لا يستطيع أحد أن ينفي وجود ظواهر روحية مباركة، فلا شيء مستحيل لدى الله، وفي أحيان كثيرة يشاء الله أن تتم هذه الظواهر من أجل تثبيتنا وتعزيتنا، لكنها في مجملها تصب في خانة الجهاد واليقظة الروحية، لذلك يوصينا الكتاب المقدس بعدم الانزلاق إلى التزييف والوهم والغيبيات، حتى لا يخدعنا أحد على طريقة ما، وحتى نتجنب كل تعليم غير صحيح بعيدًا عن الفضوليين والمتطفلين (2 تس 10:3).
إيماننا قائم بسبب الكلام الذي كلمنا به الكلمة الإلهي، وجعلنا به أهلاً لشركة ميراث القديسين في النور، والذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته. فكلام المسيح هو أعظم من كل المعجزات، ومن الانشغال المفرط بالتحقق من الغيبيات (آمنتُ لذلك تكلمتُ). لذلك الكنيسة دائمًا تدعونا إلى الصحو والسهر، وهي حذرة تجاه الظواهر الروحية، لأننا نؤمن بالإيمان لا بالعيان، أما الجيل الشرير والفاسق الذي يطلب آية ولا تُعطىَ له آية (مت 39:13)، فذلك لأنه لا آية أعظم من معجزة خلاصنا الثمين التي لا تشيخ ولا تنضب، والتي تتخطى الأزمنة والآراء الشخصية المتقلبة. فما هو عصري اليوم يصبح غدًا قديمًا وباليًا، أما نحن فأحياء لله في المسيح يسوع، أبديتنا باقية، ونسعى لنقطر ونجمع زيتنا، ونسعى في جدة الحياة ونحمل ثمار الروح ونجعل غير المنظور منظورًا، ونفعل كل شيء لمجد الله، عاكسين مجده بثبوتنا فيه. إيماننا الصادق يفتح الطريق لعبور عتبة الحق، لأن وجود الله عميق فينا وسري، يعلن سره لأتقيائه، ويعلن ذاته للذين يحبونه.
إن معجزتنا الأكثر حضورًا وأهمية عندما يكون عمانوئيل إلهنا كائن معنا على المائدة كل يوم، وكل يوم يصير لنا اليوم، نبشر بموته ونعترف بقيامته المقدسة وصعوده إلى السموات. يعلن لنا خلاصه وحبه العجيب ومشيئته الحلوة من نحونا، وهذه هي الطريقة الكونية الوحيدة لإشباع بئر رغبات الإنسان، إذ ليس بأحد غيره الخلاص، مَن وجده لا يضِل، ومن يتكل عليه لا يعاقَب، هذه هي أعظم المعجزات جميعًا. لأن الأشياء التي تُرى وقتية، أما التي لا تُرى فأبدية.
إن الكلمة الإلهية هي وحدها الثابتة إلى الأبد، هي صوت المسيح الحسّي الحي والمتكلم، وهي أيقونته لنا، هي غذاؤنا وزادنا وغنىَ نفوسنا، حية وفعّالة، أنفاس الله وكمال الحق التي للمعرفة الكاملة بتدبير الثالوث. كلمة الله المقويَّة المعزية المُشبعة التي تقطع سرطانات الخطايا (سيف ذو حدَّين)، تقطع كل ضلال مؤدي للهلاك، وخارقة للأمخاخ والنيّات.
لا مفهوم حقيقي للعجيبة إلا أنها (علَامة) لا تُدرك إلا بالإيمان، وحتى العجائب التي تُجرىَ على أيادي القديسين هي ليست من صنعهم لكنها تتم بإرادة قوة الله. لكن ضعف إيماننا واسترخاءنا الروحي يدفعنا أحيانًا إلى استكمال عجزنا الروحي واللهث وراء العجائب، بقصد إيجاد برهان محسوس ومادي للإيمان، وكأنه لا يكفينا تدبير الخلاص العجيب. وضعف الإيمان هذا يجعل الكثيرين ينصرفون عن خلاصهم وقانونهم الروحي بالاتجاه ناحية الغيبيات والخرافات المصطنعة، حاسبين أن إيمانهم متوقف على الركض نحو العجائب، بينما برهان الإيمان ومقياسه هو في الثبات في صخر الدهور ربنا يسوع المسيح رئيس الإيمان ومكمِّله الذي لا يتبدل ولا يتغير، وملكوته لا ينقرض ولا يتزعزع ولا يزول.
مسيحنا له المجد لم يصنع معجزاته إرضاءًا للناس أو لإثارة إعجابهم واجتذابهم، لكن أعماله علامات ورسائل للذين لهم عيون ليروا ملكوته حاضرًا فيبصرون ويفرحون، معجزاته تتكلم بنفسها أنه هو كلمة الله مخلص العالم، وجميع أعماله هي أقوال موجَّهة لنا، ننظر إليها لنفهم قدرة صلاحه وسلطانه على الطبيعة والحياة والموت والمادة… إنها رسائل ودروس خلاصية نتجاوب معها ونقبلها لأنها وجه من أوجه مقاصد خلاصنا، والذي وعد هو أمين.
أعمال الله ليست من غير مقاصد، فهي من قِبَل المدَّخر فيه كل كنوز النعمة والحكمة والمعرفة. وكلماته وأعماله تكدس لنا البراهين التي لا تقاوَم كي تكون لنا الجراءة والثقة وإقرار الرجاء. فالمسيح على جبل التجربة رفض صنع معجزة، بينما أبطل حُجج المجرِّب وانتصر عليه. وكذلك عندما طلب منه رؤساء الكهنة أن ينزل من على الصليب ويخلص نفسه في الجلجثة، لكنه لم يفعل، بل قام ظافرًا وأبطل شوكة الموت وغلب الهاوية. أعمال الله ليست للإبهار ولكنها لصنع مشيئة عالية سامية صافية سماوية. فلم يشفِ المسيح كل أعرج وأعمى وكل موتى زمانه، لأن أعماله مقتدرة، وقد أتى بعلامات ليصنع مشيئة الذي أرسله ويعمل أعماله. كل معجزة إلهية لها هدفها الخلاصي وحينها الحسن ومقاصدها الإلهية التدبيرية (إيكونوميا).
وكم عجيبة ومعجزة صنعها الرب في وجود يهوذا الخائن، لكنه لم يدرك المقاصد، لذلك العجيبة الحقيقية هي في توبتنا وتقديسنا للساعة، فلنتمم خلاصنا بخوف ورعدة كي لا يتسلط علينا الإثم، ولنأتِ ونضع أنفسنا عند السيد الضابط الكل، لأن كل من يُقبل إليه لا يُخرجه خارجًا، ولنكمل أمر خلاصنا بوعي ونتمسك بالمعونة الحصينة القادرة أن تطفئ سهام إبليس المتقدة نارًا، فيهرب عنا الافتخار والشر الأول الذي هو العظمة، ومن ثم ننال الدالة والخيرات غير الموصوفة.
بقلم: القمص أثناسيوس چورچ