جرت في الخامس من أيلول 2009 مراسم سيامة الأب تيمو سپّو الفنلندي في كاثدرائية إنجيلية لوثرية من القرون الوسطى في مدينة توركو العاصمة سابقا، مطرانا للطائفة الكاثوليكية الصغيرة في فنلندا، واختار له هذا الشعار Christus Fons Vitae “المسيح نبع الحياة”. وفي وسط الصليب الفضي الذي أهدي إليه صورة القلب وحروف باليونانية تعني “يسوع المسيح هو الألف والياء”. حضر هذه المناسبة الدينية الاحتفالية غير العادية هنا عدد كبير من الكرادلة والبطاركة والمطارنة من ألمانيا وإسكندنا?يا وبولندا وفنلندا. وقد أُقيم القداس الإلهي بمعظمه باللغة اللاتينية إضافة إلى اللغات: الفنلندية والسويدية وهما لغتا البلاد الرسميتان واللغة الألمانية. نقول غير عادية إذ أن تعيين هذا المطران الفنلندي يأتي بعد 487 عاما، شغل خلالها هذا المنصب أشخاص أجانب غير فنلنديين. ففي 22 تموز عام 1522 قضى المطران الفنلندي، أر?يد كلاوس كوركي، (ولد عام 1464) نحبه غرقا إثر عاصفة ضربت السفينة التي كان مبحرا فيها هربا من هجمة دانماركية علي مدينته توركو، وأسرة كوركي معروفة منذ أواخر القرن الرابع عشر. وكان المطران كوركي قد حصل على دراسته العليا في جامعة السوربون وامتدت مدة مطرانتيه ما بين 1511-1522.
المطران الجديد تيمو سپّو من مواليد العام 1947 في مدينة لاهتي وأنهى دراسته الثانوية في مدينة تمپري في وسط فنلندا عام 1967 وأنهى خدمته العسكرية عام 1968. التحق راهبا بالكنيسة الكاثوليكية في 27 أيار عام 1966وسافر إلى ألمانيا لمتابعة دراسته اللاهوتية في جامعة فرايبورغ المعروفة، منهيا إياها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. سيم دياكونيا في مستهل عام 1977 في كنيسة “الصليب المقدس” في تمپري ثم كاهنا في أيار من العام ذاته في كنيسة “القديسة مريم” في العاصمة، ابنة البلطيك. وعمل في كاثدرائية هنري في هلسنكي، سبع عشرة سنة. كما وشغل منصب رئيس مركز الاستعلامات ما بين 1982-1985. بعد ذلك عمل نائبا للمطران البولندي، جوزيف ?روبل، الذي سبقه ثم قائما بأعمال المطرانية في أعقاب رجوع ?روبل إلى مسقط رأسه في تموز 2008. وقد قام الحبر الأعظم الحالي، البابا بنيدكتوس السادس عشر، بخطوة تاريخية في تعيينه للأب سِپو مطرانا في العاشر من حزيران 2009 وأعلن عن هذا التعيين في السادس عشر من الشهر نفسه.
أحد الفروق الجوهرية بين عهدي هذين المطرانين الفنلنديين هو أن بلاد الشمال، فنلندا، في عهد الأول انتمت برمّتها إلى الكنيسة الكاثوليكية في حين أن عدد الكاثوليك اللاتين في الوقت الراهن لا يتخطى العشرة آلاف، معظمهم من أصول أجنبية لا سيما من بولندا. ويشار إلى أن فنلندا في القرن السادس عشر كانت تحت الحكم السويدي وعمّ الإصلاح اللوثري البلاد كلها وأتت النهاية على الكنيسة الكاثوليكية الأم التي انبثقت في البلاد في القرنين الحادي عشر والثاني عشر.ومن المعروف أن فنلندا بعد الحكم السويدي كانت قد وقعت تحت السيطرة الروسية القيصرية منذ العام 1812 وحتى استقلال فنلندا في السادس من كانون الأوّل عام 1917، وقد بلغ عدد الكاثوليك في عام 1830 مثلا قرابة الثلاثة آلاف شخص فقط، وكان كل الكهنة الكاثوليك الدومينيكانيين حتى ستينيات القرن التاسع عشر من ليتوانيا. ويُشار إلى أن الأبرشية في هلسنكي قد تأسست عام 1856 وتم بناء كاثدرائية هنري الشهيرة في هلسنكي عام 1860، وهي الأن في مرحلة الترميم. وفي عامي 1882 و 1912 طرد كل رجال الدين الأجانب من البلاد.
بعبارة وجيزة، إثر رحيل القوات الروسية العسكرية وحصول فنلندا على الاستقلال كانت الكنيسة الكاثوليكية قد فقدت معظم أعضائها. وهكذا عادت الأبرشيات وظهرت في البلاد في العشرينيات من القرن العشرين ومنحت الحكومة الفنلندية الكنيسة الكاثوليكية عام 1929 كيانا دينيا مستقلا، وكانت فنلندا قد أقامت علاقاتٍ دبلوماسية مع ال?اتيكان عام 1942. وكان البابا آنذاك، بيوس الثاني عشر، قد تبرّع بمبالغَ طائلة ليتامى الحرب في فنلندا.
في فنلندا خمس أبرشيات كاثوليكية وحرية العبادة ممنوحة للجميع في فنلندا وفق البندين الثامن والتاسع في الدستور الفنلندي لعام 1919. وفي فنلندا قرابة 30 عقيدة دينية مسجلة، الكنيستان الوطنيتان في البلاد هما اللوثرية ويتبعها حوالي 90? من السكان والأرثوذكسية بواقع 1? من السكان. أظن أن السمة البارزة لهذا المطران الجديد، التي تنطبع في ذهن كل من التقاه وتعرّف عليه عن كثب، هي “التواضع”.
بقلم: أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي