إن المسيحي، بنوع خاص – في المجتمعات ذات الغالبية الاسلامية – هو ضحية عقدتين، الأولى هي “عقدة التفوق” والثانية “عقدة الخوف”، فالمسيحي يعتبر نفسه متفوقاً على المسلم في مجال العلم، وبالتالي صاحب حقٍ في الحكم أو في التقدم والامتيازات، غير أنه يعرف أيضاً أن الديمقراطية في النتيجة هي حكم الأكثرية ولذلك فهو يتوجس ريبةً من المسلم الذي يطالب بالحكم باسم الأكثرية.
من هنا تبدأ المشكلة ويبدأ الخوف المسيحي الدفين منذ مئات السنين ضمن دهاليز النفس البشرية، مترافقاً مع صور من التطرف الذي رافقته اضطهادات، لأن المجازر التي وقعت في بدايات القرن العشرين في أيام العثمانيين تتراءى أمامهم، وكأن المسلمين يستعدون لشن حملة اضطهاد على المسيحيين في أي لحظة، الأمر الذي ينكره العقلاء، وكل من يفهم ما معنى الوحدة الوطنية والإخاء الديني والعيش المشترك، ولأن هذه التصرفات كانت بغالبيتها غير مسؤولة، فتَوجَهَ المسيحي الى “التقية” وشارك في العصر الحديث بمهرجانات وكرنفالات الحوار الديني واللقاءات التي كانت تغذّيها حكومات لم تَفهم الخوف الحقيقي لدى المسيحي، فبقي دعمها يقع ضمن هدف تحسين صورتها واستخدام الورقة المسيحية في لعبتها السياسية، ولم يَصعُب عليها أن تَجد من يُساعدها – مدفوعاً بالحصول على بعض المكاسب – في تنفيذ نظرتها قصيرة المدى، وأعني منهم بعض رجال الدين المسلمين والمسيحيين أو المتسلقين والنَكِرات غير المُعرَّفَة الذين يرغبون أن تمنحهم هذه الحكومات بعض المناصب و “ال” التعريف.
لقد وقف بعض المسيحيين، أفراداً وجماعات، حيال الاسلام موقف الخوف، أو الحذر، أو الانعزال والانكماش إما على الذات والامتناع عن الانخراط في المجتمع (وهو في اكثريته مجتمع إسلامي) وعيش مشاكله والمشاركة في آماله وتطلعاته (مشكلة التخلف والنمو، مشكلة التبعية والاستقلال، مشروع العروبة والتطلع الوحدوي) وإما التطلع الى الخارج أي الى الغرب، والاستقواء به (سواء مباشرة او بطريقة غير مباشرة، اي اخذ منحى الغربنة او التغريب).
هنا توَّجَهَ المسيحي في السابق الى الهجرة، (اليوم اصبحت ظاهرة الهجرة خطيرة لان الذي يغادر لا يعود) وتوجه مدفوعا بالخوف من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وليس مدفوعاً بخوفه من المسلم بشكل منفرد، بقدر الخوف من الأمية الاسلامية ومن الاسلام المتعصب، فبالنسبة الى المسيحيين، يتمحور الخوف حول مسألة إقامة نظام اجتماعي سياسي إسلامي يكون له نتائج على أوضاع غير المسلمين وعلى حرياتهم.
مازالت هنالك الى الآن أسباب تدعو الى هجرة المسيحيين من المنطقة، وواحدة من هذه الاسباب عقدة الشعور بالخوف من المستقبل، فأمام موجة التعصّب وسوء التفاهم، وأمام التيار الأصولي المتنامي والانتشار الاسلامي السريع في البلاد العربية والاسلامية من جهة، وفي بقية البلدان في العالم من جهة أخرى (وهو ما يحدث الآن في بقع متعددة من العالم تحت ستار التطرف الاسلامي وهو ليس الّا تصرف لأسباب متعددة أُخرى)، يتنامى الشعور بالخوف من المستقبل ومن استمرارية روح العيش المشترك بين المسيحية والاسلام تغذيه تقصير بعض الحكومات والأحزاب التي لم تُبحر في عمق الخوف المسيحي، وربما يكون هذا العامل النفسي غير صحيح، لكنه في الواقع موجود.
إن على المجتمع ذي الغالبية الاسلامية وعلى المسلمين بالأخص، طمأنة المسيحيين على مشاركتهم في هذه المجتمعات كمواطنين كاملي المواطنة، إضافة الى كل ما طرحته سابقاً، وهذه الطمأنة لا تأتي خلال شهر او أكثر بقدر ما يلزمها الكثير الكثير من السنوات، وإلا فإننا سنتوجه الى مجتمعات شرق أوسطية خالية من المسيحيين.
أما أنا فلسان حالي يقول مع توفيق زياد:
ولن نرحلْ
إنَا هنا لنا ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلْ
المهندس باسل قس نصر الله
مستشار مفتي سورية