الصليب .. حقيقة تاريخية .. جوهر إيمان … طريق صلاة وتوبة
يُعتبر الصليب المقدّس أبرز رمز في المسيحيّة وعلامة حقيقيّة لجوهر إيمان عميق. ولا يوجد أحد يختلف مع الآخر حول الصليب وما يحمله من معنى حقيقيّ حول الخلاص.
يسوع المسيح والصليب:
قصّة الصليب هي قصّة الخلاص، قصّة دخول الله في تاريخ البشر. هذا ما يُعرف في علم اللاهوت بالحدث التاريخيّ من جهة ومن جهة أخرى بالحدث الإلهيّ أي اللحظة التي دعا فيها الله العالم ليعيشَ في عمق الحب الإلهيّ” لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به”. أي أنّ يسوع المسيح قدّم ذاته فداءً عن البشر أحبائه وفي هذه التقدمة أعاد العلاقةَ الحميمة بين الله والانسان بعدما فقدَ هذا الأخير، في شخص آدم وحواء، طريق الخلاص بالوقوع في الخطيئة والانفصال عن الله والاستقلال الذاتي. لم تكن هذه اللحظة بالامر السهل بل كانت لحظاتٍ قلقة منذ فجر التاريخ صاحبتِ الإنسانَ حتى مجيء ابن الله في الجسد وبالرغم من صعوبة ورهبة الموقف الذي رافق المسيح وهو يصلي في بستان الزيتون “يا أبتاه، أبعد عنّي هذه ألكاس، أبعد عنّي هذه الساعة ” ورهبته،إلا أنّ الحياة الكامنة ” مُر الكأس” كانت هي طريق النصرة والمجد والثمر الكثير “كحبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت فأعطت الثمر”. هكذا، ذاق الإنسان طعم ثمرة الخلاص عندما جعل يسوعُ من جسده مأكلاً حقًّا ومشرباً حقاًّ. وهو، أي المسيح، من تألّم على الصليب حتّى يلدَ الحياةَ الجديدةَ لبشريةٍ جديدةٍ ومتجدِّدة على الدوام محوِّلاً فيها حياةَ الحزن الى الفرح والكآبة الى أمل واليأس الى رجاء والخطيئة الى نعمة والموت الى حياة.
علامة الصليب
ما قبل العهد (قبل المسيح) مع العهد وبعده (بالمسيح)
كان علامة ذلٍّ وعار صار علامة عزٍّ وافتخار
كان علامة عقابٍ وشرّ صار علامة مكافأةٍ ونبعَ خير
كان يُنظر إليه كحِمْلٍ ثقيل صار حِمْله خفيفًا ونيرُه هيِّنًا
كان أداة عذاب مرٍّ صار أداة عزاء حلوٍ
كان طريقَ خوفٍ وقلق صار علامة تشجيعٍ واستقرار
كان علامة موت وانكسار صار علامة حياة وانتصار
كان عند الهالكين جهالة صار عند المؤمنين حكمةَ الله
كان علامةَ خزي وهوان صار علامة كرامة ومجد
كان علامة كُفر وتجديف صار علامة ايمان وتسبيح
ماذا نعني برسم علامة (إشارة) الصليب؟
يكمن سرُّ الإيمان المسيحيّ في رسم علامة الصليب الذي تحوّلَ مع حدث صَلْب ربِّ المجد عليه يسوع المسيح الى نبعِ قداسةٍ يتقدّس منه كلّ مؤمن يقترب ويلامس خشبة الصليب بمهابةٍ وخشوعٍ وإكرام لأنّه ختْمُ تقوى مقدَّسٌ ومكمِّلٌ للخيراتِ كافّة الآتيةِ من عند أبِ المراحم، اللِه الغافرِ لكلِّ ضعفٍ بشريّ مانحاً لكلّ إنسانٍ القوّةَ والنعمةَ النابعتين من آلامِ ابنِه الوحيدِ يسوعَ المسيحِ الحاضرِ دائماً في حياةِ المؤمنين وحياةِ الكنيسةِ جسدِه السريّ. أعطى هذا الحضورُ الكنيسةَ علامةً مميَّزةً دائماً، هي عيشُ حياةِ النصرةِ والغلبةِ ألى الخطيئة والموتِ وأفعالِ الشيطانِ ومؤامرةِ الناسِ الاشرار وقيام الأعداء الخفيّين والظاهرين الذين نقهرهم دائماً برسم علامةِ الصليبِ الذي صار رهيبًا ومخيفًا للشياطين ولم يعد لهم ولجنودهم أيُّ قوّةٍ. فنحن ابناءُ الإيمانِ والخلاصِ نلنا النعمةَ والخلاصَ وصار الصليبُ ملازمًا لنا في تصرّفاتنا وتحرّكاتنا اليوميّة في ذهابنا وإيابنا. “نقول باسم الآب والابن والروح القدس. في هذه الإشارة إيمانٌ مطلَق بالثالوث القدّوس من جهة، وبحقيقة تجسُّدِ المسيحِ وموتِه وقيامتِه من جهة أخرى.
الصليبُ حقيقةٌ تاريخيّة:
قضيةُ صلبِ يسوعَ المسيحِ وموتِه كانت القضيّةَ البارزةَ والمكرّمة منذ لحظة وقوعِها على مرّ التاريخ وحتّى يومنا هذا من قِبَل الجماعاتِ المسيحيّة، لا سيّما الجماعةِ المسيحيّةِ الأولى المُقيمة في القدس. من جهتهم، اهتمّ اليهودُ بالقبور وتزيينِها، خصوصًا قبورِ الشخصيّاتِ البارزةِ.
تمّ بناءُ السورِ الثالث موضعِ الجلجلة بين العامين 41 و 44 ونجد فوقه ثلاثةَ هياكل:
الهيكل الأول: يبيّن لنا مشهدَ الصلبِ وعلى يمينه توجد نافذةٌ كانت المدخلَ الرئيسَ إلى الجلجلةِ في أيّامِ الصليبيّين وحول منها فسيفساءُ تمثل ذبيحةَ إسحق.
الهيكل الثاني: هو في الوسط ومكرَّسٌ للعذراء أم الأوجاع.
الهيكل الثالث: تعلوه صورةٌ ليسوعَ المصلوبِ وعلى جانبيه يوحنا الحبيب “هذه أُمك” والعذراء مريم “هذا اُبنك”. يوجد تحت هذا الهيكل قرصان مفتوحان يشيران إلى الموقع حيث وُضِع صليبُ يسوع.
تحتفل الكنيسةُ في العالم أجمع بهذا العيد وتسميه عيد ارتفاع الصليب في الرابع عشر من شهر ايلول (سبتمبر)، وبشكل خاصّ تحتفل الكنيسة القبطية به مرتين في السنة:
مرّةً أولى في 16 توت حسب شهور السنة القبطيّة الموافق 27 سبتمبر. يستمرّ الاحتفالُ بهذا العيد ثلاثةَ أيّام لأنه يجمع ثلاث حوادث مرتبطة مع بعضها: الأول في 16 توت ذكري تدشين كنيسة القيامة، والثاني في 17 توت ذكرى اكتشاف الصليب المقدس، والثالث في 18 توت ذكرى ظهور الصليب المقدس في السماء للإمبراطور قسطنطين الكبير قبل البدء في الحرب ليشجعه.
إختفت آثار الصليبِ ومن بعد حادثةُ صلبِ المسيحِ وموتِه. لربّما قام الرومان بوضعه في حفرةٍ كبيرة أقيم عليها معبدٌ للإلهة فينوس ومُنع المسيحيَون في ذلك الوقت من الذهاب الى ذلك المكان لزيارة الصليب المقدَّسِ وتكريمِه واستمر هذا الوضع حتى سنة 326م عندما حضرت الملكة هيلانة أم الملك قسطنطين الى أورشليم وبحثت عن خشبة الصليب المقدَّس، وأمرت بإعادته. كيف تمّ إيجاد الصليب؟ على أثر الحفر، تمّ اكتشاف ثلاثةِ صلبانٍ فاقترح البطريرك آنذاك يوضع جثمانِ احدِ المتوفين فأعيدت له الحياة عندما وضع على الخشبة الثالثة التي شفت أيضًا إحدى السيّدات وكانت تعاني من المرض. هكذا، تأكّد الاب البطريرك والملكة والشعب كلُّه من الخشبة المقدّسة الي حملت المسيح فرفعوها بكلّ احترامٍ وإجلالٍ في مكانٍ عالٍ جداً ليتبارك منها الزوار جميعُهم. كذلك كانت هذه الخشبةُ المقدسة علامة فريدة َّومميَّزةَ تُظهر قدرةَ يسوع المسيح المائت والقائم من بين الاموات، فهو ربُّ الحيِاة وربًّ الشفاء وهو معين كل الملتجئين إليه بكل قلوبهم الى أبد الدهور.
الصليب جوهرُ إيمان:
يدعونا الربُّ في هذا العيدِ مجدَّداً لنحملَ صليبَنا ونتبَعَهُ بفرحٍ وتهليل وبصبر ورجاء ويقدّم هذه الدعوةَ مقدمة للمؤمنين باسمه والموسومين بعلامة صليبه فالصليب عندَنا نحنُ هوَ حكمةُ الله ورمزُ الحياةِ الجديدةِ، التي جاء بها السيد المسيح “أتيت لتكون لهم الحياة أوفر”. من أجلنا صلّى يسوعُ الى الأب قائلاً “أحمدك يا أبي ربَّ السماء وأسألك أن تحفظ من وهبتهم لي من الشرّ والشرّير”. فنحنُ أبناءُ الحياةِ؛ ليكن صليبُ الربِّ علامةَ رجاءٍ لنا في عالمِ سيطَرَ عليهِ اليأسُ والإحباطُ والشكّ بسببِ الانجرافِ وراء الملذّات والشهوات الرديئة وترك الله والابتعادِ عنه.
في صليبِ يسوعَ المسيح تحقَّقتَ “قوّةُ اللهِ” في منطقِ الخلاص وصار الصليبُ الانتصارَ على الخطيئةِ والشرّ. لذا من الضرورة بمكان أن يموت المؤمن عن شهوات الجسد والخطيئة كي يثمر ثمار الأعمال الصالحة التي تليق به للوصول الى طريق البرّ والملكوت.
الصليب جوهرُ ايمان ولا يوجد اثنان يختلفان حول هذه الحقيقة فالجماعة المسيحية المنتشرة في الارض كلّها وإن اخلتفت في الطقوس والانظمة لكنّها تتّفق تماماً حول جوهر صلب يسوع المسيح وحقيقته وأن هذه الحقيقة هي علامة خلاص وبها صار الرسل يكرزون ويبشّرون محققين دعوة المسيح لهم: اذهبوا الى جميع الامم وعّلموهم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وأنا باقٍ معكم الى المنتهى.من هنا من حادثة الصلب الى يوم الارسال تحول الصليب من أداة عذاب وموت واعدام ألى ادة حياة وقيامة ونمو لحياة المحبة في قلوب المؤمنين لعيش النصرة والافتخار محتملين الالام والمشقات بشكرٍ وفرح
الصليب طريق صلاة وتوبة:
أظهرت لنا الحقيقةُ التاريخية أنّ الصليبَ هو قوّةُ الله التي وُهِبت لخلاصنا وهو أيضاً جوهر الإيمانِ المسيحيِّ القائمِ على العزِّ والافتخار والمجد لصليب الرب يسوع المسيح ” أما أنا فأفتخر بصليب ربّي يسوع المسيح” من هنا صار الصليب ليس افتخارًا فحسب، بل أيضًا صلاةَ التأبينِ والتوبة ولا نعني بالشرّ الامنتاعَ عن الشرّ فقط إنّما كذلك إنما كذلك الأمر، قبول َ الصليب وحملَه واتّباعَ المسيح
يقول القديس صفرونيوس :
إذا تركنا الشرور كلَّها بدون الصليب لا نقترب خطوًة واحدًة من المسيح ، بل نتغرّب عنه في نسك وصوٍم وصلوات تزيد العجرفة، وتجعلُ سطوةَ الكبرياء أعظم ؛ لأننا لا نرى – في أثناءِ هذه الممارسات الأُمَميّة ( من الأُمم ) – خطايانا ، بل ” بِرَّنا الذاتيّ ” الذي يحجبُ عنّا خفايا القلب. بل إنّنا، نصير أمواتًا من دون أن نرى، تحت ستار التقوى الكاذبة من صوٍم وصلاة، أنّنا نصير أمواتاً بالذنوب والخطايا “.
أمّا طريقُ التوبةِ فيبدأ عند مرحلة الصفح عن الأعداء والمسيئين إلينا والصلاةِ من أجلهم كقول الرب يسوع المسيح في عظته على الجبل “صلوا من أجل الذين يسيئون إليكم وباركوا لاعِنيكم “. ليس هذا موقفًا سهلاً، فممارسته تصعب علينا جميعًا. ولكن، إن نظرنا الى ما علّمنا إيّاه الربّ يسوع في الصلاة الربّانية ” أنِ اغفرْ لنا كما نحن نغفر… ، فعندما نطلب مغفرة ذنوبنا لا بدّ لنا من أن نغفر نحن للمسيئين إلينا، فيظه المقباس الثاني الذي علّمنا إياه المسيح وهو ” أنّنا إذا لم نغفرْ للناس زلاّتِهم، لا يغفر لنا الآب السماوي زلاتِنا “. إذا،ً نبذُ الكراهيةِ والحقدِ والعنف ِوالإبتعاد عنهم طريقٌ الى المسامحةِ والمصالحةِ وجَعْلِ صلاتَنا مقبولةً لدىّ الله حيث نصير قادرين بقوة الصليب المحيي على مواجهة التجاربٍ والمحنِ والصعاب وتنقية الذات بالكامل والتطهير وطلب الروح القدس الذي يقودنا حقيقةً الى درب الصليب دربُ الصلاةِ ودربُ التوبةِ، دربُ الرجاءِ ودرب السلام، دربُ الثقةِ ودربُ النور الذي يمنحنا الحياة والعيش بموجب كلمة الله الحيّة والفاعلة في أنبيائه وقدّيسيه. فيسوع المصلوب قد مات على الصليب ودفن في القبر كحبة الحنطة التي طوتها الأرضُ وماتت وأعطت ثمارًا كثيرة. يسوع المصلوب والقائم أعطانا فيه الحياة
“قوة الحياة فينا لكي نقبل الحقّ الذي في كلمة الله” .
بقلم: الاب انطونيوس مقار ابراهيم
راعي الاقباط الكاثوليك في لبنان