الولادة: –
الوفاة: 787 م.
الاستشهاد وأبعاده في المسيحية ظاهرة فريدة يقف أمامها الإنسان حائراً والتاريخ المسيحي مليء بقصص الاستشهاد حيث قدم الكثير من الاشخاص الذين نطلق عليهم لقب الابطال قدموا حياتهم وأهرقوا دماءهم وارتوت بها الارض ونبتت شجرة المسيحية. فلنسأل ما هو السرّ الكامن وراء الشهادة حتى الموت؟ وما هو سرّ الجرأة والشجاعة أمام الحكّام؟ ولماذا هذا الزحف الكثيف إلى الموت في سبيل المسيح؟
لنبدأ أولاً بتصفح التاريخ انطلاقاً من قول الرب يسوع المسيح ” إن لم تمت حبة الحنطة أولاً لن تأتي بثمر” وأضاف قائلاً في عظته الشهيرة ” طوبى للمضطهدين من أجل البر”، لذا منذ أن قدم المسيح ذاته ذبيحة حية على الصليب فداءً عن البشر أجمعين، وحفل التاريخ المقدس ولا سيما القرون الأولى الثلاثة للمسيحية باسماء الشهداء الذين ماتوا في سبيل الإيمان. ولكثرتهم لم نستطع أن نذكرهم جميعهم بل اكتفينا بذكر أسماء البعض منهم مثل: استفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء وتقلا القديسة التي نحتفل بتذكرها اليوم والشهيدة العظيمة دميانة والاربعين بتولاً وفلومينا وأميرة الشهداء مارينا وساره واخيها بهنام ويوستينا لذا سُميت الكنيسة الاولى بحق “كنيسة الشهداء”. والسر وراء استشهاد هذه القافلة هو الانجذاب نحو الحب الالهي لشخص اسمه يسوع احتلّ مكانة كبيرة في القلب وفي الاعماق. جاء يسوع بتعليم جديد دخل الى اعماق النفس ورأى هؤلاء ضرورته من أجل التغيير الجذري في نمط الحياة ورفض العادات القديمة، التي جعلت الانسان دائماً عبداً لها، والتمسك بالمسيح الذي دعا الانسان الى الحرية ” لا أسميكم عبيداً بعد بل أدعوكم احراراً ” فانتم تعرفون الحق والحق يحرركم “، كما اضاف قائلاً إنما أتيت لتكون لهم الحياة أوفر وأفضل. هذه الدعوة الى الحرية والحياة إنما كانت بمثابة نهاية لا بل موت للوثنية والصنمية وغيرها من الطقوس والسجود للأحجار والتماثيل والكف عن تقديم الذبائح البشرية، ولا سيما الاطفال والنساء الفتيات اللواتي كنّ يقدمنّ أجسادهن للآلهة الصماء يتلاعب بها الحُكام والولاة، لذا قامت الحروب وكثرت الاضطهادات وانتشرت في كل مكان ولا سيما في روما والاسكندرية وانطاكية والقدس، وتقاطر الناس على الشهادة في سبيل من قال ستكونون لي شهوداً في اقاصي الارض ومعهم نبتت الغرسة المسيحية التي تأصلت بجذورها في موت المسيح على الصليب وفي اشتهاء بولس الموتَ بقوله ” لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح” ومع اغناطيوس الانطاكي الذي قُدم طعاماً للوحوش وكأنهُ خُبزٌ يؤكل” وعمق مغفرة استفانوس لمضطهديه وجمالها بقوله ” اغفر لهم يا ربّ” على مثال معلمه المسيح يسوع . وكان جوابهم في أشد العذاب: “المسيح قد أحبّنا فأطاع حتّى موت الصليب ونحن نريد أن نحبّه حتى الموت”. عن هذه المرحلة عبر ترتليانوس بالقول: “ان الدم المسيحي كان بذاراً صالحاً لنمو المسيحيين”. قوّى الاضطهاد الشديد من عزيمتهم ، وضاعف جهودهم وثبّت تمسّكهم بالإيمان وجعل منهم مثالاً يُحتذى به وكنيسة شهداء يُقتدى بنهجها في بساطةٍ وشجاعةٍ حيّرت الحكّام والجلاّدين وبدّلت مواقف الكثيرين من بينهم.
القديسة تقلا نموذج من قافلة أبطال
نقول بكل بساطة إن القديسة تقلا هي بنت عصرها، الجيل الاول للمسيحية ومنذ ذلك الحين باقية ومستمرة على مدى الاجيال بنت عصرها. منها المثل والنموذج لبنات عصرنا، تلميذة تتلمذت على يد بولس الرسول ومعلمة تستقي علمها وحياتها من الرب يسوع المسيح. هي عذراء متواضعة على مثال أمها مريم العذراء الفائقة الجمال، بتواضعها سلمت حياتها كُلياً لله فصارت إبنةً له وأماً ليسوع المسيح مخلصلها وفاديها بقولها ” ها أنا آمة الرب فليكن لي حسب قولك” وهكذا جاوبت تقلا سؤال الوالي لها من أنتِ؟ أجابته أنا عبدة “آمة” يسوع المسيح ربي والهي مخلصي وفاديّ. هذه العذراء تمتدحها الكنيسة شرقاً وغرباً وتلقبها بأولى الشهيدات كما لقبت استفانوس رئيس الشمامسة بأول الشهداء. صارت قدوة لكثير من الفتيات ولا سيما العذارى. تتلمذت على يد بولس الرسول الذي لُقب بـ”رسول الامم” وهي اعطيت هذا المجد من قبل آباء الكنيسة بأن تكون أيضاً “رسولة الأمم”، كالمرأة السامرية التي التقاها المسيح عند البئر تستقي ماءً يرويها موقّتاً، لمس قلبها يسوع محوّلاً إياها رسولة له بين اهلها وشعبها ونالت منه ماءً من يشرب منه لا يعطش ابداً ” من آمن بي تجري من جوفه انهار ماء حية”. صارت تقلا كمريم المجدلية التي التقت يسوع القائم من بين الاموات مبشرة التلاميذ بقيامته.
تميزت تقلا منذ الصغر بعقل ثاقب وعلمٍ نادرٍ الوجود وجمالاٍ فائق، وحكمةٍ ومكانة اجتماعية مكّنت اهلها من تدبير افضل المعلمين الماهرين الذين فاقتهم علماً وذكاءً “رُب تلميذٍ أفضل من معلمه”. سمعت عن بولس الرسول كسماع زكا العشار عن المسيح فتاق أن يراه وشغفه لهذا اللقاء جعله يتخطى ذاته، وينفتح نحو الآخر بشكل جديد بعدما كان منفتحاً عليه انطلاقاً من طمعه وجشعه وحبه للمال. لقائه بالمسيح حوّل فيه الطمع الى عطاء والجشع الى قناعة والانانية الى بذل الذات، وقال معترفاً امام المسيح سأعطي نصف اموالي للمساكين ومن ظلمته سأرد له أربعة أضعاف. هكذا شغفت تقلا لسماع القديس بولس ورؤيته فأسرعت الى حيث كان يُعلم ويكرز بانجيل المسيح انجيل الخلاص، ومنه عرفت سمو المسيحية وتعاليمها ومن خلاله آمنت بالمسيح ايماناً ثابتاً مبنيًّا على الصخر، لا تهزه رياح الشهرة أو الجمال أو العلم أو السلطة أوالمكانة الاجتماعية. وعكفت على الصلاة والتأمل والإماتة بإيمانٍ وحرارة بل نذرت نفسها بتولاً لمن احبها أولاً ووهبها الحياة سالكةً في طريق اكتساب الفضائل الانجيلية وابرزها فضيلة التجرد والعطاء. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم “لما رأت تقلا القديس بولس مسجوناً باعت كل ما تملكه من حلي لتنقذه من سجنه” ونحن اليوم مدعوّون لأن نساعد المسيح بتصدّقنا على الفقراء.
القديسة تقلا البتول هي، مثال العذارى ورسولة المسيح. نموذح حي لحياة البتولية المسيحية. استطاعت أن تنتصر على قوى الشر وابواب الجحيم لم تقوَ على أن تضعف إيمانها، أو تثني عزمها وثباتها على السير قُدماً نحو الشهادة للمسيح يسوع، ولا أن تُخمد نيران حبها له، فاحتملت من أجله الآلام والعذابات واتخذته عريساً لها حاملة صليبه “من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويتبعني” حباً في مَن أحبها أولاً وبذل ذاته من أجلها.
معاناتها في سبيل المسيح عريسها السماوي
موقف أمها: التي لاحظت أن شيئاً ما تبدَّل في حياة تقلا ابنتها، التي تخلت عن جمالها وزينتها ومرحهها وشغفها بالظهور. واحتارت امها في أمرها فصارحتها بسر دخولها للمسيحية وبنذرها بتوليتها للرب يسوع. هنا بدأ التصادم والصراع بين تقلا وامها التي حاولت أن تقلعها عن فكرتها حافظاً على كرامة موقعهم الاجتماعي وعدم المساس بتاريخ العائلة وكأن الانجذاب إلى المسيح هو عار. فتمنت الأم موت ابنتها معتبرة الموت فخرًا وشرفًا وحماية من احتقار الناس وازدرائهم وسخريتهم.
موقف الحاكم: الذي أتى بتقلا إلى ديوانه، محاولاً إقناعها بترك تلك الخرافات المسيحية والعودة إلى الآلهة وإلى خطيبها. مهددًا أياها بحرقها، لكنّها لم تعبأ بتهديداته. فأمر بإضرام نارٍ حامية وبطرحها فيها. فتهللت لقرب اتحادها بعريس نفسها؛ ولم تنتظر حتى يشدوا وثاقها ويطرحوها في تلك النيران المستعرة، بل ركضت هي إليها وزجت نفسها فيها، وهي تتضرع إلى الله ليقويها على مثال دانيال النبي والفتية الثلاثة الذين ألقاهم نبوخذ نصر في آتون النار على إثر رفضهم القاطع لتبخير للآلهة. والله الذي نجى الفتية من الأتون أنقذ تقلا بأرساله الامطار الغزيزة التي كادت أن تتحول إلى طوفان. فولّى الناس هاربين، ولجأوا إلى بيوتهم مذعورين، وانطفأت النيران، وخرجت البتول سالمة، ولم يحترق خيط من ثيابها..
من الاتون الى جُب الوحوش: حكم الوالي عليها بأن تُطرح للوحوش فعرَّوها من ثيابها وتركوها فريسةً لها. فقامت عليه في الديوان ثورة سخط واستنكار من جميع النساء المسيحيات والوثنيات الحاضرات، انتصاراً لتلك التي شرفت بنات جنسها بإبائها وعزة نفس واحتشد جمع ليمتع أنظاره بذلك الجسم الغض النقي تنهشه الوحوش الضارية. لكن هذه الأخيرة كانت آنس من البشر، فجاءت وربضت عند قدميها وهي راكعة تصلّي. وستر الله تقلا بستر مظلّته بهالةٍ من النور حفظتها من الأنظار.
تقلا تعلن أنها عبدة يسوع: دهش الناس والحكام لتلك المعجزات الباهرة المتكررة. فاستدعى الوالي تقلا وقال لها: من أنتِ ومن هو شيطانكِ حتى لا يقدر أحد عليك. فأجابته البتول باحتشام ووقار: أنا تقلا عبدة يسوع المسيح ابن الله الحي. وهو وحده الطريق والحق والحياة وخلاص النفوس. هو نجاة المأسورين، وتعزية الحزانى، ورجاء اليائسين وشفاء المرضى. وهو الذي أنقذني من الوحوش ومن الموت، وهو الذي يحفظني بنعمته له المجد والكرامة إلى الأبد.
تقلا حرة وطليقة لإعلان مجد يسوع: عادت تقلا إلى ايقونية مدينتها تبشر مواطنيها بإنجيل الرب. لكنها لم تطل الإقامة فيها. كان خطيبها قد مات. أما والدتها فبقيت مصرةً على عنادها، مدفوعة بكبريائها، فلم ترد أن تصغي إلى توسلاتها وتتبعها في إيمانها بالمسيح. فتركت تقلا ايقونية، والقلب في حسرة، ورجعت إلى سورية لأجل متابعة رسالتها فيه وجاءت إلى جبال القلمون واتخذته معقلاً لها وحقل رسالةٍ مخصبة. فكانت تتردد بين معلولا وصيدنايا وتطوف تلك القرى الجميلة، تثبت المؤمنين في إيمانهم الحديث، وتحمل البنات والنساء الوثنيات على الإيمان بالمسيح. فآمن على يدها شعب غفير من أولئك المساكين المنغمسين في جهلهم وغرورهم وآثامهم ثم اتخذت لها مغارةً فنسكت فيها وبدأت حياة الخلوة والاتحاد الدائم بالله، بالتأمل والصلاة. فصارت الجماهير تتوافد لتزورها وتسمع كلامها وتنال بركتها وتُشفى من أمراضها. ويروى أن بعض الأشرار الوثنيين أرادوا يوماً بها سوءاً. وكان جماعة من الأطباء قد سخّروهم لكي يذلّوها ثم يفتكوا بها لأن المرضى كانوا قد هجروهم وجعلوا يركضون إليها فيبرأون. ففاجأها أولئك الأشرار وهي تصلّي في مغارتها. فلم تضطرب لكنها نظرت إلى السماء واستجارت بالرب يسوع. وإذا بالصخرة تنفتح أمامها، فتدخل هي فيها، ثم تطبق عليها وتواريها عن أنظارهم. إن الله الذي كان قد أنقذها من النار، ومن الوحوش الضارية، ومن الثعابين المخيفة، لا يعسر عليه أن ينقذ طهارتها وحياتها من أيدي زمرة من الأشرار الأثمة.
موت القديسة الشهيدة تقلا وتمجيدها: عاشت تقلا تسعين سنةً. فكانت أعجوبة دهرها وموضوع إكرام واحترام الشعوب لها. ورقدت بالرب بطمأنينة وسلام، وطارت نفسها إلى الأخدار العلوية، وإلى المسيح، وبولس الرسول معلمها، وسائر الرسل والشهداء الذين ماثلتهم في حياتها وغيرتها وفضائلها.
ذاع صيت قداستها وعجائبها وما صنع الله من المعجزات في سبيلها، فملأ الدنيا. فلم يبقَ خطيب في الأجيال الأولى للكنيسة إلا فاض في مديحها، نظير باسيليوس وغريغوريوس والذهبي الفم وامبروسيوس وايرونيمُس. وكان الآباء القديسون عندما يريدون أن يعظموا إحدى النساء القديسات يشبهونها بتقلا. فإن غريغوريوس الثاولوغس يدعو ماكرينا أخت باسيليوس الكبير تقلا، تعظيماً لها. وكذلك يرونيموس يدعو ميلاني تقلا الجديدة. وكتب القديس ايسذورس الفرمي الدمياطي إلى راهبات أحد الأديار فقال: “من بعد يهوديت وسوسنة العفيفة وابنة يفتاح لا يحق أحد أن ينسب الضعف إلى جنس النساء. بالأكثر عندما نرى تقلا، تلك البطلة المتقدمة بين البطلات من البنات، البتول الذائعة الصيت في الدنيا كلها، عندما نراها حاملة عالياً علم الطهارة والبرارة، وقد فازت فوزاً باهراً في معارك شديدة على الشهوة والرذيلة، نوقن ان قلوب النساء يمكنها أن تكون جبارة”.
ودفنت القديسة تقلا الشهيدة في سلوقية حيث ماتت، وأضحى قبرها ينبوعاً فائضاً بالنعم والبركات. وفي المجمع المسكوني السابع المنعقد سنة 787 ضد محاربي الأيقونات، قام أسقف سلوقية وتكلم بفصاحة وإسهاب عن القديسة تقلا وعن العجائب التي يجريها الله على ضريحها فقال: انني أؤكد بلا تردد أنه ما من إنسان زار ضريحها وطلب شفاعتها وعاد خائباً. بل نرى الناس يعودون من تلك الزيارة وهم يمجدون الله على ما نالوا من نعم، ويسبحون تلك البتول الملائكية.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت