لا يعرف معظم المصريون جزءًا كبيراً من تاريخهم الثرى إما جهلاً أو تجاهلاً، تجاهلت وزارة التربية والتعليم تدريس الحقبة القبطية (القرون الخمس بعد الميلاد) إلا في عدة ورقات لا يمتحن فيهم الطلاب، خصصت جامعات العالم قسماً وعلماً يسمى علم القبطيات “قبطولوجي” لتدريس الاجانب الحضارة القبطية وتجاهلته الجامعات المصرية، وعلى الجانب الآخر تم اهمال التراث العربي المسيحي الزاخر، الذي يحتوى على اسهامات المسيحيين العرب فى الحضارة العربية.
من هذا المنطلق نبدأ بمشيئة الله سلسلة مقالات نسلط فيها الأضواء على أهمية وخصائص التراث العربي المسيحي وكيف نشأت المسيحية العربية واسهامات المسيحيين العرب في اللغة والترجمة والآدب والعلوم والهندسة… كما نسلط الأضواء على مجموعة من المسيحيين العرب الذين ساهموا بدور بارز في الحضارة العربية وخاصة في العصر العباسي، وهو العصر الذهبي للمسيحية العربية، ويمتد من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، تحديداً من سنة 750 إلى نحو سنة 1350، ومنهم: حُنين ابن اسحاق، يَحيى بن عدي ، ثاودورس أبو قرة، حبيب أبو رائطة التكريتي، ساويرس بن المقفع، البطريرك تيموثاوس الأول، قسطا بن لوقا وغيرهم.
ونهدف إلى التعريف بالمسيحية العربية ودورها التاريخي كجزء أصيل من تاريخ الأمة وذاكرتها، بالإضافة إلى تذكير الأجيال الناشئة بتاريخ أجدادهم، صنّاع الحضارة، ليفتخروا به ويسيروه على نهجه فمن ليس له ماضي ليس له مستقبل ومن نسي تاريخه نساه التاريخ.
[ads1]
ما هو التراث؟
يُعرّف الأب سهيل قاشا، التراث بأنه المرآة التي ترى الأمة من خلالها: ذاتها، حضارتها، مجدها، تاريخها وخزين تجاربها عبر القرون .وهو واحد من أغلى المقدسات المسيحية، لما يضم بين دفتيه من مخطوطات تعطى اهم وأقدس منابع ومصادر الاحكام في الفكر المسيحي العربي.
يشمل التراث: الفلسفة واللاهوت وعلم الكلام والتصوف والأدب والعلم والفن وغيرها، ويعتبر أحد المقومات الأساسية الثقافية للعالم العربي ويرتبط ارتباطا وثيقا بالدين واللغة.
يخبرنا الدكتور احمد أبو زيد في كتاب “هوية الثقافة العربية”، أن التراث يعكس البعد التاريخي او الزمنى للثقافة باعتباره تسجيلاً للحياة الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية خلال التاريخ فهو يحفظ الماضي وذاكرته كما سجلته عقول الماضي من فلاسفة ومفكرين وادباء وعلماء وغيرهم ومع ذلك فان هذا التراث الضخم يعيش ويؤثر فينا سواء ادركنا او لو ندرك ذلك كما ان الثقافة العربية الحالية هى حصيلة ذلك الماضي بقدر ما هي نتاج الاتصال والاستعارة من الثقافات الاخرى القائمة الآن. فالتراث باعتباره نتاجا وتعبيرًا عن الثقافة والمجتمع خلال تاريخهما الطويل هو اداة التواصل والربط بين الماضي والحاضر وهو الذي يكشف عن العمق التاريخي ويساعد على تصور المجتمع العربي كمتصل ثقافي.
والمقصود “بالتراث العربي المسيحي”، كما يرى الأب سمير خليل اليسوعي، بأنه كل ما ألّفه المسيحيون باللغة العربية، سواء كان ذلك موضوعا أصلاً باللغة العربية، أو مترجما إليها من لغات أخرى. فمؤلفات الآباء مثلا التي كُتبت باليونانية أو السريانية أو القبطية، تُرجمت في العصور الأولى للهجرة الى اللغة العربية، فهي أصبحت من التراث العربي، وذلك بصرف النظر عن أصل المؤلف أو المترجم، إذ قد يكون المؤلف رومياً أو سريانياً أو قبطياً… فإن جزءاً لا يستهان به من التراث العربي المسيحي القديم قد تُرجم في المرحلة الأولى من اليونانية أو السريانية أو القبطية إلى العربية. وعندما نقول “عربي” لا نعني “مسلم” لأن اللغة العربية كانت قبل الاسلام يتكلمها العرب المسيحيون وبها يصلون، وهناك مسلمون لا يتحدثون العربية مثل الاتراك والايرانيين وغيرهم.
والتراث العربي المسيحي مدخل للأرضية المشتركة بين المسيحي العربي والمسلم، فاللغة والتراث والثقافة والتقاليد أمور مشتركة تشجع على الحوار البناء والعيش المشترك الانسان صديق من يعرف وعدو ما يجهل.
[ads1]
يتفق الباحثين على وجود ثلاثة تيارات كان لها تأثير عميق على الإنتاج اللاهوتي للكُتاب المسيحيين العرب بشكل عام والأقباط بشكل خاص:
الأول: هو تيار آباء الكنيسة التقليدي: فمن المعروف أن الأدب العربي المسيحي، نشأ في أواسط القرن الثامن، ولم يكن الأساس لكتاباتهم سوى متابعة للاهوت الآباء اليونان والسريان والأقباط وأيضاً اللاتين. وهناك بعض نصوص لآباء الكنيسة اليونانية فُقد أصلها ولم تصل إلينا إلا عن طريق ترجمتها إلى اللغة العربية.
الثاني: تيار الفلسفة اليونانية: استفاد علم اللاهوت العربي كثيراً من الفلسفة اليونانية. ليس فقط لأن الباحثين العرب المسيحيين كانوا مهتمين بشكل خاص بدراستها ونقلها وترجمتها، بل أيضاً لأن المسلمين أنفسهم في القرون الوسطى كانوا من المعجبين بعلم اليونان وبفلسفتهم. إن التحديد والدقة للمصطلحات (مادة، جوهر، طبيعة، شخص، انبثاق الخ)، وأيضاً بعض الأُطر الفكرية (التمييز، المقياس، والجدل) جاءت من التراث الفلسفي اليوناني.
الثالث: علم الكلام الاسلامي: ليست مجازفة التأكيد بأن الأدب العربي المسيحي انتبه واستفاد من طرق تفكير ومصطلحات خاصة بالإسلام ولا سيما المعتزلة والاشعرية. فهناك تأثير متبادل بين علم اللاهوت المسيحي وعلم الكلام الاسلامي.
أهمية دراسة التراث العربي المسيحي
يضع الأب سمير خليل اليسوعي، اربعة اهداف لأهمية دراسة التراث العربي المسيحي: الهدف الاول ثقافي علمي، يهدف إلى إطلاع المثقفين العرب والمستشرقين على جزء كبير من الانتاج الفكري العربي، مازال حتى الآن غامضاً عليهم او مجهولاً. والهدف الثاني هو ديني، يرمي إلى حمل المسيحيين في العالم العربي على اكتشاف ينابيع فكرهم الاصيل، علما بأن الكثيرين منهم قد يجنحون الى تجاهل ذاك التراث العربي المسيحي الذي هو تراثهم. وبذلك نسهم، قدر امكاننا، في مساعدة المسيحيين على فتح حوار مع اخوانهم المسلمين، تكون له جذور عميقة في تراثهم العربي المشترك. والهدف الثالث هو اجتماعي، بهدف إلى تسليط الأضواء على الدور الهام الذي قام به المسيحيون في نشأة الحضارة والثقافة العربية . وبهذا أيضا نساعد المسيحيين والمسلمين على استيعاب تلك الحقيقة الرانية، وهي كونهم أعضاء في جسم المجتمع العربي الواحد عينه. أما الهدف الرابع تاريخي، يوضح الدور الذي لعبه هذا التراث المسيحي الخاص في الحضارة العربية الاسلامية وبالتالي في الحضارة الإنسانية.
في العدد القادم نستعرض كيف نشأت المسيحية العربية وبدايات ظهور العرب في الكتاب المقدس.