خرجت مظاهرة مليونية من الأقباط أمام مبنى ماسبيرو على وَقْع الهدم التدريجي على مدى 22 ساعة لكنيسة الشهيدين بأطفيح، وعلى وَقْع التهجير القِسري للأقباط هناك، بعد حرق ممتلكاتهم وتخويفهم إلى الحد الذي تقهقر أمامه الجيش… خرجوا وافترشوا الأرض لبضعة أيام وقد شاركهم مسلمون أحرار، خرجوا ليقولوا للمعتدي لماذا تضربني؟! بل لماذا تقتلني؟! لماذا تذبحني؟! لماذا تحرقني؟! لماذا تهدمني؟! لقد حوَّلنا الخد الأيمن والأيسر، وقد شبعنا تلطيشًا حتى القتل الجماعي. خرجوا ليقولوا لكل الثعالب الماكرة كُفُّوا عن الترهيب والتخويف والظلم. لقد سبق وقيل من قبل أن الملف القبطي لن يُحَل بمعزل عن الإصلاحات الشاملة، وها هو النظام الفاسد قد سقط بجملته!! والآن هو الأوان المناسب لوضع المطالب القبطية ضمن دولاب إعادة بناء الدولة، فإذا كان هذا الوقت غير مناسب، فمتى إذن سيكون الوقت مناسبًا؟! خاصة بعد المذابح القبطية والتهديم الذي أعقب الثورة.
لقد جاء خروج الأقباط عفويًا بعد أن اجتازوا المعصرة وذاقوا مرارة الأحزان في كل مذبحة وجنازة جماعية، تظاهروا في ماسبيرو وجعلوه بيتهم وأصروا على البقاء هناك حتى تعود الثقة والمصداقية والحيادية في التعامل معهم كمواطنين لا كرعايا، كمصريين لا كجَالية، مطالبين بحماية القانون لهم من استقواء الرعاع والغوغاء الذين استباحوهم، ذهبوا كضحايا لا كمبتزّين، هُدمت كنيستهم وذُبح منهم العشرات، في حصيلة مذابح، الكشح (23)، مذبحة نجع حمادي (8)، أبو قرقاص (9)، العمرانية (3)، الأسكندية (23)، المقطم (10)، هذا غير الشهداء الذين ذُبحوا بالقَطّاعي… دماء صارخة وأفواه ضارعة وأيادٍ مرفوعة وقلوب حزينة أمام إجرام واستكبار وآذان صمَّاء.
ذهب هؤلاء الأقباط الأحرار بمئات الآلاف ليعلنوا أمام العالم أجمع أنهم لن يُفرِّطوا في هذه الدماء السَخيّة، وليعلنوا بأن القتلة ليسوا أسوأ من الحكام، فلو كان الحكام احترموا القانون والعدالة وحقن الدماء ما تجرأ الإرهابيون ومدُّوا أياديهم بالإثم إليهم، وما اغتالوهم عن عَمْد خسيس.
وقفوا وقفة متحضِّرة وسلمية لأن العنف ليس طريقتهم، فقد علَّمهم السيد المسيح حق الدفاع عن أنفسهم لا الانتقام لأنفسهم (إن كنتُ قد تكلمتُ رديئًا فاشهد على الرديء)(يو 23:18)، وقفوا مصلِّين مرنِّمين داعين لمصر بلدهم بالسلامة والعافية، رافعين صُلبانهم كشهداء بالنيَّة وكمشاريع للشهادة بل وكشهداء تحت الطلب، هادمين ظُنون وكل عُلُوٍّ يرتفع ضد معرفة الله، لأن مطالبهم مطالب عدل وحق وقبول ومشاركة الخير.
رافضين الغباوة المُشينة والاتهامات الوضيعة التي جعلتهم فريسة البلطجة والأكاذيب والشائعات وشهادات الزور التي لأولاد المعصية، وقد سَئِموا لعبة الطائفية والمشي على الحبال (لا انفلات كامل ولا هدوء كامل كي تبقى الطائفية حاضرة في المشهد السياسي اليومي للحياة المصرية).
ذهب الأقباط إلى ماسبيرو لا من أجل طلبات فئوية كما يشيع المُغرضون، لكن بالأحرى من أجل عدم سرقة الثورة، وحتى لا تصبح الثورة مسروقة لحساب الانتهازيين، ذهبوا حتى لا تعود ذهنية التواطؤ والمساومات التي أرهقتهم، ذهبوا للمطالبة بدولة مدنية لا تقبل العقاب الجماعي والمواربة والفزَّاعات، بل دولة القانون المُفَعَّلة، وقفوا ليسألو لماذا هُدِمت كنيستهم ولماذا تُغلق كنائسهم ولماذا أطلقت الشرطة والجيش الرصاص عليهم تحديدًا؟ وهم يتساءلون لماذا يوجد مسلمون بلا إسلام ولا رحمة؟ ولماذا يوجد مصريون بلا مصرية؟ وبَشَر بلا إنسانية؟ صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ لا يفقهون. ويسألون أيضًا هل إعادة بناء الكنيسة يحتاج إلى رأي الشرع أم رأي القانون؟! يحتاج إلى رأي الشرعية أم إلى رأي الخلافة؟!.
وقف الأقباط لهذا كله بعد أن رأوا أنقاض كنيستهم وحرمانهم من حقهم في الحياة والصلاة، وقفوا ليقولوا الكنيسة بأي ذنب هُدمت؟ لأن المسيح علمهم التسامح لكن لم يعلمهم التخاذل والتفريط.
تشبّث المتظاهرون غير مُذعنين للممطالة والمراوغة المعتادة من الذين يحترفون اللعب بالبيضة والحجر وبشمَّاعة التوازنات وبتوظيف البلطجية، ولم يرضخوا لمن حرَّضوا عليهم واستماتوا لتشويه وقفتهم، إذ لا زال هناك من يتناسى بأن الفاسد قد سقط ومعه زبانيته وهم قيد المحاكمة، وسيُدانوا بالقضاء العادل من الله لنفس المصير الذي جلبوه علينا، وسترتدّ أعمالهم على رؤوسهم بعد أن خزنوا لأنفسهم النار التي لا تُطفأ.
تحية لهؤلاء الذين يصنعون الآن تاريخهم وحضورهم، والذين كسروا حاجز الخوف ضمن شباب التحرير، تحية لأؤلئك الذين أصابهم السأم من التجمد والفساد والوِصاية، فذهبوا بوجدانهم وإحساسهم المصري خارج التنميط والمحاذير، متجمعين كأقباط ومسلمين في عفوية الذات والاقتناع والمثابرة من أجل مصر يتعايش فيها الجميع بكرامة… ولنثق كمؤمنين بأن الساعة قد أتت وهي لنا منذ بدء الزمن حتى نهايته، فكل ساعة بالنسبة لنا هي ساعة حاسمة لمجد الله، لكي يتمجد ويحطم كل قوات الظلمة، ويُسقط على الأرض كل الذين يتدافعون للقبض عليه، فيُشهِّر بإبليس ويجرِّد السلاطين جهارًا ظافرًا بهم، ويُطلق الأسرى بالحرية، ويُعين عبورنا في هذه الدنيا حتى يركض العالم نحو الله.
بقلم: القمص أثناسيوس جورج