الولادة: –
الوفاة: –
أسرة جورجونيا
شخصية جورجونيا رائعة، وأسرتها تمثل نموذجاً حياً للأسرة المسيحية التي تحيا بالإيمان الحيّ العامل بالحب. فوالدها غريغوريوس الذي جذبته زوجته نونا Nonna، لا ليؤمن بالسيد المسيح فحسب، بل ويصير أسقفاً فيما بعد. امتدح القديس غريغوريوس النزينزي والده غريغوريوس ووالدته نونا قائلاً إنهما دُعيا إبراهيم زمانه وسارة زمانها، إذ تبررا مثل إبراهيم بالإيمان. بل يتجاسر فيقول أن والدته نالت كرامة أكثر من سارة. فمن كلمات القديس غريغوريوس في مديحه لوالديه: [هوذا الراعي الصالح هو ثمرة صلوات زوجته وإرشادها، وقد تعلم منها حياته الرعوية المثالية. بقوة هرب من عبادة الأوثان، وبعد ذلك صارت الشياطين تهرب منه، لقد صارا متساويين في التعقل والبهاء، غيورين يسندان بعضهما البعض، يطيران فوق الجميع… كان لهما جسدان، ولكن كأنه قد تحول الجسدان إلي روحٍ، حتى قبل انحلالهما.] أكمل القديس غريغوريوس مديحه لوالديه اللذين جحدا العالم تماماً لكنهما كانا يملكان كل شيء ولا يعوزهما شيء. لقد رفضا الغني فصارا غنيين في الكرامة. أخيرًا قال: [أقول فقط كلمة واحدة عنهما، أنهما بحقٍ وعدلٍ قد عُين كل واحدٍ منهما لجنسه، عُين هو زينة للرجال، وهي زينة للنساء، ليس فقط زينة، بل ومثالاً للحياة الفاضلة.] هي الأخت الكبرى للقديس غريغوريوس النزينزي St. Gregory Nazianzen والقديس قيصاريوس St. Caesarius .
وقد تزوجت وأنجبت ثلاثة أبناء، أنشأتهم نشأة مسيحية كما تربت هي نفسها. أحبت هذه القديسة الكنيسة خاصة تسابيحها وخدمتها والاهتمام باحتياجاتها، وعاشت في مخافة الله، سخية مع الفقراء. تعمدت في سن متقدمة هي وزوجها وأبناؤها وأحفادها. وعند نياحتها نحو سنة 372م رثاها شقيقها غريغوريوس معدداً فضائلها وثمارها الصالحة، وتعتبر هذه العظة مصدر معلوماتنا عن حياتها. مديح القديس غريغوريوس النزينزي للقديسة تطلع أخوها الأصغر منها القديس غريغوريوس النزينزي إليها كنموذجٍ حيٍّ للإنسان المسيحي، وقد تأثر بها جداً، إذ كان مغرماً بتقواها وورعها. وأخوها الآخر قيصريوس، غالباً أكبر منها، كان طبيباً تقياً ونابغاً نال مركزاً مرموقاً في القصر بالقسطنطينية. سندت القديسة زوجها أليبوسAlypius بل وقادته في طريق الفضيلة والتقوى. أما ابناها فقد سيما أسقفين. حين وقف أخوها الأسقف غريغوريوس يرثيها في حضور أبيها الروحي فوستينوس أسقف أيقونية، وزوجها شعر بصعوبة بالغة إذ أدرك أن الكلمات تعجز عن أن تعلن عما بلغته. في مديحه لها قال إنه لم يستخدم الكلمات البراقة لأنها كانت في حياتها لا تتحلى بالزينة الخارجية، وكان تخليها عن الحلي هو جمالها.
[موطن جورجونيا كان أورشليم العليا (عب22:12،23)? التي يقطنها المسيح، ويشاركه المجمع وكنيسة الأبكار المكتوبين في السماء?] [بالنسبة للحديث عن سمو فضائلها بين أناسٍ يعرفونها، فليساهم كل واحدٍ منهم فيه ويعينني، لأنه يستحيل علي شخصٍ واحدٍ أن يسد كل النقاط، مهما كانت قدراته علي الملاحظة والتعقل.] [إن كانت قد ارتبطت باتحادٍ جسديٍ، لكنها لم تنفصل عن الروح، ولا لأن رجلها كان رأسها تجاهلت رأسها الأول (السيد المسيح)? لقد ربحت زوجها إلي جانبها، وجعلت منه عبداً شريكاً معها بدلاً من سيدٍ عنيفٍ.] [جعلت من ثمار جسدها، أي من أبنائها وأحفادها، ثماراً لروحها، مكرسة للَّه ليس فقط نفسها الوحيدة بل كل الأسرة وأهل بيتها.] [بخصوص تعقلها وتقواها ليس من إمكانية لتقدير ذلك. إنها لم تجد أمثلة كثيرة حولها سوى والديها حسب الطبيعة وأبوها الروحي (الأسقف)، الذين كانوا النماذج الوحيدة أمامها، والتي لم تفشل في التمتع بأية فضيلة فيهم?] [أي تعقل كان فيها مثل صمتها؟! إذ أشير إلي الصمت، أعود إلي أهم ما في شخصيتها اللائقة بالنساء، الأمر الذي يُحسب أهم شئ يخدم هذه الأزمنة. من لديه معرفة كاملة في الإلهيات سواء في الوصايا الإلهية أو في الفهم مثلها؟! مع ذلك من كانت مستعدة أن يكون قليل الكلام تعرف ما هو حدودها كسيدة؟!”] [إني لا أتردد في أن أكرمها بكلمات أيوب: بيتها كان مفتوحاً لكل القادمين؛ لن يلجأ غريب إلي الشارع. كانت أعينًا للعميان، وأقدامًا للعرج، وأماً للأيتام (أي15:29؛ 32:31)? بيتها كان مسكناً عاماً لكل المحتاجين من أسرتها.وممتلكاتها ليست بأقل من أن تكون مشاعاً للمحتاجين الذين كانوا يشعرون بملكيتهم لها أكثر مما هو ملك لهم.] [كل ما استطاعت أن تنتزعه من رئيس هذا العالم أودعته في أماكن أمينة. لم تترك شيئاً وراءها سوى جسدها. لقد فارقت كل شيء من أجل الرجاء العلوي. الثروة الوحيدة التي تركتها لأبنائها هي الاقتداء بمثالها، وأن يتمتعوا بما استحقته.] [وسط هذا الحديث عن شهامتها العجيبة نقول أنها لم تستسلم للترف الجسدي وللتلذذ بالطعام بلا ضابط، هذه الرغبة الحيوانية الثائرة التي تمزق الأعماق. مع أن الذين يستسلمون لإرضاء هذه الشهوة ويعملون بوقاحة علي فعل الخير وإطعام الفقير مقابل ذلك الترف الشخصي هم كثيرون! نتيجة لذلك فهم يجنون شراً في هذا العمل النبيل بدلاً من مداواة الشر بالخير. وإذ أخضعت جسدها الترابي بالصوم لم تترك للآخرين تدريباً أخر مثل استخدامها فراش غير مريح. وأيضاً إذ عرفت الفائدة الروحية وراء ذلك لم تتوانَ عن اتباع نظامٍ صارمٍ بالنسبة لتقليل ساعات النوم. ورغم تنظيم حياتها علي هذا الأساس وكأنها صارت متمتعة بقهر الجسد، لم تلقِ بجسدها لتتمدد على الأرض بينما يقضي آخرون الليل منتصبين في حالة من الإماتة التي يتبعها معظم الجبابرة في الجهاد.] يقول عنها أخوها أنها فاقت ليس فقط النساء بل حتى الرجال الذين نذروا أنفسهم للعمل الروحي. فترنمت بالمزامير بفطنة، وحفظت ما كُتب بالوحي الإلهي وعرفت أسراره الكامنة. كم سجدت بدموعٍ واتضاعٍ لغسل خطيتها بقلبٍ منسحقٍ.
والأمر الساحق ولكنه حقيقة واقعة أنها وإن حاكت آخرين بغيرة وسعت لتدرك فضائلهم صارت مثالاً في هذه الفضائل، بل وكانت هي المكتشفة للفضيلة تارة والمتفوقة علي غيرها تارة أخري. إن نافسها آخرون في فضيلة ما تتميز هي بالتحلي بالكثير من الفضائل. هكذا نجحت، ولم يبلغ أحد فضائلها، ولو بصورة أقل في التفوق. نقول أنها إلى هذا المدى قد أدركت الكمال في كل فضيلة حتى أن فضيلة واحدة منها كانت تفي مكان الكل. [يا لطبيعة النساء التي رأيناها تفوق الرجال خلال سيرة هذه القديسة في الصراع الواحد من أجل الخلاص. فأوضحت لنا أن التمييز بين الرجل والمرأة إنما جسدياً فقط وليس بالنسبة للروح!] أود أن أذكر بعض الحقائق المشهورة بوجه عام عن هذه القديسة، وإن كانت مبادئها المسيحية قد دعتها لإخفاء ما تمتعت به.
انقلاب عربتها
يُذكر عنها أخوها أنها قاربت الموت، لكنها شفيت بطريقة معجزية بشدة ثقتها في الله القادر على كل شئ. يروي أخوها أن بغال عربتها المجنونة أسرعت فأدت للأسف إلى انقلاب العربة بها، وأصيبت بجراحٍ خطيرةٍ. لقد تهشمت وألمّت بها كدمات شديدة، سببت لها نزيفاً داخلياً، ورفضت أن تستدعي الطبيب بسبب حيائها. حقاً إن الألم كان يفوق البشر، فصار جرساً لمن يأتي بعدها، فيرون أعلى درجات الإيمان وسط الألم، والصبر وسط التجربة. إنما رأفة الله لأمثال هذه القديسة فائقة للغاية. انتهى الأمر بأن صُعق الرجال لفقدان الأمل في شفائها.
تحقق الوعد البديع: “إذا سقط لا ينطرح، لأن الرب مسند يده” (مز24:37). ويضاف إليه: “مع أنه قد تهشم أو كسر تمامًا لكنه سريعاً ما يقوم ويتمجد” (مز8:146 الترجمة السبعينية). لأنه إن كانت نكبتها غير منطقية فشفاؤها كان فائقاً.
شفاؤها من مرضٍ عضال
يقول أخوها القديس غريغوريوس النزينزي: [تعرضت لمرض عضال، مرض خبيث أصاب كيانها كله بحمى شديدة، فكانت تشعر بدمها يغلي في عروقها، وأصيبت بشللٍ ذهنيٍ، وأيضاً بألمٍ في أطرافها. ومجمل القول أن الأطباء قد عجزوا عن شفائها، وأيضاً دموع ذويها وتضرعات المحيطين بها لم تجدِ. وقد كانت سلامتها تعني سلامة أحبائها المحيطين بها، والعكس أيضاً فمعاناتها ومرضها كان يُعد نكبةً عامة. المسيح (مت20:9) اقتربت من الهيكل بإيمان ونادت إلهها المهوب بصرخة قوية متذكرة أعماله العظيمة معها سابقاً. وذرفت دموع غزيرة كالمرأة التي أغرقت رجليه بالدموع ذات يومٍ (لو38:7). تناولت من جسد الرب ودمه الكريم، ويا للعجب فقد شعرت في الحال أنها قد تعافت، وأُنقذت من المرض، فصار جسدها ونفسها وروحها في حالة سليمة تماماً لتمسكها بالرجاء اكتسبت قوة جسدية بسبب قوتها الروحية. حقاً أن هذه الأمور عجيبة لكنها حقيقية. أرجو أن تصدقوها، وقد كشفتها لكم بعد صمتها عن الإفصاح عنها أثناء حياتها.
وجاء تسجيلي لهذه القصة حتى لا تظل مثل هذه الأعجوبة أو المعجزة العظيمة في طي الكتمان.]
استعدادها للرحيل
يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [هنا أتكلم عن موتها وما تميزت به وقتئذٍ لأوفيها حقّها. اشتاقت كثيرًا لوقت انحلالها، لأنها علمت بمن دعاها وفضّلت أن تكون مع المسيح أكثر من أي شيء آخر على الأرض (في23:1). تاقت هذه القديسة إلى التحرر من قيود الجسد والهروب من وحل هذا العالم الذي نعيش فيه. والأمر الفائق بالأكثر أنها تذوقت جمال حبيبها المسيح إذ كانت دائمة التأمل فيه. كانت تعلم مسبقاً ساعة رحيلها عن هذا العالم، الأمر الذي ضاعف من فرحتها. ويبدو أن الله أعلمها به حتى تستعد ولا تضطرب حينئذٍ. قضت كل حياتها تغتسل من الخطية وتسعى لإدراك الكمال. ونالت موهبة التجديد المستمر بالروح القدس، وصارت ثابتة فيه بحسب استحقاق حياتها الأولى. لم تغفل عن التضرع من أجل زوجها أيضاً حتى يُدرك الكمال، وقد استجاب الله لطلبتها إذ أرادت أن يكون كل ما يمت لها بصلة في حالة الكمال الذي يريده الله منا، فلا يكون شيء ناقصاً أمام المسيح من جهتها. وإذ جاءت النهاية أدلت بوصيتها لزوجها وأولادها وأصدقائها كما هو المتوقع من مثل هذه القديسة المحبة للجميع.
كان يومها الأخير على الأرض يوم احتفال مهيباً، ولا نقول أنها ماتت شبعانة من أيام بني البشر، فلم تكن هذه رغبتها، إذ عرفت أنها أيام شريرة تلك التي بحسب الجسد وما هي سوى تراب وسراب. وبالأحرى كانت شبعانة من أيام الله ، وهكذا تحررت، بل الأفضل أن نقول أنها أُخذت إلى إلهها أو هربت أو غيرت مسكنها أو أسلمت وديعتها عاجلاً. في وقت نياحتها خيّم صمت مهيب، وكأن مماتها كان بمثابة مراسيم دينية. رقد جسدها وكأنه في حالة شلل بعد أن فارقته الروح، فصار بلا حراك. لكن أباها الروحي الذي كان يلاحظها جيداً أثناء هذا المنظر الرائع شعر بها تتمتم واسترق السمع، وإذ به يسمعها تتلو كلمات المرتل: “بسلامة اضطجع أيضاً وأنام” (مز8:4).
مبارك هو من يرقد وفي فمه هذه الكلمات! هكذا ترنمتِ أيتها الجميلة بين النساء، وصارت الترنيمة حقيقة. ودخلتِ إلى السلام العذب بعد الألم، ورقدتِ كما يحق للإنسانة المحبوبة لدى الله التي عاشت وتنيحت وسط كلمات الصلاح. كم ثمين هو نصيبكِ! إنه يفوق ما تراه العين في وسط حشدٍ من الملائكة والقوات السمائية، إنه مملوء بهاءً ونقاوة وكمالاً! يفوق كل هذا رؤيتها للثالوث القدوس، فلم يعد ذلك بعيداً عن الإدراك والحس اللذان كانا قبلاً محدودان تحت أسر الجسد. أرجو أن تقبل روحك هذا المديح مني كما فعلت مع أخي قيصريوس. فقد حرصت على النطق بالمديح لاخوتي.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت