تحتل المقالات التي تقدَّم، تعالج، تمدح، وتنتقد كتاب عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكينغ الجديد صفحات جريدة “ذا تايمز” البريطانية. قبل أسبوع من زيارة البابا المرتقبة إلى بريطانيا (2010) يطلق عالم الفيزياء هوكينع ما يظن أنه سيكون قنبلة نووية، ستصدر في الأسواق في 9 سبتمبر الجاري بعنوان “المشروع الكبير” (The Grand Design). كتاب يزعم الإجابة على هذا السؤال: “هل العالم بحاجة إلى خالق؟” جواب عالم الفيزياء هو قطعي: كلا، العالم كان سيخلق نفسه انطلاقًا من قانون الجاذبية.
تعليقًا على هذه الخلاصات (التي لا بد للقارئ أن يذهب أعمق في القراءة عندما يصدر الكتاب لكي يفهم عما إذا كانت تحاليل هوكينغ متماسكة منطقيًا أم لا) تعليقًا عليها، خلصت هانا دالفين إلى القول: “تمامًا كما أزالت الداروينية الحاجة إلى الخالق في حلقة البيولوجيا، كذلك يقدم أشهر علماء بريطانيا سلسلة جديدة من الحجج تجعل دور الله في الكون مجرد إطناب زائد”.
يعتبر العالم – بحسب التقرير الذي يسبق النشر – أن الانفجار الكبير (Big Bang) لم يتم بتدخل من الله بل كنتيجة حتمية لقوانين الفيزياء. وتستشهد دالفين بالكتاب – الذي ستصدر “ذا تايمز” مقتطفًا منه في 6 سبتمبتر – حيث يقول هوكينغ: “بما أن هناك قانون مثل قانون الجاذبية، يستطيع الكون بل يتوجب عليه أن يخلق ذاته من العدم. الخلق التلقائي (Spontaneous creation) هو السبب بأن هناك شيء بدل اللاشيء، هو سبب وجود الكون، هو سبب وجودنا”. وعليه ما من داعٍ لإدخال الله في المعادلة لكي يسير عملية خلق الكون.
يشكل هذا الكتاب موقفًا جديدًا لهوكينغ، بعد أن كان أكثر انفتاحًا على الدين في مؤلفه السابق “A Brief History of Time”، حيث يشير إلى أن الدين لا يتناقض مع العلم وفهم الكون.
يجدر القول بأن الكتاب يحاول أن يدحض نظرية العالم الشهير إسحق نيوتون حول الكون، الذي يصرح بأن الكون لم يتولد من العدم انطلاقًا من قوانين الطبيعة، بل أنه خلق حتمًا من قِبَل الله.
يصرح هوكينغ أن بدء الشك الذي حمله إلى النظرية الحالية جاء في عام 1992، عندما تم اكتشاف كوكب يدور حول نجم يشبه شمسنا. وتعليقًا على هذا الاكتشاف يقول: “هذا الاكتشاف يجعل الصدفة التي أدت إلى نشوء ظروف كوكبنا – الشمس، والأرض المحظوظة القائمة على مسافة ملائمة من الكتلة الشمسية – أمرًا أقل دهشة، وحجة أقل قوة للتصريح بأن الأرض خُلقت بانتباه كبير لكي تستضيف الكائنات البشرية”.
ويسترسل هوكينغ فيقول: ليس فقط الكواكب بل هناك إمكانية لوجود أكوان أخرى. ولو كانت نية الله هي أن يخلق البشر فقط فوجود كل هذه المادة والأكوان هي أمر فائض.
ردات فعل على تصريحات هوكينغ
رحب عالم البيولوجيا ريتشارد دوكينز، الذي يجاهد لنشر الإلحاد (خصوصًا في أشهر كتبه “وهم الله”)، بخلاصات هوكينغ بالقول: “رغم أنني لا أعرف شيئًا عن تفاصيل علم الفيزياء، إلا أنني أعتقد بالأمر نفسه”.
في المقابل، صرح البروفسور جورج إيليس، رئيس الجمعية العالمية للعلوم والأديان بالقول: “إن مشكلتي الكبرى مع هذه الخلاصات هي أنها تضع الناس أمام خيار: إما العلم وإما الدين. كثير من الأشخاص سيقولون: حسنًا، أنا أختار الدين، وعندها الخاسر سيكون العلم”.
هذا وكانت هناك ردات فعل وتعليقات من رجال دين مسيحيين، مسلمين ويهود في انكلترا، عبروا في آرائهم ووجهات نظرهم في شأن نظرية هوكينغ.
مواقف رجال الدين
إن نظرية الفيزيائي هوكينغ الذي يصرح بأن علم الفيزياء لا يترك مجالاً لله في الكون لم تمرّ بدون ملاحظة ممثلي الأديان المختلفة في بريطانيا.
فقد قال رئيس أساقفة كانتربري، روان ويليمز، لصحيفة “ذا تايمز” معلقًا: “الإيمان بالله ليس سدة تفيد في تسكير فجوات في شرح كيف تترابط الأمور في الكون. الإيمان بالله هو أن نؤمن بأن هناك عامل ذكي وحي تعتمد عليه كل الموجودات”.
وأضاف: “علم الفيزياء لوحده لن يجيب أبدًا على السؤال: لم هناك شيء بدل العدم”.
من ناحيته، عبّر الإمام ابراهيم موغرا، رئيس لجنة المجمع الإسلامي في بريطانيا عن رأيه بالقول: “إذا ما نظرنا إلى الكون وكل المخلوقات، لرأينا أن هناك أحد ما وراءها أتى بها إلى الوجود. وهذا هو الله”.
أما الجواب الأطول والأكثر محاججة فقد جاء من قبل الحاخام جوناثان ساكس الذي هو رئيس اتحاد الجماعات اليهودية في الكومنولث.
في مقالته التي نشرتها صحيفة “ّذا تايمز”، يبدأ ساكس مصرحًا: “ستيفن هوكينغ يخطئ بأمر وجود الله. وجل ما يفعله هو أنه يرفض اللاهوت المغلوط الذي كان يعتنقه في الماضي”.
ويتساءل ساخرًا: “ماذا كنا سنفعل لنتسلى لو لم يكن هناك علماء يقولون لنا بحماسة خانقة أن “الله لم يخلق العالم”، كما لو كانوا أول من يقول هذا الأمر؟ ستيفن هوكينغ هو الأخير، ولكنه بالتأكيد ليس الأول!”.
ويتابع: “عندما سأل نابوليون عالم الحساب لابلاس، منذ نحو 200 عام، عن الله في برنامجه العلمي، أجاب الحسابي: ‘أنا لست بحاجة لهذه الفرضية‘. لست بحاجة إلى الله لكي أشرح الكون. لم نكن يومًا بحاجة إلى الله لكي نفهم الكون. وهذا الأمر هو ما لا يفهمه العلماء”.
“هناك فرق بين العلم والدين. العلم يشرح. الدين يفسّر. الدين يضع الأمور سوية لير ما معناها. ولذا فالمقاربتان الفكريتان تختلفان جوهريًا. لا بل إنهما يستعملان قسمين مختلفين من الدماغ. العلم – لطبيعته التراتبية، الذرية، والتحليلية – هو من خواص القسم اليساري من الدماغ. الدين – لطبيعته التكاملية، الشمولية، والعلائقية – يرتبط أكثر بعمل القسم اليميني من الدماغ”.
وأوضح الحاخام أن العداوة بين الدين والعلم هي من “لعنات عصرنا، وقد أساءت إلى الدين والعلم على حد سواء”.
ثم انتقل إلى انتقاد أطروحة هوكينغ الأولى الواردة في كتابه “تاريخ الزمان الموجز” حيث يقول: إذا ما وجودنا سر العلم، النظرية التي تشرح كل شيء، لكنا فهمنا لم نحن والكون موجودون. لكنا عرفنا ما هو فكر الله”. هذه الفكرة – بحسب ساكس – هي بدائية لدرجة يصعب التفكير بأن هوكينغ قد تفوه بها. فإذا ما اكتشفنا سر العلم لكنا عرفنا بالتأكيد “كيف” جئنا نحن والكون إلى الوجود، ولكن لما كنا عرفنا “لماذا”.
ثم قال: “إن الكتاب المقدس يهتم بشكل نسبي جدًا بكيفية مجيء الكون إلى الوجود. فهو يكرس فقط 34 آية لهذا الموضوع. بينما يكرس 15 مرة عدد هذه الآيات ليشرح كيف بنى اليهود الهيكل في الصحراء. الكتاب المقدس يعتني بأسئلة مختلفة كليًا. أسئلة الكتاب هي: من نحن؟ لماذا نحن هنا؟ كيف يجب أن نعيش؟”
لهذه الأسئلة وليس للمسائل العلمية نحن نسعى لمعرفة فكر الله.
أطروحة هوكينغ الثانية تنفي الأولى. فبحسب النظرية الثانية، الكون خلق نفسه بنفسه. وحجته هي أن سعة الكون وتشابه بعض كواكبه يجعل الصدفة أمرًا ممكنًا، ولذا يمكن للكون أن يكون وليد الصدفة. هذه الكلمات – بحسب الحاخام ساكس – هي بعيدة عن الحكمة وأناقة الكون. إنها تعبير عن علم يريد أن يتنكر بثياب الدين، وهو سخيف بقدر دين يريد أن يتنكر بثياب العلم.
الله ليس خلاصة من خلاصات المعادلة الكونية
لا تزعم بأننا سنقدم الحل لمشكلة العلاقة بين العلوم والإيمان، ولكن لا يسعنا إلا أن نقول كلمة بشأن مجال بحث كل من العلوم. إن إدعاء علماء الفيزياء أو البيولوجيا بأن تقدم من خلال نتائج حقلها العلمي خلاصات تنطبق على حقول أخرى هو خطأ يشابه من يريد أن يقرأ الموسيقى الموجودة على القرص المضغوط (compact disc) مستعملاً قارئ الأقراص الموسيقية القديمة المعروف بالفونوغراف. إن إبرة الفونوغراف لا تصلح لقراءة الأقراص المضغوطة، وبشكل مماثل أدوات ووسائل العلوم المخبرية لا تصلح للحصول على نتائج في حقل الإلهيات.
هذا وإن تحليلات هوكينغ، رغم إبداعها الفيزيائية، حالما تتطرق إلى مواضيع تخرج عن إطار تخصصه نراه مبنية على سفطائية في حقل المنطق. نقدم مثالاً سفطائيًا لتوضيح ما نريد أن نقوله. أحد الأمثلة السفسطائية الكلاسيكية هو:
كل إنسان فانٍ
كل حصان فانٍ
إذًا كل إنسان حصان.
لمن يُلمّ ولو قليلًا بعلم المنطق يعرف أن هذا التركيب لا ينخرط في إطار المقولة المنطقية (syllogism) المشروعة. ففي هيكلتها البسيطة يجب على المقولة المنطقية المبدأية أن تكون مركبة بهذا الشكل:
يجب على العنصر “أ” أن يكون مستخلصًا بكليته من العنصر “ب”، وعلى العنصر “ب” أن يكون بدوره قابلاً للاستخلاص بكليته من العنصر “ج”، الأمر الذي يجعل بالضرورة العنصر “أ” قابل للاستخلاص من العنصر “ج”.
المثال على تركيب مقولة منطقية صحيحة هو التالي:
أرسطو إنسان
كل إنسان يموت
إذًا أرسطو يموت
إذا ما حولنا أن ننظر إلى أطروحة هوكينغ التي تزعم المنطقية نراه يقول:
الله ضروري لكي نشرح وجود الكون (هذه هي أطروحة هوكينغ الأولى في كتابه السابق)
يمكننا أن نشرح الكون بمعزل عن الله (هذه أطروحة هوكينغ في كتابه الجديد)
إذًا الله غير موجود.
التناقض المنطقي جلي وواضح، ولن نتوقف على تحليله، فما من ترابط بين الأطروحة الأولى والأطروحة الثانية، إنهما تصريحان مختلفان لا يساعدان على تقديم تضمين (inclusion) يساعدنا على استنتاج خلاصات ثالثة. ببساطة تصريح هوكينغ لا يتبع التركيبة المنطقية ولا يمكن استخلاص النتيجة الأخيرة من دمج الكبرى والصغرى، وذلك لأن التركيبة بحد ذاتها ناقصة.
أما ما نريد التوقف عليه الآن ضيق نظر هذه الأطروحات.
أولاً: “الله ضروري لكي نشرح وجود الكون”. هذه الأطروحة هي آفة الكثير من العلوم انطلاقًا من ديكارت. هذا خطأ! الله ليس ضروري لشرح الكون. الله أخلى ذاته خالقًا الكون حرًا، ودراما البشرية هو هذا: أن الله ليس جزءًا من المعادلة الكونية والدنيوية لكي نستخلصه من الأشياء. المسيرة نحو معرفة الله لا تمر بالضرورة في الإطار الكوني. ومع أن “السماوات تنطق بمجد الله والجلد يخبر بعمل يديه” (مز 18) إلا أن إلهنا يبقى إلهًا خفيًا ومتساميًا (أش 45، 15) لا يقبل أن يدخل في معادلاتنا الحسابية. إن المبدأ الذي كان يعتنقه هوكينغ في كتابه السابق هو مبدأ يعرف باللاتينية بـ “deus ex machina” الذي يمكننا أن نشرحه بهذا الشكل: الله ضروري لنفهم الوجود. هذا المبدأ ينكر البعد الشخصاني والعلائقي لله ويحده في إطار حاجتنا البشرية للتفسير. استعمله ديكارت ليجلو شكه حول وجوده، وجود النفس ووجود العالم المادي فأضحى الله بالنسبة له وسيلة لا غاية، آلة لا شخصًا. استعمال الله بهذا الشكل قد لا ينافي المنطق ولكنه بكل تأكيد ينفي العلاقة وأناقة الوجود: كما ولو ربطنا وجود آبائنا بحاجتنا إلى الإرث وإلى تعليل وجودنا. تفكير محدود ويخرج من إطار العلاقة الشخصانية التي يجب أن تربطنا بالله (وبكل إنسان!).
أما الوحي فيكشف لنا عن إله أفرغ ذاته عندما خلق (وليس فقط عندما تجسد يسوع!) مفسحًا المجال للخليقة لكي تكون، ولكي تكون مختلفة عن الله. يشرح المتصوفون هذا الواقع بصور تبين الفكرة: بما أن الله هو كل شيء وهو الموجود الوحيد من الأزل، عندما خلق أفرغ جزءًا من وجوده من ذاته لكي يفسح للكون المجال بالوجود وللإنسان بالمجال لكي يكون حرًا ويجب بحرية على الدعوة إلى الحب. هذه الصورة البسيطة لا تشرح سر الخلق ولكنها تفتح لنا طاقة صغيرة على الفهم.
وعليه، فالله ليس ضروريًا لفهم الكون، لأنه شاء أن يكون الكون كواقع مستقل. أجل، الله يحفظ الكون في الوجود ولكنه – أعتذر على السخرية – لا ينشر إنجازاته في كل الصحف. عمل الله خفي وهو التواضع الحقيقي. هذا التواضع الذي تجلى في اتضاع يسوع المسيح وحياته الخفية كان شكًا على مدى التاريخ، شكك أيضًا معاصري يسوع، ولكنه بالحقيقة عظمة الله. فيسوع، عندما يدعو إلى الاقتداء به – هو “صورة الله غير المنظور” – لم يقل اقتدوا بعظمتي، بل “تعلموا مني أني وديع ومتواضع القلب” (مت 11، 29). تواضع الله هو إشعاع عظمته، الله أكبر لأنه وحده رغم كبره يعرف كيف يتواضع حقًا، يتواضع ليفسح مجالاً للخليقة لأن تكون. يتواضع لكي يكون الكون حقًا، ولا يكون مجرد تمثيلية دمى يحركها جبار متشامخ. الله عظيم لأنه خلق كونًا يستطيع أن يقوم بذاته، وبما أنه يستطيع أن يقوم بذاته يستطيع أن يقول لا. وبما أنه يستطيع أن يقول “لا” تأخذ كلمة “نعم” كامل معناها. الكون – في الإنسان – يستطيع أن يقول نعم بحق وحقيق لدعوة الله للولوج في سر المحبة.
الكون ينطق بمجد الله
لننتقل إلى الفكرة التي يعتبرها هوكينغ السبب في تغيير رأيه: أن الكون واسع جدًا لدرجة أنه لا يمكن أن يكون الله خلق كل هذا الكون للإنسان.
هناك أيضًا التركيبة المنطقية سخيفة:
الكون واسع جدًا
الدين يقول أن محور الكون هو الإنسان
هذا الأمر ليس منطقيًا إذا علم الفيزياء يستطيع أن يقول أن الله غير موجود.
تتوارد إلى ذهني كلمة أينشتاين: “هناك أمران لا متناهيان: الكون وغباوة الإنسان. ولكن عندي بعض الشكوك بأن الأول هو حقًا لامتناهٍ”.
هل الكون لامتناهٍ؟ بكل بساطة الأمر لا يهمني لأن وجود الله لا يرتبط بهذا الأمر. فليمتّع العلماء فضولهم في البحث عن حدود الكون. بارك الله عملهم! ولكن حذار أن يؤدي سفرهم إلى حدود اللامحدود إلى ضياع حقائب الذكاء. بأي حق يخلُص مرء إلى أن شخص آخر غير موجود لأنه على ما يبدو كان مبذّرًا؟!! أليس هذا ما يقوله هوكينغ؟ – العالم واسع إذَا الله غير موجود!! والداعي إلى ذلك؟ لأنه بحسب ما يقول هوكينغ من السخافة أن نعتقد أن الله خلق كل هذا الكون من أجل الإنسان.
أود أن أتوقف هنا لأستعرض بعض خصائص الكائن البشري نسبة إلى المخلوقات الأخرى. في نظرة ظواهرتية إلى الخلائق نجد أنه بقدر ما ترتفع المخلوقات في سلم التطور والتعقيد الجيني نراها تنفتح أكثر على أبعاد جمالية وفنية لا توجد في مخلوقات أدنى. فالإنسان يستطيع أن يميز بين لوحة لبيكاسو ولوحة لبوتيتشلّي ولوحة خشبية بسيطة، بينما الحيوانات لا تميز بين هذه الأمور. إنها لوحات وحسب بالنسبة لها. ولكن ما هي الجماليات؟ ما هو الفن؟ إنه أمر لا نفع له بالمعنى المباشر: إنه لا يفيد للحاجات الأولية: الغذاء، الخباء… ومع ذلك، ما معنى الوجود لولا هذا البعد الجمالي، البعد الشعري، بعد اللقاء، بعد الحلم، بعد البسمة؟ إن هذه الأمور الإضافية، الفائضة هي التي تضفي غنىً خاصًا على الحياة البشرية.
لا يمكننا أن ننظر إلى الكون نظرة بخل، فالخلق بحد ذاته هو فعل سخاء من قبل الله. وهوكينغ ليس أول من يدرك بذخ الله في الكون. فكتاب أيوب، والمزامير وسواها من أسفار الكتاب المقدس غنية بهذه التساؤلات عن سعة الكون والعظمة المتجلية فيه. ولكن هذا التساؤل لا يؤدي في الكتاب المقدس إلى نفي الله بل إلى تسبيحه وتعظيمه، وإلى التعجب من حكمته التي لا تسبر. على سبيل المثال، يتساءل سفر بن سيراخ: “من يعدّ رمل البحار، من يعد قطرات المطر وأيام المطر؟ من يعيش ارتفاع السماء واتساع الأرض وعمق البحار؟ ” (سي 1، 2 – 3). ومن له الحكمة، تلك التي يفيضها الرب على من يحفظ الوصايا يستطيع أن يدرك عظمة الله في خلائقه، لأن السماوات تنطق بمجد الله والجلد يخبر بعمل يديه” (مز 18، 1).
يتوارد إلى ذهني بيت من أشعار أبي العلاء المعري القائل:
“عجبي للطبيب كيف يلحد بعد درسه التشريحا”
العظمة التي يشع بها الكون تحدثنا عن الله. أليست هذه خبرة صاحب المزامير في المزمور الثامن؟
“أيها الرب سيدنا ما أعظم اسمك في الأرض كلها! لأعظمن جلالك فوق السموات
بأفواه الأطفال والرضع أعددت لك تسبيحًا […].
عندما أرى سمواتك صنع أصابعك والقمر والكواكب التي ثبتها
ما الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده؟
دون الإله حططته قليلا بالمجد والكرامة كللته
على صنع يديك وليته كل شيء تحت قدميه جعلته
الغنم والبقر كلها حتى بهائم البرية
وطير السمار وسمك البحر ما يجوب سبل البحار.
أيها الرب سيدنا ما أعظم اسمك في الأرض كلها!”
إن عظمة الخليقة لصاحب المزامير ليست سبب شك، بل سبب تواضع. فعندما نرى عظمة الخلائق نرى في مرآة مغبشة شيئًا من عظمة الخالق. ومن نحن لكي نحارج الخزاف على صناعته؟ ألا يمكننا أن نرى في عظمة الخليقة حافزًا أولاً يدفع (وقد دفع بالفعل في تاريخ نشأة الأديان) يدفع الإنسان إلى التساؤل عما إذا كان هناك واقع أبعد من الوجود اليومي البحت والباهت.
ولكن لرؤية عظائم الله لا بد من الولادة من جديد، لا بد من قلب طفل بسيط، هذا القلب الذي يشابه قلب يسوع والذي دفعه يومًا إلى التهلل: “أحمدك يا أبت، رب السموات والأرض، على أنك أخفيت هذه الأشياء على الحكماء والأذكياء، وكشفتها للصغار. نعم يا أبت، هذا ما كان رضاك. قد سلمني أبي كل شيء، فما من أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا من أحد يعرف الآب إلا الابن ومن شاء الابن أن يكشفه له” (مت 11، 25 – 27).
فلنختم هذه المقالة بصلاة بسيطة، طالبين من الرب تلك الحكمة التي تتغنى بها الأسفار الحكمية في الكتاب المقدس، حكمة القلب التي ترى الكون وجميع الأمور كما يراها الله. فليفعل الرب لنا ما يقوله كتاب ابن سيراخ: “القى عينه في قلوبهم ليريهم عظائم أعماله” (سي 17، 8). فليضع الرب عينه في قلوبنا فيكون لنا مشاعر يسوع المسيح ونظرة يسوع المسيح إلى الكون. آمين.
بقلم: روبير شعيب