في كل مرة تقع عيني على خبر مماثل لما سيأتي، تتغير تركيبة الهورمونات في جسدي وأصاب بالكآبة… أرجو تتبع هذا الخبر لمعرفة القصد: أكد مسؤولون في مدينة زيورخ السويسرية أن بعثة كانت تقوم بعمليات تنقيب أثرية في إحدى المواقع التاريخية عثرت على باب خشبي في “حالة ممتازة” ، يعتقد أنه أقدم باب من نوعه يعثر عليه في أوروبا على الإطلاق.
وقال نيل بليشر، كبير العلماء في قسم الحفاظ على الآثار في زيورخ إن الباب يعود للعصر الحجري، ويتجاوز عمره خمسة آلاف عام، وقد جرى العثور عليه في حفرية بحثية كانت تجري بموقع للتأكد من عدم وجود آثار فيه، قبل تحويله إلى موقف للسيارات سيلحق بمبنى دار الأوبرا في المدينة.
وأضاف بليشر: “هذا واحد من أقدم الأبواب التي جرى العثور عليها في كل قارة أوروبا، وقد أبقيناه في مكانه حالياً، ريثما نعد العدة لانتشاله الأسبوع المقبل.”
وتابع بليشر: “سنقوم بعملية ترميم للباب، بهدف الحفاظ عليه، وعلى الأرجح سنقوم بوضعه في أحد المتاحف.”
منذ الطفولة كان لي مع ما تبقى من باب توما ومن الباب الشرقي لمدينة دمشق وسورها شأن، فلقد جربت تسلقهما، تسلقت باب توما وصعدت إلى السطح مروراً بالدرج الحجري الجانبي ومكان اختباء الرماة وأشرفت من السطح المروَّب بالأسمنت المشقق وخطوط الزفت على ساحة باب توما بضوضائها وقذارتها (وكانت في ذاك الوقت 1965 أفضل حالاً من اليوم). وتسلقت الباب الشرقي عبر اسطحة البيوت الملاصقة ونجحت وكان وقتذاك باب أحادي ضيق يخرج منه باص مدرستي مع توخي الحيطة والحذر بعد إقفال النوافذ لمنع تسرب رائحة النشادر إلى داخل الباص، أما الباب الأوسط الكبير وهو الرئيسي فلقد كان في عالم الغيب لأن حجارته كانت تقبع تحت الأنقاض تنتظر من يعيدها واقفة، وكذلك أحجار الباب اليميني الصغير المتوافق مع الباب اليساري الصغير كانت مغيبة لأنها مدفونة مع الأعمدة والتيجان الحجرية تحت الأرض.
كنت صغيراً ولم أفطن إلى أن للباب المتبقي بابين آخرين مغيبين وسألت نفسي هل استطاع أهل دمشق حقاً التمترس خلف هذا الباب المتواضع والسور الأكثر تواضعاً في مواجهة جحافل الأعداء والفاتحين وصمدوا خلف سورهم وأبوابهم المتواضعة هذه حتى الفتح الإسلامي؟
وظل هذا السؤال بدون جواب إلى أن بدأ المعنيون بترميم الباب الشرقي لمدينة دمشق فبدأت تظهر صخور الباب المزينة بالنقوش وكذلك الأعمدة والأقواس والتيجان الحجرية المزخرفة التي بقيت طيلة قرون تحت الأرض، وتم رفعها إلى أمكنتها وتم نحت حجارة مماثلة لتعويض تلك التي فقدت إلى الأبد والتي لا بد أنها استعملت في بناء البيوت في الحارات القريبة أو وضعت مع الشيناجات والجدران الاستنادية للأقبية في البنايات الحديثة المخالفة في دمشق القديمة حيث تم تغليفها بالاسمنت لتضيع في غياهب الأرض إلى الأبد!
بعد العودة إلى كتب جرجي زيدان تبين أن حملة الترميم هذه مهلهلة لأن في كتب جرجي زيدان وصف للشارع الكبير الذي كان يمتد من الباب الشرقي لمدينة دمشق وفي استقامة مذهلة ليصل إلى الطرف الغربي من المدينة وكانت الأعمدة العالية المزينة بالتيجان لمزخرفة بالأشكال الهندسية الرائعة وصور الحيوانات وعناقيد الكرمة وأوراقها تواكب هذا الشارع من اليمين واليسار وتمتد من بدايته وإلى النهاية.
والسؤال الآن أين ذهبت هذه الأعمدة التي كلفت أفدح الأثمان لإعدادها ورفعها ونحت تيجانها وزخرفتها حيث لا نجد إلاّ بقايا بعضها مغروسة بشكل مضحك في أحواض للنباتات تم إنشاؤها على عجل لتثير الغثيان لا أكثر، وأين الشارع الكبير الذي تم فرشه بالإسفلت و التجاوز عليه من اليمين ومن اليسار بما يتماشى مع نفسياتنا فلم بعد مستقيماً على الإطلاق وكأننا ومنذ الأزل عاهدنا ضمائرنا على أن لا نبقي على أي شيء مستقيم!
أما الجزء الهام من الحقيقة فلقد تكشف بعد البدء بمشروع نفق الباب الشرقي لمدينة دمشق فلقد اصطدمت شفرات التراكسات ببنيان أثري مجهول وتم التكتم على الموضوع وتجاهله، لأنه بالأساس لا توجد لدينا أية فكرة عن شيء اسمه الحفرية البحثية وهي مهمة موكلة بوزارة السياحة والآثار، التي تأمر بالتوقف عن متابعة أي مشروع يجري في موقع للتأكد من عدم وجود آثار فيه، أو لتدبر هذه الآثار عند وجودها، وتتمتع وزارة السياحة بصلاحيات واسعة أقلها الإيعاز بتغيير موقع المشروع حفاظاً على الآثار، وهذا لم يحدث في مشروع نفق الباب الشرقي لمدينة دمشق، وعند تكتم الجهات ذات العلاقة على المكتشفات الأثرية، تسمح بإطلاق الأعنّة للألسنة وتكثر الشائعات، وبعد انتهاء المشروع وفي أول عبور من ممر المشاة الواقع تحت الشارع، انكشف جزء من الحقيقة وتبين أن هذه الألسنة كانت محقة… فلا بد انه تم الالتفاف بطريقة ما وتم التشييد فوق الآثار، وتُرك سرداب في جهة يمين النفق يحوي أساسات وجدران عظيمة وقواعد صخرية هندسية هائلة تصلح لأن تكون فعلاً حدود الباب الشرقي لمدينة دمشق مما يرجح نظرية تقول أن الباب الشرقي الحالي لمدينة دمشق هو باب داخلي تكميلي أما الباب الرئيسي فلقد ضاع إلى الأبد ولا بد أن بقاياه تقبع الآن تحت مكعبات الاسمنت والحديد والإسفلت أو ما يعرف بمشروع نفق الباب الشرقي لمدينة دمشق. أما السرداب الحالي فيمكن مشاهدته من خلف القضبان الفولاذية، تتمختر فيه القوارض ليلاً ويعج بأكياس الزبالة والقاذورات وبقايا أكياس النقرشة كالشيبس والبسكويت والبوشار وكافة المخلفات التي يرميها طلاب المدارس في الشوارع بدون أي تردد ولا أي تأنيب مهما كان بسيطاً يطال الضمير أو أي شيء آخر متصل في حال وجوده!
وهذا ينطبق على سور دمشق المهلهل الذي لا يمت بأي حال من الأحوال إلى سور دمشق الحقيقي بصلة إلاّ بجزء يسير من أجزائه المتبقية والذي جرى تدعيمه في بعض الأمكنة بالاسمنت وبالأعمدة الخشبية وبألواح التوتياء وبالبلوك، والبلوك مادة لم يألفها الرومان ولم يعرفوها بالمطلق، وتم في أمكنة أخرى ثقب السور وإنشاء أبواب للنفوذ يمجها الذوق العام وجرى في أمكنة أخرى نصب سلالم خشبية متحركة وحبال للتسلق والخروج والدخول يعجز عن صنع مثيلاتها طرزان وكل من انحدر ولا يزال من نسله !!! … إن العظمة التي كشف عنها السرداب المومى إليه والواقع في نفق مشروع الباب الشرقي لمدينة دمشق تؤكد انه تم تدمير كل الآثار المتعلقة بمدينة دمشق وخاصة ذلك الجزء الذي يرتفع فوق سطح الأرض ومنذ مئات السنين!… أما الأجزاء الباقية إلى اليوم فهي تستند الى وهم كبير.
والتخريب هو من أسهل الأشياء والتعمير هو من أصعبها وخاصة استبدال الحجارة المفقودة، ومسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، هذا الأثر العظيم وهو دمشق القديمة والذي آل إلينا بكل ما فيه من شموخ وعظمة وبنيان وتحضر وحضارة، يجب أن نحافظ عليه كما نحافظ على أولادنا وأرواحنا، ويجب البدء بتخفيف الضغط عن دمشق القديمة وتحويلها بالقول والعمل إلى مدينة أثرية تنال حماية الدولة ورعايتها الحقة بلا تجاوزات ولا مهادنة ولا تساهل، يجب أن نسخّر كل عائداتنا من السياحة لترميمها وحمايتها وتطويرها، ويجب إرسال بعض الأطفال وبيد كل منهم وردة دمشقية يستقبلون بها كل سائح ينزل من البولمان المتوقف في هذه الناحية، بدلاً من استقباله بروائح النشادر هذا الفلكلور المروع الذي عجزت حكوماتنا ومن خلفها كل شعوب العالم عن إيجاد الحلّ له ولروائح مزبلة باب شرقي المسرطنة التي لو انه تم نقلها إلى المزة أو إلى أبو رمانة لتم محوها من الوجود بعد بضعة ثواني، وهي لا زالت حتى لحظة كتابة هذا المقال باقية تتحدى سكان المنطقة وكافة زائريهم من السياح بشموخ ورفعة وتطاول واستهزاء بالإنسان وكرامته، هذه المزبلة التي لو كانت تعود لأحد المواطنين لتم ختمها بالشمع الأحمر خلال ثانية واحدة بعد إعدام صاحبها.
يجب تقديم شيء لهؤلاء الأجانب الذين جاؤوا لإلقاء نظرة على عظمة الآثار والتاريخ. التاريخ الذي درسوه أكثر منا والمواقع التي يعرفونها ونحن لا نعرفها ولا نهتم بها، يجب أن يعودوا إلى أوطانهم ويتحدثوا بالخيرعن بلادنا نبع الحضارة، وفي نفوسهم أثر جميل، يعتبرنا حضاريين ونستحق هذا الإرث الطيب، حضاريين أكثر من أهل الأندلس الذين ورثوا آثارنا العربية هناك واهتموا بها كما لم يفعل قبلهم أي شعب آخر في العالم وظلوا على هذا النهج حتى صارت وارداتهم من السياحة تفوق واردات كل الوطن العربي من بيع النفط.
بقلم: آرا سوفاليان
Ara Souvalian