“اختار الله جهّال هذا العالم”
منذ وقتٍ طويلٍ وأنا أسمع عن الطبيب Hendrin أخصائي بولية غريبُ الطباع، واسعُ الشهرة، براعتُه في إجراء العمليات الجراحية للأطفال المولودين بتشوّهاتٍ في المجاري البوليّة مذهلة. يشفي أمراضاً مثل إنقلاب المثانة بتقنيّاتٍ بارعةٍ وبطريقةٍ مثيرةٍ للإعجاب. من الصعب جداً التقرّب منه، فهو لا يبدو ودوداً، لكن ونظراً لمهارته الشديدة، فإنّ الجميع يذكر كيف يصنع عجائب بصلابته وقدرته غير المعهودة على التحمّل، فقد سافر يوم الثلاثاء الماضي إلى فرنكفورت حيث أجرى عمليةً جراحيةً هناك، وكان الوحيد عالميّاً الذي أخذ على عاتقه إجراءها، وعاد يوم الجمعة إلى بوسطن، وسيغادر يوم الأحد إلى هونج كونج، ثم سيعود من هناك يوم الأربعاء.
يوم الخميس لدينا موعد معه. بعد العديد من اللقاءات معه قبل أن يفحص الطفل خريسوفلاندي الذي عمره سنتان ونصف وهو من جزيرة كريت. ولد هذا الطفل المسكين مصاباً بعددٍ من الاضطرابات البوليّة التشريحيّة. والداه إنسانان بسيطان لم يعرفا ما عليهما فعله. استشارا الأطباء في إراكليو (أكبر مدن جزيرة كريت)، فنصحوهما بالذهاب إلى أثينا. كل أعراض هذه الاضطرابات كانت مخيّبةً للأمل . عندما لا يجيب الأطباء بوضوح، ويبدأون بالحديث عن الله، ويشيرون إلى أهمية الصبر، تدرك فوراً أن الأمور ليست على مايرام. أكمل خريسوفلاندي السنة الأولى من عمره وخلال أيام سيبلغ السنتين. لا يلوح في الأفق أيّ أمل بشفاء الطفل.
في أحد الأيام ذهبت السيدة أنذرونيكي والدة الطفل إلى السوبر ماركت للتسوق، وبينما هي واقفة لتختار بعض المشتريات الموضوعة على الرف في السوبر ماركت، سمعت خلفها سيّدتين تتحدثان: إنه لشيء مذهل ما يحدث، أنجبت ابنة عمي طفلة دون مثانة، كبرت وعانت من الأنابيب والالتهابات في مجاريها البوليّة. بالحقيقة عانى أهلها كثيراً وعاشت الطفلة الصغيرة عذاباً عظيماً. في نهاية المطاف، وبطريقةٍ ما تمكنّوا من السفر إلى بوسطن. يقولون أن هناك طبيباً ماهراً جداً لدرجة أنه يصنع العجائب، يصنع مثانةً ورحماً من المعي الغليظ. تمكنّوا من الوصول إليه وقبل أن يجري عمليةً جراحيةً للطفل، استغرقت العملية الجراحية ستّ عشر ساعةً، وبعد مضيّ أسبوع على العملية الجراحية أصبحت الطفلة على مايرام، لا بل أخبرهم ان الطفلة تستطيع ان تصبح أماً عندما تكبر.
تابعت السيدة أنذرونيكي التسوّق وذهبت لتشارك السيّدتين الحديث. أخبرتهما عن مشكلتها وحصلت على المعلومات الضرورية للوصول إلى مكان الطبيب، وبعد أسبوعين وصلت العائلة إلى أمريكا. بدأو بإجراء الفحوصات الطبيّة واحداً تلو الاخر، لم يقل الطبيب شيئاً، فقط كان يسأل، يفحص الطفل ويفكر. لم يحبطهم ولكن لم يعطهم أيّ أمل بالشفاء. أخبرهم أنه يريد ان يفكر مليّاً لمعرفة إذا ما كان بإمكانه أن يفعل شيئاً، فحالة كل طفل هي حالة فريدة. تقول المعلومات عن الطبيب أنه لا يأخذ على عاتقه إجراء عملية جراحية إلا عندما يكون متأكداً من نجاحها. قَبلَ بإجراء العملية وتم تحديد الموعد، حُدَّد هذا الموعد يوم الخميس، وطلبوا مني في المشفى أن أرافق الوالدة للمساعدة في الترجمة.
سبقَ لي أن تعرفتُ على الأم في وقت سابق، فهي أم شابة بسيطة، محبوبة، وتبدو عليها بوضوح علامات القلق والمعاناة. بقي زوجها في اليونان مع مولودهما الجديد وأتت الأم مع طفلها المريض إلى أمريكا دون ضمانة ودون معرفة مسبقة باللغة الإنكليزية، ودون معرفة أيّ شخص هناك يمكنه المساعدة، ودون نقود، ولكنها سافرت إلى أمريكا وبرفقتها الأمل بالشفاء بالإضافة إلى محبتها لطفلها فقط. سألتُها عن اسم طفلها وقالت لي خريسوفلاندي، الطفل منذور، فقلت في نفسي، يالها من بركة كبيرة. لسنا وحدنا. يراقبُ الله كلاً منّا من مكان خاص ولن يتركنا أبداً، فالأمّ تتكلم مع الطبيب في المشفى، ولكن بين الحين والآخر تذكر اسم العذراء والقدّيسة إيريني. لديها إيمان بسيط شعبي، ولكن من نوع مميز، وهذا تماماً كل ما نحتاجه لحالتنا.
زرتهما يوم الخميس، وركبنا المصعد إلى الطابق الخامس، هناك مكتب الطبيب الشهير، الذائع الصيت. لنرى ماذا سيقول لنا، هل سيقرر إجراء العملية الجراحية أم أنه لا يستطيع ذلك؟ ترسم السيدة أنذرونيكي علامة الصليب الكريم ولكنها قلقة، وربما هي نفسها لا تستطيع أن تتفهم سبب قلقها لهذا الحد.
وصلنا إلى مكتب الطبيب، واستقبلتنا السكرتيرة ضاحكة، ولكن في واقع الأمر لا يعبر هذا عن شعورها الحقيقي. انتظرنا حوالي عشرة دقائق. لا شيء يمكن ان يخفف قلق السيدة المسكينة أنذرونيكي، لا تريد سوى تأكيد الطبيب لها إنه يستطيع أن يفعل شيئاً لطفلها. بعد قليل ظهر الطبيب. إنه شخصٌ نمقٌ، مثيرٌ للإعجاب، جدّيٌّ، لا يستعجل، يصف حالة الطفل بالتفصيل، يشير بدقة إلى مخاوفه ويشرح فكرته فخوراً. في النهاية، حدّد لنا موعد العملية وأخبرنا أنه سيبذل قصارى جهده في سبيل نجاح العملية، عانقته الأمّ مستغيثة وسألته:
ـ أذاً ماذا ستفعل؟
ـ يجيب الطبيب ببرودة: هل تؤمنين بالله؟
ـ نعم أومن، أجابت الأمّ.
ـ أنا هو الله!!
صمت قليلاً وتابع : ما أقصده، عندما يؤمن شخص بالله لا يسأل ماذا سيفعل الله، ببساطة، إنه يتكّل عليه. وأنا لا أعرف ماذا سأفعل. سأتخذ قراري لحظة العملية. على كل حال سيكون طفلك على ما يرام.
استمرت العملية الجراحية حوالي عشرين ساعة، فهو ماهر جداً في عمله وكأنه يقوم بتطريز قطعة فنية. تغيرت ثلاث نوبات من الفنيّين والممرضين لكنه بقيّ مستيقظاً. كان يرتاح قلياً ثم يعود من جديد إلى غرفة العمليات. ينظر، يفكر، يستنبط، يصمم، ثم يقرر ويتابع. لا أحد يعلم ماذا سيفعل لا بل وحتى هو نفسه. بدأ العملية الجراحية الساعة الحادية عشرة صباحاً وانتهى منها في الساعة الثامنة والنصف من مساء اليوم التالي. رتّب كل شيء، لكن كان على الصغير أن يجري فحوصات طبية مضنية مدة ثمانية أشهر ثم يخضع لثلاث عمليات جراحية بسيطة اخرى.
لا يمكن تصور حالة الطفل الصغير، ومعاناة والديه الجسدية والنفسية الهائلة، والتساؤلات الملحّة حول مستقبل الولد والتي تبقى دون جواب. في نهاية المطاف نجاح العملية الجراحية لا يمكن إنكاره، فالولد سيعيش، ولكن كيف، لا أحد يعرف او يضمن ذلك. فما قيمة الحياة عندما يعيش شخص ما لكنه في الواقع لا يجب أو الأفضل له ألا يعيش؟
من جهة أخرى، إذا كانت المحاولات العلمية لشفاء المرضى ومنحهم حياة جديدة غير مبنية على كبرياء العلماء وغرورهم، ولكن تهيمن عليها المحبة، فعندها بالحقيقة من يستطيع ان يتحدى إنجازاتهم؟ ومن يستطيع الادّعاء أنَ قيمة الإنسان تتأثر بدرجة إعاقته؟ فكم من مرة ظهر كنز الشخص وحتى من خلال التخلف العقليّ؟
اليوم كبر الطفل وأصبح رجلاً. فتىً شابٌ وجميل. منذ وقتٍ قريبٍ تزوج بفتاةٍ مميزة، وقريباٍ سيصبح أباً. ولادته هي معجزة من الله الذي هو وحده واهب الحياة. بقاؤه على قيد الحياة هو معجزة العلم، وللأسف يهبُ العلمُ الموت للإنسان في بعض الأحيان. لو كان هذا الطفل قد ولد قبل عشرين سنة لما أستطاع البقاء على قيد الحياة. ولو كان من الممكن تشخيص مرضه قبل أن يولد، فعلى الأرجح كنّا سنحرمه حقه بالحياة. فكل هذه المحبة التي تم التعبير عنها من خلال الكفاح ليبقى هذا الطفل على قيد الحياة لكانت قد خُنقت دون رحمة من الرغبة البشرية في عدم مجيئه إلى الحياة، كما نحن نرغب، وكما نعتبر أنه يستحق. لو أراد خريسوفلاندي ألا يجري العلمية الجراحية فقد كان سيخسر حياته. أما والداه فلن يعانيا هذا العناء الكبير لكنهما سيخسران محبتهما ومحبة أبنهما لهما.
أندراوس طفل اندرولا
عام 1987 كنت موجوداً في امريكا. وبالصدفة المحضة عرفت أن طفلاً من قبرص يتلقى علاجاً في مشفى للحروق والأمراض الجلدية يقع قرب المشفى الذي كنت موظفاً فيه سابقاً. وُلِد الصغير أندراوس مصاباً بعدد من الاضطرابات التشريحية البولية والشامات التي كانت تغطي ثلثي جسده تقريباً، كلّ ظهره، نصف صدره وبطنه، إحدى يديه من الكوع وحتى الكتف، القسم الأكبر من الرجلين وجزءاً من الوجه. كان الحل الوحيد إجراء عملية زرع منتظم للنسيج الجلدي السليم على مراحل متعددة، فكان الفريق الطبي يُزيل جزءاً من الجلد السليم وينمّيه في المختبر، فينتج عنه قطعه كبيرة الحجم ضعف القطعة الأولى، ثم يتم زرعها في الجزء المريض من جسم الطفل الرقيق بعد إعدادها بالشكل المناسب. قبل إتمامه السنة الأولى من عمره اضطرَّ أندراوس للخضوع لثلاث عشرة عملية زرع جلد جراحياً، وتسبق كل عملية جراحية عملية تخدير. معاناة الطفل الصغير لا توصف، وصبره لا مثيل له، وأوجاع الوالدين النفسية وقلقهما لا يمكن التعبير عنها.
كان الوالدان قد تأخّرا في أنجاب هذا الطفل، وكم وكان فرحهما كبيراً وسعادتهما تفوق الوصف عندما تأكدا من الحمل! اقترب وقت وضع الجنين، وبعد أشهر من الانهماك والرعاية والرجاء والتحضيرات النفسية والعملية يخرجُ رأسهُ أولاً، ومن ثم جسدٌ أسود كثيف الشعر، ملييئٌ بالشامات، هل يمكن لشخص ما أن يتخيل هذا الانقلاب المفاجئ في حياتهما، ان تكون مستعداً لفرح عظيم ثم تجد نفسك أمام حالة مرضية مزمنة مروعة. هذا المأزق والتناقض في القرارات تحبط كل إنسان.
أخذوا ولدهم وسافروا إلى بوسطن، غرباء في بلد غريب، محاولتهم مجهولة النتائج، زمن إقامتهم في بوسطن غير محدد مستقبل الطفل والعائلة ضبابيّ. يكتب القديس غريغوريوس الاهوتي: “لا يوجد شيء جيد، ألمٌ فقط، كل شيء متّجه نحو الظلام، لا يوجد نورٌ في أيّ مكانٍ، المسيح نائم“. هكذا كانت حال الوالدين عندما تعرّفتُ إليهما.
لماذا ولد هذا الطفل؟ ولأيّ سبب يتعذب ويعاني؟ لأيّ سبب يتوجع أهل الطفل ولماذا هذه المعاناة التي لا تطاق؟ ولماذا يشعرون بالرعب. بمجرد التفكير بمستقبله بدلاً من ان ينسجوا أحلاماً حول ولدهم. لو علموا خلال فترة الحمل أنَّ الجنين مريض لكان احتمال وقف الحمل أكيداً. استناداً إلى أخلاقية العالم ووفق معطيات المنطق البشريّ يكون ذلك حسناً.
قضيتُ معهم ثمانية أشهر تقريباً ونحن نناقش هذه المواضيع، لم أُجب على أيّ سؤال من الأسئلة السابقة مباشرة، ولم أستطع ان أجيب. ولكن ببساطة كنت أشاركهم المحبة والتعاضد والألم قدر ما أستطيع، وهم ايضاً بصلابة رائعة تستحق التقدير. الوالدة أمٌّ مثاليّة، تفيض مشاعر غنية ومعبرة، تقلّبها في الإيمان وتذمّرها مبرَّران. الأب شهم وشديد الاحترام. الوالدان كانا وقتئذٍ في ريعان الشباب، هذه المشكلة جعلتهما ينضجان بسرعة خلال عام من الزمن، فقد كانا سيحتاجان إلى كلّ ما تبقى من حياتهما ليصلا إلى هذه المرحلة من النضج. أناسٌ بإيمان بسيط ومنطق سليم، أناسٌ عاديون وليسوا شديدي الالتزام بالكنيسة.
كانت تعزيتهما الوحيدة الرجل القبرصي الذي أخذ على عاتقه كلّ النفقات المادّية الهائلة لعلاج الولد. والغرباء في المشفى الذين أصبحوا أيضاً أصدقاء حميمين. يبدو أنّ الله كان قاسياً في محبته لهما، لكن الناس تصرفوا على نحوٍ أفضل.
قضت العائلة هناك أكثر من عشر سنوات، وانا عدت إلى اليونان، ودخلت إلى الجبل المقدّس، ثم تمت رسامتي كاهناً. هؤلاء على الأرجح موجودون في قبرص، واحتمال بقاء أندراوس على قيد الحياة كان ضئيلاً جداً. على الأقل حسب تقدير الأطباء مستندين على العلم والإحصائيات. وأنا كنت قد اقتنعت باستنتاجات الاطباء، وافترق كل منا في طريقه.
عام 1999 كنت في لفكوسيا، وقد طلبوا مني أجراء مقابلة تلفزيونية مع وزير الصحة آنذاك، وكنا سنتحاور عبر الهاتف. أخبروني انّ أحد أصدقائي القدامى في أمريكا يريد أن يحدثني على الهواء مباشرة. كان والد أندراوس، طلب ان نلتقي، وبعد وقت قصير انتهت المقابلة فخرجت وكان ينتظرني. السؤال الأول الذي قمتُ بطرحه كان كيف حال أندراوس؟
ـ إنه في عالمٍ آخر، أجابني.
ـ رقدَ؟ سألته.
ـ لم أقل في العالم الآخر، قلتُ في علمٍ آخر.
ـ وأنت، أين أنت؟ تجرأتُ وسألته.
ـ نحن معه في عالمه دائماً.
لم أفهم الكثير، ولم يخبرني المزيد. لكنه ببساطةٍ وحفاوةٍ واحترامٍ دعاني لزيارة منزله ولقاء الطفل، فاتجهنا إلى المنزل مباشرةً. يبلغ الطفل أندراوس اليوم ثلاث عشرة سنة، فهو شاب طوله متر وسبعون سنتيمتراً تقريباً، هيئته الخارجية مقبولة نوعاً ما. ثآليل متفرقة في وجهه ويديه… لم تكن مشكلته جسده، ولكن طريقته في التعبير.
يعاني أندراوس من مرض التوحد( لديه صعوبة في التواصل مع الآخرين) والمرض في حالة متقدمة. لا يستطيع أن يخدم نفسه بنفسه، ولايتكم مطلقاً. لا يستجيب لأيّ مؤثرٍ صوتي خارجي، لا يتحدث، لا يرغب أبداً بسماع الموسيقى. لم يتمكنوا أبداً من تخفيف ألمه. وبقي دون علاج حتى بلغ سن الثالثة عشرة.
في يوم من الأيام أتت عرّابة أندراوس وأخذته معها إلى منزلها الجديد، وكانت ردة فعله مفعمة بالحيوية. كانت المرة الاولى التي يضحك فيها أندراوس. وطلب الذهاب إلى مصدر الصوت. صمت جرس الكنيسة، أصرّ أندراوس على طلبه، وذهبا معاً إلى الكنيسة وحضرا صلاة الغروب. وخلال عودتهما إلى البيت كان أندراوس يتمتم كلاماً غير مفهوم، شغّلت عرّابته الراديو، لكنه طلب منها أن تغلقه، فوضعت كاسيت موسيقى بيزنطية فامتلأ أندراوس حيويّة.
اليوم وبعد أكثر من عشرين سنة، أندراوس يذهب إلى الكنيسة لوحده، ويعرف عن ظهر قلب دستور الإيمان والصلاة الربانية ونشيد عذراء يا أمّ الإله. يرفض أن يذهب إلى مكان آخر، يرسم علامة الصليب بالشكل الصحيح، ويحب مداعبة لحية الكاهن وان يتناول القرابين المقدسة. تقتصر حياته على ذلك، فهو لا يريد أن يفعل أيّ شيء آخر على الإطلاق. لقد جعل والديه يعيشان حياتهما مسبّحين الربّ من خلال عالم أندراوس”الآخر”.
طفل مريض، مضطرب، معطوب، مختل عقلياً، ودون أيّ فائدة للمجتمع، ودون أيّ علاقة به. طفل مبارك، وبشركة سرية مع الله لا يمكن تفسيرها، إنه جوهرة روحية ثمينة في هذا العالم. كما يقول الرسول بولس:”بل اختار الله جهّال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء”. 1 كور 26 _27
لو عرفنا حالة أندراوس قبل ان يُولد، لما كان على قيد الحياة الآن، لكان غير موجود، لكن الله أخفى حالته الحقيقة عنا وجلبه إلى الوجود. إنه جوهرة الله في هذا العالم. كما يقول بولس الرسول:”لأن جهالة الله احكم من الناس. وضعف الله أقوى من الناس”.
ألكساندرا والقصور العقلي
قبل أعوام قليلة تعرفت على طفلة صغيرة اسمها ألكساندرا، تعاني نوعاً من الانطواء على الذات ولديها صعوبة في التعبير عن ذاتها وفي التواصل مع الآخرين. كانت نظرة علماء النفس، وكل أطباء النفس مخّيبةً للأمل بالنسبة لتطور الطفلة ونموّها. لم يستطع الوالدان تحمل هذه الحقيقة القاسية لدرجة أن مجرد التفكير بحالة ألكسندرا كان صعوبة كبيرة. العديد من الأطباء الأخصائيين أعطوا التشخيص نفسه لحالة الطفلة، صعوبة في التواصل وعدم إدراك الأمور. كانت منغلقة على نفسها، بلغت الثامنة من عمرها، وبسبب حالتها لم تقبلها أية مدرسة، لذلك خسرت صفوفاً دراسية عديدة.
لم يكن لوالديها أية علاقة بالكنيسة وكانا مهملين إلى حد ما، وإيمانهما بالمنطق والمعرفة يفوق إيمانهما بالله. فهما لا يعرفان معنى الأيقونة والقنديل، وكانا ملحدين علناً. استطاع بعض أصدقائهما ان يقنعاهما بزيارة أب روحي، إنسان طيب، طبيب روحي حقيقي.
ذهبا بسبب يأسهما وتحدثا إليه، استطاع هذا الأب الروحي بمحبته ولطفه الكبيرين أن يهدئهما إلى حد ما. قال لهما:
ـ ستجد ألكسندرا الحل بنفسها، هؤلاء الأطفال يجذبون نعمة الله بطريقة خاصة وغير مألوفة. هذا ” الظلم” الذي سمح الله بأن تعانوه، هو نفسه سيجد طريقة ما ليخففه عنكم.
ـ لم نذهب إلى طبيب أخصائي واحد فقط أو أثنين لا بل إلى عدة أطباء. لا أحد منهم أعطانا ولو بصيصاً من الأمل. فقد فحصوا الطفلة، وأعادوا فحصها أكثر من مرة، وقد أكدوا لنا جميعهم انه علينا تقبل الحقيقة القاسية، لا بل وأنّ علينا قبولها بسرعة قدر المستطاع، لكي تهدأ نفوسنا إلى حد ما. لكنني لا أستطيع تقبل هذه الحقيقة. لا أستطيع تقبل أنها لن تذهب إلى المدرسة مثل سائر الأولاد. ستبلغ الثلاثين من عمرها، ستتجول في البيت مثل كتلة مادية لا تعي ما تفعل؟
ـ حسناً فعلتما باستشارة المختصين، لكن الله يستطيع أن يقحم حتى أكبر أعظم العلماء، هؤلاء يعرفون الظواهر أما الله فيتدخل في الخفاء. ألكسندرا، كما تعلمون، تخفي داخلها كنزاً ثميناً وحالما تجد الطريقة المناسبة لتظهره سوف تتعجبون ليس من الطفلة فقط، ولكن من فعل الله أيضاً. هؤلاء الأطفال يخصهم الله بمحبته. أجاب الكاهن وصمت. ثم تابع:
ـ عليكما ان تحاولا جدياً إيجاد مدرسة تتعلم فيها ألكسندرا. ابحثا، كونا ملحيّن، احتجّا بأدب. سيحصل ذلك في نهاية المطاف.
بالفعل. بعد العديد من خيبات الأمل والرفض التقى الأبوان بعالمة نفس أبدت اهتماماً كبيراً لم يبدِه أحدٌ من قبل.
في المكتب كانت هناك كتب، أقلام رصاص، وأشياء أخرى كثيرة. وهناك أيضاً أيقونة للسيدة مريم العذراء. تتجاهل ألكسندرا كل هذه الأشياء وتقترب من الأيقونة وتحاول ان تقبلها إذ هي قصيرة القامة ولا يمكن ان تصل إليها. أصرّت الطفلة، فاقتربت منها عالمة النفس ورفعتها بيديها، فبسطت ألكسندرا يديها وقبّلت الأيقونة.
بعد قليل، وخلال الحديث مع والديها، وألكسندرا جالسة في حضن عالمة النفس، يلفت انتباه الطفلة الصليب الذي تلبسه على صدرها وتريد أن تلعب به، تنحني وتقبّله. لم تشاهد أبداً أيقونةً في منزلها وبالطبع لم تألف تقبيل الصليب والاشياء الكنسية. كل هذا أدهش الوالدين، واللذان بدورهما عبّرا عن ذلك للعالمة.
بمساعدة ومتابعة عالمة النفس لها ولمدة سنتين، تم قبولها تحت الاختبار في إحدى المدارس الخاصة. تمكنت العالمة أيضاٍ بمحبتها الكبيرة من أن تُظهر مواهب الطفلة الخفية. فهي تفاجِئ الكل بقدراتها، وتكسب محبة كل الناس ودون استثناء.
طلب والدها إجراء فحص لها لعلها تكسب بعض الصفوف التي خسرتها من قبل بسبب تأخرها في دخول المدرسة. وبالفعل ثبت أنها تستحق الكثير، ففي غضون ثلاثة أشهر أثبتت أنها أفضل من كل زملائها في الصف. إذ أصبحت من الأوائل، ومن ثم انتقلت إلى مدرسة نظامية. ذاكرتها قوية، تتذكر كل عواصم دول العالم، تتعلم الإنكليزية والفرنسية رغم صعوبتها. تعاني صعوبات في الرياضيات، لكنها مدهشة في القراءة والإملاء فهي تقرأ وتكتب دون اخطاء، ترسم لوحات جميلة جداً كما أن خيالها واسع، فهي لا تنسخ عن أحد.
والأهم من ذلك كله انها طفلة مميزة متواضعة. يحبها الجميع، ويريدون أن يلعبوا معها، بعض الأطفال يلاحظون اختلافها عنهم ويحاولون إزعاجها، فترتبك لكنها تسامح فوراً. هواياتها تصب في مجالات الكنيسة والطروباريات وما إلى هنالك، لا أحد يستطيع ان يفهم أو يعرف ماذا تشعر في داخلها.
اعترف لي ذاك الكاهن التقيّ بما يلي:
ـ هذه الطفلة لديها شيء فريد، فأنا أطلب من ألكسندرا ان تساعدني بصلاتها كلما واجهت مشكلة لا يمكن التغلب عليها. وكذلك عندما يطلب مني المؤمنون أن أصلّي لأجل أمر صعب. لا تستغرب، فالله يستجيب لها كما يستجيب للقدّيسين. فهي تصلي للمرضى، للأزواج الذين لا أولاد لهم، وأيضاً لمن يعانون من مشاكل نفسية. أعطيها الأسماء وأشرح لها قليلاً عن الحالة لكي لا تحزن كثيراً، لأنها عطوفة جداً، فهي تصلي والله يستجيب لها.
لو كانت موجودة آنذاك تقنيّة التشخيص الطبي للجنين خلال فترة الحمل، ولو تمّ إجراء هذا التشخيص، لما وجدنا اليوم هذا الكنز. ولكان وبالتأكيد عالمنا أفقر بالوجع والألم وبالظواهر المعيبة، ولكان فقيراً أيضاً بالدلائل على فساده وسقوطه، لكنه من ناحية ثانية سيكون أقل قدرة في إظهار نعمة الله في هذا العالم.
فحضور الصغيرة ألكسندرا يسبب ألماً بالطبع، لكنه يهب نعمة كبيرة لهذا العالم الذي يعاني من الألم. تُعطي الشعور بحضرة الإله الحقيقي، وليس الإله الذي نتخيله نحن البشر والذي هو غير موجود بالتأكيد.
كل طفل مريض مثل ألكسندرا لا يأتي إلى العالم لكي نغتاظ ونعاني. فكل طفل لديه كلمته وصوته السريّ. يبقى علينا نحن تقديم المحبة،”احملوا بعضكم أثقال بعض”، والمشاركة المتواضعة معهم ـ فنحن لسنا أقوياء عظماء كما نظن ـ ومحاولة تخفيف عبئهم وفهم لغتهم. فهؤلاء الأطفال يتكلمون لغة الله أفضل منّا.
من كتاب “هناك حيث يختفي الله”
تنضيد إلكتروني : ريتا برايا ـ قنشرين
ـ