عندها لن يكون موتهم نهايةً مظلمةً، أو فراقاً ضبابياً، بل رقاد ونور. فهو سيحوِّل أولادنا البيولوجيين إلى والدين روحيّين لنا. عندما تُصقل حواسّنا الروحية من خلال التعلّم المستمرّ، فإننا بالإضافة لما نربحه من تعزية الإيمان، تستنير نفوسنا وتفرح بالحوار السرّيّ معهم.
من كتاب “هناك حيث يختفي الله”
تنضيد إلكتروني: ريتا برايا ـ قنشرين