الولادة: –
الوفاة: –
تقدم سيرة القديس أنبا كاراس صورة حيّة عن “السياحة” بكونها مؤازرة نعمة الله للمؤمن المجاهد ليتمتع بدرجة سامية في الاتحاد مع الله. لقد عاش أنبا كاراس حوالي 57 سنة لم يرَ وجه إنسان حتى جاء إليه القديس أنبا بموا للتعرّف عليه، فيسجل لنا سطوراً من سيرته التي لا يعرف سرّها إلا من اختبرها، ويقوم بتكفينه ودفنه.
قال عنهم الشيخ الروحاني: “أولئك الذين أشرقْت عليهم بشعاعٍ من حبك لم يحتملوا السُكنى بين الناس”.
دخوله البرية
هو شقيق الملك ثيؤدوسيوس الكبير؛ فقد عرف هذا القديس جيداً فساد العالم وسرعة زواله، فترك كل ماله وخرج لا يقصد جهة معلومة. فأرشده الله إلى البرية الغربية الداخلية وهناك قضى سنين كثيرة وحده لم يبصر خلالها إنسانًا ولا حيوانًا.
القس بموا ينطلق إلى البرية كان في برية شيهيت قس قديس يسمى بموا وهو الذي كفَّن جسد القديسة إيلارية، ابنة الملك زينون المحب لربنا يسوع (474-491م). اشتهى هذا الأب أن يرى أحداً من عبيد المسيح السُواح، فساعده الرب حتى دخل البرية الداخلية فأبصر كثيرين من القديسين. وكان كل منهم يعَّرفه عن اسمه والسبب الذي أتى به إلى هنا، أما هو فكان يسأل كلاً منهم قائلاً: “هل يوجد من هو أكثر توغُّلاً في البرية منكَ؟” فيجيبه: “نعم”.
مع القديس سمعان القلاع السائح
في اليوم الرابع من سيره في البرية الداخلية وجد الأنبا بموا إحدى المغارات، وقد كان الباب مغلقاً بحجرٍ كبيرٍ، فتقدم وطرق الباب.
فسمع صوتاً يقول له: “جيد أن تكون هنا اليوم يا بموا كاهن كنيسة جبل شيهيت، الذي استحق أن يكفن جسد القديسة الطوباوية إيلارية ابنة الملك العظيم زينون”. ثم فتح له الباب ودخل وقبّل بعضهما البعض، وجلسا يتحدثان بعظائم الله ومجده. سأله الأنبا بموا: “يا أبي القديس، هل يوجد في هذا الجبل قديس آخر يشبهك؟” تطلع المتوحد إلى وجهه وصار يتنهد، وقال له: “يا أبي الحبيب يوجد في البرية الداخلية قديس عظيم، والحق أقول لك أن العالم لا يستحق أبداً وطأة واحدة من قدميه”. سأله أنبا بموا: “وما هو اسمه يا أبي؟” فقال: “الأنبا كاراس”. إذ سأله الأنبا بموا عن اسمه وعدد السنوات التي عاشها في المغارة، أجابه: “اسمي سمعان القلاع. ولي اليوم ستون سنة في هذه البرية لم أنظر وجه إنسان.
وأتقوّت في كل سبت بخبزة واحدة أجدها موضوعة علي هذا الحجر الذي تراه خارج المغارة. وهذه الخبزة بنعمة المسيح تكفيني إلى السبت الذي يليه”. عندئذ قال له الأب بموا: “باركني يا أبي القديس وصلي لأجلي لكي أرحل وأسير في طريقي إلى الأنبا كاراس”. مع الأنبا بلامون القلاع سار بعد ذلك ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ وهو متهلل بالروح، يصلي ويسبح الله حتى بلغ مغارة أخري. وإذ قرع الباب أجابه صوت يحمل روح الفرح والتهليل. ظنّه القديس كاراس. قال له القديس بلامون: “الويل لي يا أبي القديس. أعرفك يا أبي إن داخل هذه البرية قديس عظيم، العالم بأسره لا يستحقه، وصلواته تبدِّل الغضب الذي يحل من السماء علي الأرض، وأن الرب يستجيب صلواته سريعًا”. “من أكون أنا المسكين حتى أكون أنبا كاراس هذا الذي هو حقًا شريك للملائكة وشريك الطبيعة الإلهية”.
قال له أن اسمه بلامون، وأنه منذ تسعة وسبعين عاماً يسكن في تلك البرية، يعيش علي النخيل الذي يطرح له الثمر، فيأخذ كفايته ويشكر المسيح. طلب منه الأنبا بموا أن يصلي من أجله ويباركه فأجابه: “الرب يسهِّل لك خطواتك، ويرسل لك ملائكته لتحرسك في طريقك”، فخرج من عنده فرحاً ومملوء سلاماً. وهكذا حتى وصل إلى القديس كاراس آخر الجميع، وهذا ناداه من داخل مغارته قائلاً: “أهلا بالأنبا بموا قس شيهيت”، فدخل إليه وبعد السلام سأله الأنبا كاراس عن أمور العالم وأحوال الولاة والمؤمنين. وصفه الأنبا بموا قائلاً أنه كان منيراً جداً، وكانت نعمة الله علي وجهه، وكانت عيناه مضيئتين جداً.
وهو متوسط القامة، ذا لحية طويلة لم يتبقَ فيه إلا شعيرات سوداء قليلة بعد أن أصبحت بيضاء كالثلج. وهكذا كان شعر رأسه. كان يرتدي جلباباً بسيطاً، هو نحيف الجسم ذو صوت خافت وفي يده عكاز.
رؤيته نفس الأنبا شنودة
لما بلغ اليوم السابع من شهر أبيب أخذ القديس كاراس يبكي وقد رفع عينيه إلى السماء وهو بين الفرح والحزن، ثم قال للأنبا بموا: “إن عموداً عظيماً قد سقط اليوم في صعيد مصر”، ولما استفسر منه الأنبا بموا أجاب القديس: “إنه القديس العظيم الأنبا شنودة رئيس المتوحدين، وقد تنيّح اليوم ورأيت روحه الطاهرة صاعدة إلى علو السماء وسط تهليل الملائكة.
وقد اجتمع الرهبان حول الجسد المقدس يتباركون منه وهو يشع نوراً وبركة”.
نياحته
بفرح شديد قال الأنبا كاراس للأنبا بموا: “يا أخي الحبيب، لقد أتيت اليوم إليّ، وجاء معك الموت، فإن لي اليوم زمانًا طويلاً في انتظارك أيها الحبيب. خلال هذه المدة كلها (57 سنة) لم أنظر وجه إنسانٍ قط، وطوال هذا العمر كنت أنتظرك بكل فرحٍ وصبرٍ واشتياقٍ كبير”. تحدث الاثنان معاً عن عظائم الله، ومكث معه يوماً، وفي نهايته مرض القديس أنبا كاراس بحمي شديدة، وكان يتحرك مترنحاً وهو يتنهد ويبكي قائلاً: “جاءني اليوم الذي كنت أخاف منه عمري كله يا رب. إلى أين أهرب؟ ومن وجهك كيف أختفي؟ حقاً ما أرهب تلك الساعة! كرحمتك يا رب وليس كخطاياي”. كان الأنبا بموا يتعجب كثيراً من هذا الكلام إذ كان يشعر بأنه خاطئ، وغير مستحق أن يكون في السماء.
في اليوم التالي – أي الثامن من أبيب – ظهر نور عظيم يملأ المغارة ودخل السيد المسيح الذي كان معتاداً أن يظهر له بنورٍ ومجدٍ عظيمين ويتكلم معه فماً لفم، وأخذ روح الأنبا كاراس في حضنه ثم أعطاها لميخائيل رئيس الملائكة. فتبارك الأنبا بموا من جسده ثم كفّنه بعبائته وانثنى راجعاً يخبر بسيرته وهو يمجد الله.
في طريق العودة قضي ثلاثة أيام مع الأنبا بلامون، وثلاثة أيام مع أنبا سمعان القلاع وروي لهما ما شاهد بعينيه، ثم ذهب إلى كنيسته بجبل شيهيت يروي لهما رحلته العجيبة.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت