في الوقت الذي تنكمش فيه للأسف الكنيسة الغربية وتغلق الكنائس او تتحول الى دور سكن..الخ, تتسع وتنمو الكنائس الاغترابية. ففي حوالي نصف قرن من الزمن حققت الجالية القبطية الاغترابية انجازات كنسية واجتماعية وسياسية هائلة تستحق كل الإعجاب والتقدير لانها صارت تسبق الكنائس الاغترابية الأخرى الاقدم منها مثل المارونية والسريانية.
لقد بدأ الأقباط الهجرة فى السيتينيات واتجهوا أولا إلى كندا وأمريكا ثم أوروبا واستراليا والأرجنتين والبرازيل و اسيا وروسيا. وفي بداية الهجرة كافح الأقباط كثيرا فقد كان أقباط أمريكا يصلون أولا في كنائس السريان والاشوريين والارمن والامريكان الى أن كثر عددهم وتحسنت أحوالهم. يقول المغترب القبطي وليم الميري من أمريكا: “ظهرت أول كنيسة قبطية مصرية ، في جيرسي سيتي وسميت كنيسة مار مرقص وكان يوم اأفتتاحها في ايام القديس البابا كيرلس وكانت البداية لشراء الكنائس في مختلف أنحاء أمريكا. وكان أول راع للكنيسة هو المتنيح القمص غبريال أمين” .
وبالمقابل كانت كنيسة مار مرقص هنا في لندن هي اول كنيسة اشتراها الاقباط من المعمدانيين عام 1975 وهي كنيسة عريقة وجميلة جداً، اتذكر إن السريان صلوا فيها في الثمانينات وذلك في بداية وجودهم في لندن.
أما اليوم و كما يذكر الأنبا باخوميوس في كتابه القيم: سيرة عطرة.. اصدره بمناسبة الأربعين لذكرى تنيح قداسة البابا شنودة حيث يذكر فيه الانجازات في عهد قداسة البابا فيقول : “وارتفع عدد الكنائس القبطية في الخارج ليصل الى حوالي 550 كنيسة منتشرة في حوالي 60 دولة” أغلبها هو في أمريكا وتضم أيضا 10 كنائس في اسيا. ولم يقف المد الروحي نحو الكنائس بل أسسوا الأديرة في أمريكا، وكندا ، واوروبا، واستراليا وغيرها. أما بالنسبة لعدد الأقباط المغتربين فهو في تزايد وخاصة بعد قيام الثورة المصرية وما نجم عنها من مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية . وحسب تقدير القمص يوسف القمص حنا عضو لجنة الطقوس الكنائسية فان عدد الأقباط فى المهجر بلغ 2 مليون في العالم لديهم اليوم منظمات كثيرة كنسية واجتماعية وسياسية وثقافية. ومازالت الكنيسة القبطية في نمو واتساع سريع وتزداد قوة يوماً بعد يوم فكيف حدث ذلك؟ هناك بالطبع عوامل ايجابية كثيرة أذكر منها ما يلي:
1. الرعية المؤمنة: الرعية هي الكنيسة ولا استمرار لكنيسة بلا رعية مؤمنة. ومعروف كم هو الشعب القبطي متعلق بكنيسته من أجل الحفاظ عليها وأيضا لاشباع حاجاته الروحية والنفسية والاجتماعية وخاصة في بلاد الغربة. يقول الكاتب القبطي الاستاذ وليم الميري: “المهاجر المسيحي يحمل كنيسته، فهو لا ينساها وهي لا تنساه، يأخذها معه أو ترافقه إلى كل بلد يهاجر إليه”. إنه وصف جميل لكن ما هو سر هذا النجاح؟ هناك ميزات ايجابية كثيرة لاحظتها في الجالية القبطية ولا أبالغ إن ذكرت منها:
– هناك التزام وثيق لدى جميع أفراد الأسرة تجاه الكنيسة.
– الكنيسة بالنسبة للقبطي هي إمتداد لبيته فيهتم بها ويرعاها بشكل مستمر. قال لي مرة رجل انكليزي مسن يتردد للكنيسة: “إن الكنيسة بالنسبة للقبطي هي محور حياته وكل شى يدور حوله” وانا اتفق معه على ذلك.
– أغلب الأقباط يطبقون عطاء العشور في مساندة الكنيسة ولذا ومن الملاحظ أنه متى اجتمع أكثر من 15 أسرة في منطقة اشتروا لهم كنيسة ثم يباشرون في البحث عن الأقباط في المنطقة فتكبر الكنيسة.
– المحافظة على الأصل، حيث ظهرت بادرة العودة الى تسمية أولاد المغتربين باسماء القديسين الأقباط.
– هناك تعاون بين الكنائس في النشاطات الروحية والاجتماعية، والأسواق الخيرية السنوية التي يقصدها الأقباط في أماكن بعيدة ويتبرعون بسخاء.
– هناك مؤتمر سنوي للشبيبة القبطية.
– علاقة أقباط المهجر بالكنيسة الأم تتميز بالثبات والاحترام والطاعة كما أن قداسة البابا يبدي اهتماماً كاملاً بامورها ويشرف على تعيين كهنتها لذا فان الخلافات بين كنائس المهجر والكنيسة الأم نادرة.
– الكنيسة القبطية إلى جانب أنها دار للعبادة، صارت مكاناً لاجتماع الشباب مما أدى إلى الكثير من الزيجات بين الشباب، للحفاظ على الأسرة القبطية.
2. الادارة الكهنوتية الحكيمة: يقول بولس الرسول عن الكاهن: إِنِ ابْتَغَى أَحَدٌ الأُسْقُفِيَّةَ، فَيَشْتَهِي عَمَلاً صَالِحًا لِلتَّعْلِيمِ… وحلِيمًا يُدَبِّرُ بَيْتَهُ حَسَنًا، وله أَوْلاَدٌ فِي الْخُضُوعِ بِكُلِّ وَقَارٍ ( تيموثاوس 3 ؛1-4). ويقول المتنيح قداسة البابا شنودة: الخادم الروحي هو إنجيل متجسد.. وهو كنيسة متحركة. أتصور ليس من السهل أن تجد الكاهن الذي يمتلك كل هذه الصفات الصالحة، لكن يبدو أن الكنيسة القبطية تجيد حسن الاختيار ولديها الوفرة من الكهنة الأفاضل حيث يتميزون بشكل عام بكونهم رهبان في سن الشباب وبمؤهلات جامعية وكهنوتية منوعة ساهمت في تقدم الكنيسة واستقرارها وغناها. واهم نقطة في نظري، هي الحكمة في اختيار الكاهن الاغترابي المناسب للمكان المناسب. فجميع كهنتها يختارهم البابا للخدمة على هذا الأساس، ويتابعهم الاسقف بشكل دوري وإذا ظهر أي تقصير من أحدهم، أو عدم تجاوب بينه وبين الرعية دعاه قداسة البابا للسؤال. أما العلاقات بين الكهنة فهي أخوية تتسم بالتفاهم والتعاون بينهم في جميع المجالات. كما أن هناك اهتمام قوي في رسم الشمامسة، ولو قدر الكاهن الاغترابي لرسم كل أولاد الكنيسة شمامسة، وذلك لربطهم بها بشكل مستمر ولانهم الشريان الذي يغذي الكنيسة. كما أن هناك دروس لتعليم الشمامسة الترانيم القبطية للحفاظ عليها والشمامسة بدورهم يكنون احتراماً كبيراً للكاهن.
كما نشط الكهنة في جمع التبرعات واجادوا فن شراء الكنايس الغربية التي هجرتها للاسف رعيتها فاصبحت مهجورة. ففي بريطانيا وعلى سبيل المثال، بالاضافة إلى الكنائس الموجودة في وسط انجلترا، فقد أسس الآنبا انطوني (حفظه الرب) في أنحاء بريطانيا 15 كنيسة بالاضافة الى فتح ديرين للرهبان واحد في انجلترا واخر في أيرلندا خلال أقل من 15 سنة. أليس هذا رقم قياسي كنسي؟
وعندما يشتري الأقباط كنيسة فى أى دولة أجنبية فأول شىء يفعلوه هو شراء دار سكن للكاهن قرب الكنيسة. ويعتبر الكاهن القبطي نفسه \”حارس أرثوذكسي\” للكنيسة يدافع عن تراثها ورموزها كما وان للكاهن علاقة مميزة مع رعيته ويهتم في امورهم الشخصية والروحية ويتابعها.
3. الطقس الكنسي: الكل يعرف أن القداس هو طويل عند الأقباط ومع ذلك لا ترى الكاهن الشعب يتذمران. الصلاة القبطية هي شاملة وكاملة ولا تستثني أحداً حتى الأنهار تذكر في القداس. كل شي يمر بشكل هادئ وروحاني. والجميع مرتاح، حتى الأطفال، ولا احد يشتكي، والاهم ملاحظة عن الرعية : هو أن هناك خشوع وهدوء ملحوظ أثناء تناول القداس كما إن لبس السيدات محتشم. وفي نهاية الصلاة هناك غذاء جماعي ثم درس الكتاب المقدس وتعليم الأطفال. الذهاب الى الكنيسة هو ممتع يبدأ بابتسامة وينتهي بابتسامة.
كيف حدث كل ذلك: ببساطة التنشئة البيتية المستقيمة.
4. الكنيسة الاغترابية والسياسة: الخط العام للكنيسة القبطية هو عدم المزج بين الدين والسياسة لكن حوادث العنف ضد الأقباط وهدم الكنائس خلال السنوات الأخيرة سيست الكنيسة في بعض البلدان الاغترابية وتكونت منظمات سياسة قوية لها كلمتها اليوم لدى الحكومة المصرية.
5. القنوات الدينية المسيحية: من الواضح بان هذه القنوات جذبت بقوة الرعية وساهمت الى ازدهار كبير للكنائس في داخل وخارج مصر. يقول د. ثروت باسيلي المدير التنفيذي لقناة ctv “لقد نشأت القنوات الدينية بناء على طلب الكثيرين جدا من الناس الذين يرغبون في مشاهدة المواد الدينية وخصوصاً من يعايشون الأقباط من خارج مصر “. وفعلا ًقدمت وما تزال هذه القنوات تقدم للأقباط الثقافة القبطية والخبر الكنسية وبرامج منوعة و جذابه خاصة بعد الثورة المصرية. وهذه القنوات مثل CTV واغابي صارت صديق العائلة وككنيسة في البيت وخاصة لكبار السن في الاغتراب.
بالرغم من هذا الازدهار في الكنيسة القبطيه الاغترابية لكن لدي هناك بعض الملاحظات أرجو الالتفات اليها:
1. هناك تقصير لتعليم اللغة العربية للجيل الثاني.
2. الكنيسة القبطية محافظة جداً وغير منفتحة على الكنائس الاغترابية الأخرى كما يجب.
3. هناك ازدحام غير منظم في المكتبات الروحية بالكتيبات والنشرات والايقونات.
4 . MECOD و-MECC. مجلس كنايس الشرق الاغترابية و”مجلس كنايس الشرق الأوسط. لماذا لا تستغل الكنايس الاغترابية القبطية نجاحاتها وتتعاون مع الكنائس الشقيقة؟ وهنا اقترح انشاء منظمة باسم \”مجلس كنائس الشرق الاغترابية ‘ . MECCOD من اجل التقارب والتعاون في المجالات الروحية والثقافية والاجتماعية بين الكنائس من كافة الطوائف والبلدان. وايضا من أجل تعزيز العلاقات بن الكنائس الاغترابية ومع “مجلس كنائس الشرق الأوسط The Middle East Council of Churches in Diaspora ” وخاصة في هذه الظروف المتقلبة والحساسة التي بمر بها الشرق الأوسط. هذا التقارب سيكون عاملاً ايجابياً من أجل الوحدة الكنسية.
5. ربما يجب التريث في التوسع الكنسي وتقوية ما هو موجود.
الخلاصة؛ الكنيسة القبطية الاغترابية هي كنيسة ارثوذكسية نشيطة وقوية سر نجاحها يكمن في رعيتها الملتزمة ورعاتها الغيورين وادارتها الحكيمة وستستمر لزمن طويل للحفاظ على الأسرة القبطية إن ثابرت على هذا الاندفاع، والرب يباركها.
بقلم: الدكتور فيليب حردو. لندن 2012
مصادر للمعلومات:
1. موقع دير الأنبا انطونيوس – كروفلباشز – ألمانيا
2 موقع دير العذراء والقديس موريشيوس – هوكستر – ألماني
3 موقع دير الأنبا أثناسيوس – إنجلترا
4. St Mary and St Anthony\’s Coptic Orthodox Monastery , أستراليا
5. دير الأنبا شنودة بسيدنى أستراليا
6. موقع دير الأنبا أنطونيوس كاليفورنيا
7. موقع دير العذراء مريم والانبا موسي الاسود – سانديا – تكساس