من معجزات السيد المسيح الباهرة تكثير الخبز والسمكات، وهي المعجزة الوحيدة المذكور في الاناجيل الأربعة (متى 14/13-21)؛ (مرقس 6/ 30-46 )؛ (لوقا 9/ 10-17)، وأخيراً في إنجيل القديس يوحنا الذي نقرأه في هذا الأحد (يوحنا 6/ 1-15). ولن أخفيكم بأن هذه المعجزة هي التي أثرت فيَّ كثيراً لا بل كانت ملهمتي في الحياة. لماذا؟ اليكم الجواب كما افهمه وأفسره:
يصعد يسوع الجبل ليعلم وهذا يذكرنا بعظة الجبل لأنه المعلم بامتياز، أي يعلم بصورة رسمية، تعليماً جديداً وبسلطان.. لذلك كانت تتبعه الجموع بهذه الاعداد الهائلة لكي يسمعوا لكلامه.. انه عطش لا بل جوع الى الكلمة والتعليم لدرجة أنه ينسيهم الجوع المادي للأكل.
لهذا ينظر الى الجموع ويشفق عليهم ويريد أن يطعمهم أيضاً لذلك فهو الذي يبادر الى ايجاد الحل ويحاول أن يشرك التلاميذ لذلك يقول لفيلبس: “من أين نشتري خبزاً ليأكل هؤلاء” ويضيف الانجيل: “وإنما قال هذا ليمتحنه، لأنه كان يعلم ما سيصنع” كان يعرف جيداً بأن التلاميذ لا يستطيعون اطعام كل هذه الجموع، وحتى لو توفر المال فلن يتوفر كل هذا الكم من الطعام في مكان كفر، تصوروا لو أن لدينا اليوم مثل هذا العدد الضخم “خمسة آلاف” رجل غير الأولاد والنساء؟ ماذا يمكن أن نفعل حتى ولو كنا في مدينة كبيرة فيها من المطاعم والمحلات التجارية!! إن الامر تعجيزي لا بل مستحيل.. ففي أي مناسبة اجتماعية مثل الافراح والاتراح يحضر الناس من ايام طويلة لتأمين الطعام والشراب لمئات المعازيم وليس للآلاف.. فكم بالأحرى لو كان الامر في البرية وقبل ألفي سنة؟
بالفعل لقد أوقع السيد المسيح التلاميذ في حيرة، وها هم يحاولون ايجاد الحلول لا بل الحجج على عجزهم: اقترح التلاميذ على يسوع أن يصرف الجموع لأن “المكان قفر وقد فات الوقت، فاصرفهم ليذهبوا إلى المزارع والقرى المجاورة، فيشتروا لهم ما يأكلون”. فيلبس يقول: “لو اشترينا خبزاً بمائتي دينار، لما كفى أن يحصل الواحد منهم على كسرة صغيرة”. أما في انجيل مرقس يتساءل التلاميذ:” أنذهب فنشتري خبزاً بمائتي دينار ونعطيهم ليأكلوا؟ ولكن يسوع يصر: “أعطوهم أنتم ما يأكلون” وهنا لم يبقى لديهم حلاً الا رأي أندراوس أخو سمعان بطرس: “ههنا صبي معه خمسة أرغفة من شعير وسمكتان، ولكن ما هذا لمثل هذا العدد الكبير؟ ونرى هنا تشكيكاً منطقياً بعدم كفاية الأرغفة والسمكات لإطعام هذا العدد الكبير.
وهنا يستوقفني اصرار يسوع على التلاميذ خاصة وأنه يعرف ما سيفعل وأن ليس لديهم حلاً وأن ما لديهم لن يكفي، والنتيجة هي أنه كان يريد مساهمة الانسان ولو البسيطة ليطعم الجماهير الغفيرة، ولكن أيضا وفوق كل شيء كان يريد أن يتحمل التلاميذ – أي الكنيسة – مسؤولية اطعام الجياع في وقت الشدة والفقر والجوع.
وتتوالى الاحداث متسارعة بسلسلة من أفعال الأمر: اقعدوا الجموع، وزعوا على الجموع، واجمعوا الكسر، وبهذا تضاف هذه الافعال الثلاثة الى الفعل الرابع السابق “أعطوهم أنتم ليأكلوا” ونكتشف بأن هذه الافعال الاربعة موجهة للتلاميذ وليس للجموع، وهنا تأكيد اضافي على ما قلناه من رغبة يسوع بأن يتحمل التلاميذ المسؤولية وأن يحملوا الرسالة أي اطعام الجياع، نتوصل الى النتيجة بأن كنيسة يسوع المسيح التي لا تستطيع أن تلبي الاحتياجات الاساسية الملحة في وقت الشدة والضيق ليست كنيسة يسوع المسيح، وأن كنيسة يسوع المسيح التي لا تستطيع الدفاع عن الفقراء والمظلومين في وقت الظلم والاضطهاد ليست كنيسة يسوع المسيح، فكنيسة يسوع المسيح الحقيقة لا يمكن أن تسكت أمام الفقر والجوع والظلم والاضطهاد. وهنا عندما أتكلم عن الكنيسة فلا أقصد فقط المؤسسة ولكن أيضا كل مسيحي معمد لأنه أيضاً تلميذ لا بل رسول.
أجمل ما في هذه الاعجوبة هو موقف الصبي الذي أعطى الخمسة أرغفة والسمكتين للتلاميذ والذين اعطوها ليسوع، فهذا الصبي كان بإمكانه أن يرفض لأنها له فهو يريد أن يحتفظ بها لنفسه أو يأكلها مع عائلته وأصدقائه، ولكنه كان كريماً على عكس كل الاطفال الانانيين الذين يحتفظون بأشيائهم لوحدهم. لذلك أرى به مثالاً وقدوة لنا، فيا ليتنا نكون مثله ونعطي للرب القليل الذي لدينا. لذلك فنصيحتي هي: لا تخافوا أن تكونوا وتبقوا مثل هذا الطفل الصغير لأنه لطيف وكريم، وكثيراً ما شعرت بأني مثل هذا الطفل الصغير، فما فعلته أو أفعله ما هو الا هذه الأرغفة الخمسة والسمكتين والرب سيفعل الباقي وسيعمل المعجزة.
أكلوا وشبعوا وفضل وراءهم المزيد وكان أمر يسوع الاخير للتلاميذ: “اجمعوا ما فضل من الكسر لئلا يضيع شيء منها” فجمعوها وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر التي فضلت عن الآكلين، فهو حريص على المحافظة على النعمة… وكم من مرة وكم من كمية من فضلات الطعام نرميها من دون اكتراث رغم أن الكثيرين من الناس لا يجدون ما يسدون به رمقهم جوعهم أو عطشهم!!! يسوع يعلمنا الاقتصاد والتدبير واحترام النعمة.
طبعا مثل هذه الاعجوبة الباهرة ستثير اعجاب الجماهير وكانت النتيجة بأنهم رأوا في يسوع ليس فقط واعظاً بليغاً ولا صانعاً للمعجزات فحسب بل أكثر: “حقا، هذا هو النبي الآتي إلى العالم” ولكن لم يصل بهم الأمر الى الايمان بأنه ابن الله أو الله… أما الموقف الثاني فانهم ارادوا ان يختطفوه ليقيموه ملكاً، لأنهم رأوا فيه القدرة على تدبير الأمور وايجاد الحلول وقت الازمات.. أليست مهمة الملك أن يدبر أمور الناس واحتياجاتهم..!؟ أم انه فقط الحاكم الآمر الناهي المتسلط على الرقاب والعباد؟! هنا يستشعر السيد المسيح بالخطر الداهم والمؤامرة التي تحاك حوله فانصرف وعاد وحده الى الجبل، وهذا يدل على تعفف وتنزه السيد المسيح في طلب المجد الباطل وأمور الدنيا الزائلة الفانية، لا بل الابتعاد عن الشعبية الرخيصة التي يركض اليها كل بني البشر المطبوعين على حب الأبهة والعنجهية والسلطة والمناصب.