قرّر ترك العالم وتكريس حياته لله، هكذا انطلق مرتل كنيسة القسطنطينية الأول ذو الصوت الشجي باتجاه الجبل المقدس. عند وصوله إلى الجبل، توجه الى “إسقيط القديسة حنة” ، هناك بحث عن أب روحي خبير ليعترف لديه ويسترشد بنصائحه قبل أن يبدأ جهاده الروحي في الحياة الرهبانية .
الإسقيط : كلمة يونانية تشير الى مجموعة من القلالي أو مساكن الرهبان المتقاربة كالقرية ،يعيش في كل منها راهبان او ثلاثة يشتركون ببعض الخدمات وبكنيسة مركزية تقام فيها خدم الآ حاد وألاعياد . تعتبر الحياة في الأساقيط أحد أساليب الحياة الرهبانية البارزة في الجبل المقدس آثوس.
ماذا كنت تعمل يا ولدي قبل مجيئك إلى هنا ؟ سأله الأب الروحي. جاء هذا السؤال مربكاً للشاب المبتدئ الذي طأطأ رأسه وبصوت منخفض وبتواضع أجاب : لقد كنت المرتل الأول في مدينة القسطنطينية.
صمت الأب الروحي متأملاً للحظات عند سماعه هذه الإجابة، وبعد برهة كأنما استنار فكره من الله قال :أصغ إلي يا ولدي، قد تقودك موهبة الصوت الملائكي التي وهبك الله إياها إلى الكبرياء وخسارة نفسك، إن لم تكن حذراً ومنتبهاً. لدينا هنا في الجبل المقدس أعياد كثيرة، وإذا ما سمع الإخوة صوتك العذب، سيدعونك جميعهم إلى أعيادهم لترتل، لكن روحك هكذا لن تكون مأخوذة بالله والصلاة، إنما بالترتيل والمدائح، وكما تعلم ليس هدفنا هنا إرضاء الناس إنما نيل رضى الله. معك حق يا أبت، أجاب المرتل الأول دون معارضة، سأسعى بنعمة الله لإتمام كل ما تمليه عليّ ولحفظه بدقة.
الجبل المقدس: أي جبل آثوس وهو شبه جزيرة في شمال اليونان ، فيه أكبر تجمع رهباني أرثوذكسي في العالم من بلدان مختلفة .يذكر التقليد أن العذراء اختارته كمكان مقدس مكرس للرهبان ، ولذلك تعتبر السيدة العذراء حامية الجبل.
أفكر يا ولدي أن أرسلك إلى شيخ روحي تقي ومختبر في الجهاد الروحي، لكن انتبه لما ستفعله، إقرأ هناك المزامير وكل الصلوات على أكمل وجه كما تعرف، لكن لا ترتل أبداً بشكل متقن، حاول أن تقوم عمداً ببعض الأخطاء في الترتيل كي يظن الآخرون أنك لا تتقن الموسيقى، وعندما ستستمع بعد قليل من ترتيل رئيس الدير الذي سنقصده، تظاهر بأنك لا تستطيع مجاراته في الترتيل .
سمعاً وطاعة ، أجاب المبتدئ . ثم انطلقا معاً إلى الدير الذي سيقيم فيه الشاب. ومرت هكذا السنون ….
وفي يوم من الأيام التقى الأب الروحي برئيس الدير، وبادره بكثير من اللهفة والقلق بالسؤال : كيف حال راهبنا المبتدئ؟
يتقدم بشكل جيد، الشكر لله، أجاب الشيخ برضى، ثم أردف قائلاً: إنه متواضع جداً، تقي ومطيع، يقرأ بشكل رائع، لكنه لا يحسن الترتيل ويرتكب الأخطاء، رغم أنني أصحح له دائماً. والحق أنه يحاول جاهداً، لكنه حتى الآن لم ينجح.
اغرورقت عينا الأب الروحي، وعاد الى قلايته بالدموع عند سماعه كلام رئيس الدير، لكنه لم يكشف له الحقيقة شاكراً الله ومتأثرا بتواضع الراهب .
القلاية: لفظة عربية للكلمة اليونانية تعني غرفة الراهب أو دير صغير لعدد قليل من الرهبان.
مرت السنوات بكثير من الصلاة والصوم والطاعة. كان المرتل المتواضع يقبل بدون انزعاج إرشادات المرتلين الآخرين، الذين كانوا يصححون كل خطأ يقوم به. أما الأب الروحي الذي أرشده، فكان قد وصل إلى مراحل روحية متقدمة بسبب جهاداته القاسية، ومنح من الله موهبة التبصر، وقد علم مسبقاً بأن المرتل سيصاب بمرض خطير ويغادر هذه الحياة الفانية بعد أيام قليلة جداً.
في الخامس والعشرين من شهر تموز احتفل الإسقيط بعيد رقاد القديسة حنة والدة العذراء شفيعته، وكما جرت العادة حضر جميع رهبان الإسقيط، والعديد من الزوار إلى الكنيسة الكبيرة. في هذا اليوم أوكلت إلى الأب الروحي ترتيب خدمة الصلاة.
بدأ القداس الإلهي باكرا جداً ، وعندما حانت ساعة الدخول الكبير، اقترب الأب الروحي من المرتل وأمره أن يتهيأ ليرتل التسبيح الشيروبيمي. حزن المرتل المتواضع كثيراً، لم يرد أن تكشف هويته بعد انقضاء كل هذه السنوات. مرت سنوات عديدة يا أبي، تمتم بصوت خافت، أكاد لا أتذكر شيئاً، لكن أباه الروحي ألحّ وأصرّ على طلبه، فأجاب المرتل .. سمعاً وطاعةً، وذهب ليستعد.
تعجب الجميع ظانين أن الأب قد أخطأ الخيار، وتهامسوا فيما بينهم بانزعاج: لدينا العديد من المرتلين الأكفاء، ولم يختر سوى هذا الراهب صاحب الصوت السيئ، ليرتل في مثل هذه الساعة وهذا اليوم.
حانت ساعة الدخول الكبير، وبأمر من الأب بدأ المرتل التسبيح الشاروبيمي بكثير من الخشوع : أيها الممثلون الشاروبيم سرياً والمرنمون التسبيح المثلث تقديسه.
تفاجأ الجميع لما سمعوا النغمات الملائكية في صوته العذب، ودهشوا ببراعته في أداء المقاطع اللحنية، فنظروا متأثرين بعضهم إلى بعض، كيف يمكن لمن لا يعرف أصول الترتيل، أن يرتل بمثل هذا الأداء الرائع؟!!
محفوفاً من المراتب الملائكية……، أكمل المرتل بإتقان لا مثيل له. عندها فهم الجميع أن هذا الراهب كان يتقن الترتيل جيداً، وتساءلوا ما الذي دفعه لأن يدعي عدم المعرفة وقلة الخبرة كل هذه السنوات!!
وخجل الإخوة من أنفسهم عندما تذكروا كل المرات التي كانوا ينظرون فيها إليه بقسوة، عندما كان يخطئ وكيف كانوا ينحونه جانباً أثناء الترتيل.
انتهى القداس وخرج الرهبان إلى فناء الكنيسة وتحدثوا بتأثر عن تواضع هذا الراهب “عندليب العذراء”، كيف كان مختبئاً في بستانها كل هذه السنين؟
قال أحدهم متعجباً: كان هذا المبارك يسمعنا طيلة هذه السنوات بالرغم من كل أخطائنا في الترتيل، دون أن يصحح لنا أبداً.
وقال آخر: ليس هذا فقط بل كم كنا نصحح له ونوجه له الملاحظات على كل خطأ يقوم به ،وهو لم يكن يتذمر البتة، بل كان يجيب مطأطئ الرأس: سامحوني يا إخوتي سأعيد المحاولة. المجد لله على هذا الصوت، وكأن كل طيور المغّردة اجتمعت في حنجرته.
تعجب آخر: هيا بسرعة لنذهب إليه ونطلب المسامحة، وأسرع الجميع وراءه ، وبالكاد لحقو به، لأنّ أباه الروحي كان يرافقه مبعداً إياه بسرعة عن المدائح وكلمات الإعجاب والثناء، وليوصله للمرة الأخيرة إلى قلايته. ما كان لأحد أن يعرف بتواضع هذا الراهب لو لم يظهره أبوه الروحي، وهو لم يكشفه إلا لإفادة الآخرين.
بعد مرور يومين على هذا الحدث، مرض صاحب الصوت الملائكي بشدة، ورقد بالرب كما تنبأ أبوه الروحي، والآن هو يرتل في السماء مع الملائكة، وسيمجد خالق الكل إلى دهر الداهرين آمين.
من كتاب الرب قريب ـ منشورات دير سيدة البشارة ـ حلب
قنشرين
قصة جميلة رينا يبارك فى خدمتكم