الولادة: 459
الوفاة: –
الإيمان المستقيم
حينما يذكر اسم القديس الأنبا ساويرس بطريرك إنطاكية يُذكر اهتمامه باستقامة الإيمان وتآلفه مع كنيسة الإسكندرية. عرف بالصلابة والرسوخ في الإيمان وقوة الحجة. كانت الصلة وطيدة بين البطريرك الأنطاكي والبطريرك السكندري البابا تيموثاوس في القرن السادس بخصوص دفاعهما عن الإيمان المستقيم والتمسك بعبارة القديس كيرلس السكندري الخاصة بالطبيعة الواحدة للكلمة المتجسد وتمييزها عن الطبيعة الواحدة التي نادى بها أوطيخا منكر ناسوت المسيح.
أصر الاثنان على رفض مجمع خلقيدونية المنعقد في 451م، وصار تقليد بين الكنيستين أن يخاطب البطريركان الأنطاكي والسكندري بما يقر الإيمان المستقيم وكانت الكنيستان تذكر اسم البطريرك الآخر بعد بطريركها في أوشية الآباء. تذكره الكنيسة القبطية في المجمع بعد القديس مرقس الرسول وتضمه مع الأبطال المجاهدين القديسين أثناسيوس وكيرلس الكبير وديسقورس. ولأهميته وُجدت مخطوطات ومراجع كثيرة أثيوبية وسريانية ويونانية ولاتينية وقبطية وإنجليزية وفرنسية وعربية. وقد أورد المتنيح الشماس يوسف حبيب قائمة بأسماء أهم المخطوطات وناشريها في مذكراته “تاريخ كنسي” عن محاضراته بالكلية الأكليريكية واللاهوتية بالإسكندرية عام 1974م. والمعتمد في تسجيله لسيرته رئيسياً على المخطوطة الأثيوبية في المتحف البريطاني القسم الشرقي رقم 773 وعلى ميمر رقم 299 بدير السريان، مع رجوعه إلى بعض النصوص الأخرى.
نشأته
وُلد في سوزوبوليس من أعمال بيسيدية بآسيا الصغرى حوالي عام 459م. وحدث أن أنبا ساويرس الكبير أسقف مجمع كنيسة أفسس أُختطف عقله وغاب حسه مقدار ساعة. قال أنه سمع صوتاً يقول: “قصبة مرضوضة لا يقصف، فتيلة مدخنة لا يطفئ (إش42: 3). إن ساويرس سيثبت أركان الإيمان المسيحي، ويثبت صخرة الأرثوذكسية بكلامه الحق، لكنه سيقاسي تعباً عظيماً، ويرد كثيرين عن الضلال”.
إذ صار شاباً أرسلته والدته الأرملة ليكمل هو وأخواه اللذان يكبرانه دراسته في العلوم والفلسفة واللغة بالإسكندرية ثم انطلق إلى بيروت يدرس العلوم القانونية. هناك كان موضع إعجاب كل زملائه من أجل صلابة طبعه وجده في الدراسة وذكائه، ففاق الجميع بمعرفته وانطلاقه وتعمقه في دراساته. وتوقع الجميع ما سيكون عليه من عظم شأنه.
يذكر عنه زميل له يدعى زكريا كان يقيم في الإسكندرية: [أثناء دراسته في الإسكندرية كان زملاؤه معجبين لصفاء روح ساويرس ولمحبته للعلم، وكيف كان في عمقٍ يتعلم ويتفوق بلياقة واجتهاد ومواظبة، وفي دراسة قوانين العلماء القدامى كان يحاول أن يقلد أسلوبهم البراق، ولم يكن يشغل تفكيره شيء غير هذا، ولا يتعزى بشيءٍ آخر مما كان يتعزى به عادة الشبان، فكان يكرس ذاته للدراسة، ويبتعد من أجل حماسه لها عن الاهتمام بالأمور الباطلة.
أبدى ساويرس اهتمامات بمقالات الفيلسوف ليبانيوس الذي كان معجباً به، وكذا أعمال القدماء وأقوال القديسين باسيليوس وغريغوريوس الأسقفين الشهيرين وغيرهما وكنا ننصحه أن يُقبل إلى العماد حتى يصل عن طريق البيان الذي كان له إلى حكمة هؤلاء وفلسفتهم… فلما تعلم ساويرس أن يعرف كتبهم شُغف بها بالكلية وسمع وهو يمدح الخطابات الموجهة من باسيليوس إلى ليبيانوس وردود ليبيانوس، وكان يفرد ما اكتسبه إلى خطابات القديس باسيليوس. وكان نتيجة ذلك أنه عكف ساويرس منذ ذلك الوقت على قراءة كتب تأملاته.] قيل أن أحد المؤمنين بالإسكندرية يدعى ميناس اتسم بطهارة سيرته وقوة إيمانه وكرم طبعه ومحبته للعفة والفقراء لما رأى ساويرس تعجب وقال لهم: “سيتألق نوره بين الأساقفة وسيروي الناس مياه المعرفة مثل العظيم يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية”. في بيروت التقى زكريا به في بيروت ومضى به إلى كنيسة القيامة لكي يصلي ثم ذهب إلى كنيسة والدة الإله بالقرب من الميناء.
وإذ انتهى من صلاته اقترب منه ساويرس وبمرحٍ قال له: “إن الله قد أرسلك إلى هذه المدينة بسببي. قل لي أذن كيف أخلص؟” تحدث معه صديقه خلال الكتاب المقدس وما علمه الآباء القديسون. سأله ساويرس إن كان لديه كتب باسيليوس الكبير وغريغوريوس والحكماء الآخرين. فأجابه بأنه أحضر الكثير من مؤلفاتهم. صلّيا معًا ثم تحدث معه عن محبة الله الفائقة وسقوط الإنسان وعمل الله الخلاصي. عماده عكف على قراءة كتب القديسين باسيليوس وغريغوريوس خاصة عن العماد وعدم تأجيله. كان لزكريا صديق يدعى أفاجيروس (أوغريس) يؤنب زكريا بشدة على تأخر ساويرس على العماد. أخيرًا انطلق الثلاثة إلى كنيسة لاونديوس في طرابلس الشام حيث نال سرّ العماد وكان أفاجيروس إشبينًا له، تم ذلك على يد كاهن يدعى ساويرس. قيل أنه وهو في طريقه للعماد التقى به متوحد يدعى أليشع أسرع إليه وهو يقول: “يا ساويرس افرح، افرح، يا بطريرك يا رئيس الأساقفة…” كما قيل ظهر القديس لاونديوس الشهيد قائمًا مثل أمير جبار وكانت منطقته مرصّعة بالجواهر، وإذ خافوا طمأنهم القديس واختفى عن أعينهم.
أثناء العماد ظهرت يد نازلة على رأسه وسمع الحاضرون صوتاً يقول: “مستحق مستحق مستحق”، فتعجب الكل لما حدث.
رهبنته
بعد عماده تقدم في الروحيات جداً، فكان يصوم كل يوم، ويقضي أغلب الليل في الكنيسة. انطلق إلى بلده بعد دراسته للقانون واشتغل بالمحاماة زماناً. ثم قرر أن يمضي إلى أورشليم لزيارة الأماكن المقدسة، وهناك شعر بشوقه للتكريس للخدمة، وأن يستبدل ثوب المحاماة بثوب الرهبنة. قيل أنه إذ كان يقرأ في كتب الفلسفة ظهر له الشهيد لاونديوس وقال له: “حسبك هذه القراءة. هلم اتبعني لكي تتعمق في دراسة قوانين الله التي يقرأها الآباء حتى أيام نياحتهم. انهض يا ساويرس، وأعد نفسك للعمل الجَدّي في الكنيسة، وأُسلك في الرهبنة لكي تعرف الجهاد بقوة، وتحمل ترس الإيمان الذي به تقدر أن تطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة…” وقيل أن أحد المتوحدين الساكن خارج المدينة رآه في حلم يمسك “كوريكاً” ينظف نافورة مملوءة طيناً ونتناً. وإذ جاء إليه القديس لكي يصلي عرفه وقال للذين معه: “هذا سيكون عظيماً بين الحكماء، شهيداً بين الأساقفة…” عكف على قراءة الكتاب المقدس بلا انقطاع، وصار يتعمق في دراسة الكتاب المقدس وفي كتب الآباء القديسين.
ثم انطلق إلى دير الشهيد لاونديوس بفلسطين بالقرب من طرابلس الشام سنة 488م. هناك انضم إليه بعض أصدقائه ممن كانوا يتعلمون معه الفلسفة.
توحّده
التهب قلبه بالشوق نحو حياة الوحدة فترك الدير وذهب إلى صحاري إيلوتيروبليس يصحبه أثناسيوس من الرُها. كرس وقته للعبادة والدراسة وإذ أتعب جسده بالصوم والسهر مرض، لكن مرضه لم يطفئ شعلة غيرته. في دير القديس رومانيوس إذ هزل جسده جداً وانتابته الأمراض مضى إلى دير القديس رومانيوس. استقبله رئيس الدير ويدعى رومانيوس بحفاوة وقال له: “الذي أنت عبد له أظهر لي عملك وعلمك في هذه الليلة ومقدار كرامتك”.
رؤية رومانيوس
رأى كأن صحراء مملوءة شوكاً وحسكاً وإذا بامرأة جميلة تجري الدموع من عينيها على خدّيها وصدرها، وكانت ثيابها مهلهلة وممزقة وهي حزينة. سمع من يقول لرفيقه: “هوذا يأتي ساويرس ليقتلع الشوك من هذه الأرض ويقدس كرماً لرب الصباؤوت” ثم خاطب المرأة: “لا تخافي أيتها المدينة إنطاكية، هوذا يأتي ساويرس رجل مستقيم ويبني على أساس المجامع المقدسة”.
اهتمامه بالعمل اليدوي
كان القديس ساويرس بالرغم من مرضه يعمل باجتهاد حسب طاقته وكان يحث الرهبان على العمل اليدوي. بسبب مرضه الشديد كان رئيس الدير رومانيوس ينصحه بأن يخفف من نسكه ويهتم بجسده لكي يمارس الفضائل، فأقنعه بذلك.
رؤيا راهب بالدير
رأى أحد الآباء الرهبان المباركين وهو قائم ليصلي ملاك الرب يقول له: “انظر إلى هذه الأرض وتأمل ساحة الدير”. عندئذ تطلع فرأى رجلين يسيران نحو ساويرس لا يقدر أحد أن ينطق بكرامتهما وإشراق وجهيهما، صارا يتحدثان مع ساويرس ويعلنان له سرّ الإيمان الأرثوذكسي. سأل راهب الملاك عن هذين الحكيمين اللذين يخاطبان ساويرس وهو منصت لهما فأجابه بأن أحدهما هو باسيليوس الكبير والآخر غريغوريوس الناطق بالإلهيات، وأنهما يرشدانه إلى قواعد الإيمان لأنه سيكون حارساً للإيمان المستقيم يرعى شعباً عظيماً في إنطاكية وفي المسكونة كلها. ذاع صيت ساويرس في الشرق والغرب وجاء كثير من الكهنة والرهبان يسألونه في تفسير الكتاب المقدس والعقيدة.
دير بالقرب من غزة
بعدما استقر زماناً طويلاً في دير الشهيد رومانيوس اشتاق إلى الهدوء الذي كان ينشده، وإذ كان قد ورث عن والديه ثروة كبيرة (كان والده عضواً في مجلس الشيوخ بالمدينة) أخذ نصيبه ووزع جزءً منه على الفقراء: وشيّد بالباقي ديراً بجهة مايوما قرب غزة. اجتذب كثيرين للحياة الرهبانية: وجاء كثيرون ينتفعون بكلمات النعمة الموهوبة له.
اهتمامه باستقامة الإيمان
بعث إليه يوليانوس الهرطوقي رسالة يقول فيها أنه لم يره منذ كان مقيماً معه في Tiberias، وأنه يلزمه أن يرجع إلى عقله ولا يتدخل في العقيدة والدفاع عنها لئلا يجلب متاعب للرهبان. أما ساويرس فبعث إليه بالرد مبيناً له خطأه، وأنه يغير على الإيمان المستقيم. وإذا أعلن آخر يدعى Kelibselimos أنه يحارب الروح القدس رد عليه ساويرس وافحمه.
ضل راهب يدعى ديونيسيوس الفيلسوف عن الإيمان المستقيم، وإذ خشي أن يتلقي بساويرس هرب من الدير. وعلى بعد ميل ظهر له ملاك الرب وحثه على العودة إلى الدير والالتقاء مع ساويرس، وبالفعل عاد ورجع عن طريقه.
قطع مقدونيوس واتباعه
اتصل مقدونيوس أسقف القسطنطينية برهبان الأديرة يعلم بينهم بأن الذي صلب هو يسوع الإنسان، الذي لم يقدر أن يخلص نفسه، ورفض القول “أيها المصلوب ارحمنا” مما أثار انقساماً في الشعب. بناء على دعوة الإمبراطور انطلق الراهب ساويرس وأفحم مقدونيوس. وانعقد مجمع الأساقفة في حضور القديس ساويرس وحكموا بقطع مقدونيوس ونفيه، وكان ذلك عام 511م سيامته بطريركاً إذ عاد القديس إلى ديره اجتمع الأساقفة الشرقيون وطلبوا من بطريرك إنطاكية فلافيان أن يترك هرطقته وإذ رفض أقالوه. أقر الجميع من أساقفة ورهبان وشعب بصوت واحد: “إن ساويرس هو الذي يجلس على الكرسي…” وافق الإمبراطور على هذا الاختيار، وحاول القديس الهروب لكنه تحت الضغط ذهب إلى إنطاكية حيث ارتجت المدينة كلها متهللة. لدى وصوله ألقى عظة مليئة بالمعرفة اللاهوتية كشف فيها عن تعاليم نسطور الغريبة والإيمان المستقيم، واعتذر لهم عن قبوله البطريركية لكن الكل صرخ بأن الله يدينه إن هرب وترك النفوس تهلك.
فتمت رسامته عام 512م. قيل أن رائحة طيب كانت تفوح أثناء سيامته في كل موضع، علامة فرح السمائيين بذلك.
اهتمامه بالترنيم
كأب نزل إلى أبنائه الصغار ليضع لهم ترانيم بسيطة، وكان يؤلف الألحان وينغمها. بهذا أحل الترانيم المقدسة عوض الأغاني المعثرة. قيل أنه في أيامه كانت الميادين العامة تشبه كنائس إذ كان صوت الترنيم والتسابيح المقدسة يسمع فيها عِوض الأغاني العابثة.
أعماله الرعوية
لم يعرف القديس ساويرس الراحة بل كان يجول يصنع خيراً كسيده، كما كانت الجماهير تأتي إليه لتنتفع بتعاليمه. كان يحث الكهنة على الاهتمام بالرعية. ووجّه رسائل كثيرة للإكليروس والشعب يثبتهم على الإيمان المستقيم وتعاليم المجامع المسكونية الثلاثة التي حرّمت آريوس ونسطور ومقدونيوس، كما رفض مجمع خلقيدونية ورسالة لاون. عقد مجمعاً في إنطاكية سنة 513م يشجب فيه مجمع خلقيدونية وطومس لاون، وآخر عام 514م في صور لذات الهدف.
تبادل الرسائل مع الإسكندرية
تبادل الرسائل مع البابا يوحنا الثاني السكندري (507-517) بشأن تأكيد الإيمان بالطبيعة الواحدة ورفض مجمع خلقيدونية. ولما جلس البابا ديسقوروس الثاني على الكرسي المرقسي بعث برسالة إلى الأنبا ساويرس، وبعث الأنبا ساويرس إليه برسالة يعزيه في نياحة البابا يوحنا الثاني، ويؤكد وحدتهما في الإيمان.
اضطهاد يوستينوس له
توفى انسطاسيوس التقي عام 518م، وتولى المُلك بعده يوستينوس، أحد قادة الحرس الإمبراطوري، واصدر أمراً بالاعتراف بمجمع خلقيدونية، وخيّر الأساقفة بالقول بالطبيعتين للسيد المسيح أو الطرد، فأقصى 32 أسقفاً عن كراسيهم منهم فيلوكسينوس أسقف منيج وبولس الرهاوي، كما طرد الرهبان الرافضين ذلك من أديرتهم. شدد الإمبراطور الأمر ضد القديس ساويرس باعتباره الرأس وناله ضيق شديد. هرب إلى مصر عام 518م وبقى فيها زهاء عشرين عاماً (518-538م)، خلالها رجع إلى القسطنطينية في الفترة من 534 إلى 536م.
استخدم يوستينوس كل وسائل التعذيب لإلزام الأساقفة إلى قبول قرارات خلقيدونية. كمثال نفي القديس فيلوكسينوس إلى غنغرة، وأمر بحبسه في بيت أوقد فيه بالنار وسدّت منافذه فمات مخنوقاً. لازم عصر يوستينوس كوارث طبيعية كثيرة منها زلزال في عين زربة، وطوفان غرّق الرُها، وصاعقة في بعلبك أحرقت هيكلها، وجفاف في فلسطين دام مدة طويلة. وفي 526م حدث زلزال ضخم بإنطاكية دمّر بيوتها ومبانيها العمومية وكنائسها وكان عدد ضحاياه حوالي 50 ألفًا من السكان، كان من بينهم الأسقف أفراسيوس (521-526م) الذي مات تحت الأنقاض.
اضطهاد جوستانيوس الأول له
حذا حذو سلفه، فظل القديس ساويرس في مصر عدا مدة قصيرة وهي من 534 إلى 536م لحضور المجمع الذي انعقد في القسطنطينية. كان القديس في مصر مهتماً بشعبه خلال الرسائل المتبادلة. كان يكتب رسائله إلى القديسة أنستاسية، ويرد على رسائلها كما ورد في المخطوطات السريانية واليونانية.
الإمبراطورة ثيؤدورا
كان جوستيانوس الأول يعتبر نفسه رئيساً للدولة والكنيسة، له حق التفسير والتطبيق دون الرجوع إلى آباء الكنيسة. كان ينفذ قوانينه بكل صرامة، فيقطع الأساقفة ويعين من يشاء ويدعو إلى المجامع، ويعدل قراراتها أو يلغيها. غير أن الإمبراطورة ثيؤدورا (527-548م) كانت تخفف من ثورته في الاضطهاد. كانت تتميز بالشجاعة وكانت تهتم بالقضايا العامة لا سيما الدينية، كما كانت تؤمن بوحدة طبيعة السيد المسيح.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت