أيقونة القديس جاورجيوس:
أرجو أن يسمح لي القارىء بإضافة صغيرة على أيقونة أحد شهدائنا الكبار وهو القديس جاورجيوس، وقد كتب عنه كاهنان فاضلان هما الأب اسبيرو شكور والأب يوحنا جاموس دون أن يتعرضا لأيقوناته التي تفرض بعض التساؤل، وقد تعرّضتُ له يوما، خلال مرافقتي أحد الوفود السياحية، إثر زيارة كنيسة مار جرجس في إزرع الواقعة على بعد 80 كم جنوب دمشق وزيارة دير مار جرجس الحميراء شمال قلعة الحصن قرب “المشتاية”. كان تساؤل السائح حول أيقونات القديس جاورجيوس وهي تمثّله على حصانه، وهو يقتل التنين لإنقاذ إبنة الملك القريبة. فقد لاحظ في بعض الأيقونات، وبخاصة في دير مار جرجس الحميراء، وجود غلام في وضعية الساقي (يحمل بإحدى يديه قارورة وفي الأخرى كأساً) خلف القديس على الحصان. بينما في أيقونات أخرى، كما في كنيسة إزرع، لم يكن هناك أحد راكبا على الحصان خلف القديس.
اعتذرت للسائح لعدم معرفتي الإجابة آنئذٍ، ووعدت بموافاته بها حال معرفتي إياها. ومضيت أسأل المطارنة والكهنة والباحثين المهتمّين في حلب ودمشق والمشتاية وكل مكان دون أن أحظى بإجابة شافية. وأخيرا وبعد سنتين، وجدتُ الإجابة في إحدى المجلات الدورية التي يصدرها “المتحف البريطاني”، فارسلتها للسائح صاحب السؤال:إن أيقونة القديس وهو يقتل التنين ولا أحد وراءه على الحصان تقليد كنسي من القرن الرابع للميلاد. أمّا الأيقونة التي تحتوي على الغلام الساقي خلف القديس على الحصان فهي تقليد عرف في القرن الثالث عشر وما بعد. عندما احتل العرب المسلمون جزيرة كريت، وكان أحد حكامها يحب شرب الخمر وهي محرّمة، لذلك اتّخذ غلاماً مسيحياً اختطفه القراصنة من جزيرة ميتيلين Mitylene “لسبوس” إحدى جزر اليونان ليقوم بوظيفة الساقي ويناوله كأس الشراب. وقد طلبت والدة الصبي في صلاتها من القديس جاورجيوس أن يعيد لها ولدها. فذهب على حصانه، وحمل الصبي وهو يقدّم الشراب للأمير ووضعه خلفه على حصانه وجاء به الى والدته. لذلك يمثَّل الغلام خلف القديس، وهو بلباس عربي، وفي إحدى يديه قارورة الخمر وفي الأخرى الكأس. وقد رسمت مدرسة الأيقونات الحلبية في القرن السابع عشر والثامن عشر (نعمة وابنه حنانيا وحفيده جرجس المصور ) العديد من أيقونات مار جرجس وخلفه الصبي الساقي وفي يده السيف العربي المعكوف يقطع به رأس التنين.
ونذكر بهذه المناسبة ان كنيسة إزرع، وهي برعاية طائفة الروم الأرثوذكس وقد تمّ ترميمها مؤخراً بهمة سيادة المطران اسبر سابا، تعتبر أقدم كنيسة مؤرخة في سورية لا زال يصلّى بها منذ عام 515 م، وهي مكرّسة للقديس جاورجيوس الشهيد، وتضم بعض رفاته، وكانت في ما سبق معبدا وثنيا. والكتابة اليونانية المؤرِّخة لا زالت في مكانها على نجفة الباب الغربي للكنيسة، وكان قد قرأها العالم “برنتيس” من البعثة الأمريكية لجامعة برينستون الأثرية الى سورية عام 1904، ونصها: ” أصبح هذا بيت الله وكان مكاناً للأبالسة. حيث كانت التقدمات الوثنية أصبحت فيه جوقات الملائكة، وحيث كان يُثار غضبُ الله أصبحت تُطلَب رحمتُه. قدّم رجل محبّ للمسيح، هوكبير الأساقفة إيوانيس بن ديوميدِس، من حسابه الخاص هبةً الى الله هذا البناء النبيل، واضعاً فيه الذخيرة المكرّمة للقديس الشهيد جاورجيوس الظافر الممجّد، الذي ظهر له بشكلٍ جليٍ وليس في المنام، وذلك في الدورة التاسعة من عام 410 ” (والموافق 515 م).
عرف مار جرجس في انكلترا منذ القرن الثامن إلاّ ان شعبيته ازدادت عند عودة الصليبيين الى أوروبا في القرون الوسطى. وقد زُعم انه شوهد يساعد الفرنجة عند حصار أنطاكية عام 1098 م. ولعلّ القديس لم يصبح شفيع إنكلترا England’s Patron Saint إلاّ عندما جعله الملك إدوار الثالث (حكم 1327 -1377 م) شفيع رتبة الساق Order of the Garter الجديدة التي أنشأها وهي من أعلى مراتب الفرسان، وجعله البابا بنديكت الرابع عشر حامي المملكة وعيده في 23 نيسان، وتعيد له الطوائف حسب التقويم الشرقي في السادس من أيار.
ان فكرة التنين والقديس جاورجيوس مأخوذة من اسطورة من القرن السادس قبل الميلاد تتعلّق ببيرسيوسPerseus الذي قتل حيوان بحر ينفث النار قرب مكان استشهاد مار جرجس، وكان يقدم له يوميا نعجتان كأضحية، ولم يعد يكتفي بذلك وطلب أضحية بشرية تقدم له بالقرعة. وجاء دور ابنة الملك لتشبع جوع الوحش. سمع بذلك مار جرجس فرسم إشارة الصليب وذهب لمحاربة الوحش وانتصر عليه. أراد الملك أن يعطي نصف مملكته لمنقذ ابنته من الموت، لكن مار جرجس رفض ذلك وطلب إعطاءها للفقراء.
ورغم ان الكنيسة الكاثوليكية جعلت عام 1961 عيد القديس جاورجيوس تذكارا commemoration بين الأعياد بسبب عدم وجود التنّين، وهو في الأيقونة رمز للشر. إلاّ ان القديس جاورجيوس كان شهيداّ من بلادنا له كنيسة عظيمة في اللد بلدة أمه بوليخرونيا، والعديد من الكنائس والأديرة والمزارات في كل مكان. ولا تخلو عائلة مسيحية كثيرة الأولاد في بلادنا من تسمية أحدهم على اسمه، ويكرّم كذلك لدى المسلمين باسم “الخضر ابو العباس” وله العديد من المزارات. وفي مدينة حلب بالذات يوجد عدّة كنائس على اسمه، كما هناك باسمه مزاران أحدهما في قلعة حلب مقابل آخر باب دفاع أيوبي والآخر في سور المدينة عند باب النصر يزورهما العديد من المواطنين للتبارك.
القديس ديمتريوس الشهيد:
غالبا ما يشاهد القديس جاورجيوس على حصان أبيض وهو يقتل التنين، بينما يمثّل بالمقابل القديس ديمتريوس، وهو قديس آخر شهيد من القديسين الفرسان القلائل في الكنيسة، على حصان أحمر وخلفه رجل دين وكأنه مطران أرثوذكسي، بينما وقع على الأرض بين حوافر حصانه رجل بيده سيف. وتمثل الأيقونة وهي من رسم الفنانين العرب قصة إنقاذ القديس ديمتريوس للمطران كبريانوس من أسر البرابرة واصطحابه معه الى مدينته تسالونيكي. أما عندما لا يكون أحد خلف القديس ديمتريوس على الحصان فالرجل بين حوافر الفرس الأحمر هو المصارع الجبار لوهاوش وقد انتصر عليه المصارع المسيحي نسطر بمساعدة القديس في القرن الثالث للميلاد بناء على طلب لوبّس خادم القديس ديمتريوس الذي كان يعوده في سجنه, كما هو مذكور في سنكسار القديس ديمتريوس الذي تعيّد له الكنيسة اليوم السادس والعشرين من تشرين الثاني, وكان من مواليد مدينة تسالونيكي. وقد حصل كل من القديس ديمتريوس ونسطر ولوبّس على إكليل الشهادة أيام اضطهادات ديوكلسيانوس ومكسيميانوس عام 303 م. وهناك كنيسة عظيمة على اسم القديس ديمتريوس في مدينة تسالونيكي لعلها تعود بأساساتها الى القرن الرابع للميلاد.
إعداد: المهندس عبد الله حجار
مار جرجس بدون الساقي خلفه
مار جرجس والساقي خلفه على الحصان
أيقونة دير مار جرجس وديمتريوس /الحميراء
أيقونة مار ديمتريوس ومطران تسالونيكي
فسيفساء من تدمر: فارس يقتل حيوانا بعدة رؤوس