تصلي الكنيسة صلاة السجدة في عيد (البنطقستي)؛ عيد (الخمسين) الذي تأسست فيه الكنيسة؛ بحلول الروح القدس، وهو ما يُشار له بأنه الاجتماع المَهيب في يوم الباكورة وبداية الحصاد الجديد وسيادة الله وهيمنته على كنيسته منذ باكوراتها (باكورات وعود ابن الله). ويأتي طقس السجدة في السياق الليتورجي للاحتفال بعيد عطية الروح القدس ويوم الوعد والرجاء الذي يملأ أرجاء الكنيسة ليقدس محفلها تقديسًا مستمرًا لا يفارقها؛ منذ بدء خروج التلاميذ للكرازة والحصاد… وهو حدث فعل خلقي جديد؛ ظهرت بركاته وإمكانياته في تأسيس الكنيسة، فالوجود الإلهي للثالوث القدوس هو سر وجود وكيان الكنيسة.
وتعبِّر صلوات السجدة عن الوجود الكنسي كتدبير إعلان الثالوث في التاريخ كأساس الإكليسيولوجيا… فنصلي السجدات الثلاث ونحن ساجدين (كحبة حنطة) و(كخميرة) و(كقطيع صغير) نيابة عن العالم كله… نصلي السجدات خارج الهيكل لأنها تعبر عن إستعلان عمل الله للعالم والكون كله، أي ليس للمؤمنين فقط من أعضاء جسد المسيح (الكنيسة) لكنها من أجل حضور الروح القدس في الخليقة كلها؛ لأن الروح يعمل في العالم وفي التاريخ… وقد تشكل الكون ووُجد بإرادة الآب التي أُعلنت بالكلمة الخالق وتحققت بقوة الروح القدس. لذلك نصلي من أجل حضوره في المسكونة لكل الألسنة والشعوب والأمم كي ترى خلاص الله العجيب، الذي أعلنه لمختاريه في كنيسته وجمعهم له في وحدانية الروح في بيت واحد؛ بعد أن تعددت الألسنة في حادثة برج بابل؛ عندما كانت آية التشتت والتبديد إلى جميع الأمم. أما في المسيح فقد صارت آية للإنجماع في الوحدانية بواسطة الروح.
وبهذا نعيش التقليد حيًا (لاهوتًا حيًا) في الليتورجيا حيث نعيش ونختبر جوهر الكنيسة وكيانها (صورة الثالوث القدوس) بعيون العابدين الساجدين؛ وكأننا أمام جبل الله حوريب؛ الذي هو الكنيسة؛ التي فيها المسيح هو الرأس؛ والطيب نازل على الرأس وعلى اللحية وعلى جيب قميصه؛ كذلك العهد في حوريب؛ الذي ظهر بشبه نار آكلة (تث 22:5)… المسيح الذي مُسح وكرسيه إلى دهر الدهور… نعيش حضور الثالوث القدوس، فالشريعة هي الروح القدس (شريعة الحياة) وخدمتنا هي خدمة الروح المُحيي؛ لأنها مقدَّمة للروح الذي يُحيي، والمسيح يسوع ربنا هو يهوه؛ وهو جبل الله صهيون الذي أعطى الروح القدس؛ كعطية نعمة بلا نهاية وبلا حدود ولا يوجد شيء في الوجود أكثر غنى منها… أكون صغيرًا أنا وكبيرًا؛ ضعيفًا أنا وقويًا؛ مائتًا أنا وخالدًا؛ أرضيًا أنا وسمائيًا؛ لأن روح الله روح القوة والمشورة والهداية والاستنارة يرشدنا إلى جميع الحق وهو مطر الفِلاحة الجديدة؛ وهو القرين الصادق والشريك والسيد الحر الذي يعطي الحياة الأبدية ويعرف كل أسرار الله؛ ذلك الروح المعطي والمرسل والموزع للعطية والموهبة والوعد والشفاعة، فالآب هو الينبوع؛ والابن هو الجدول؛ والروح هو النهر؛ لا ينفصل بعضها عن بعض.
تجسِّد الكنيسة حياة الدهر الآتي في علاقة تبادلية مع التاريخ، وتأتي نصوص صلوات السجدة شارحة للوعي بنعمة الثالوث القدوس… نتأملها ونذوقها يقينًا حضوريًا عندما نشهد لله الآب والابن الوحيد الذي علمنا الإيمان بالكلمة وأرانا طريق الخلاص؛ والروح القدس الرب المحيي. وفي هذه المناسبة الليتورجية أتلمس هذه الشركة وعمل الروح القدس وتوزيع المواهب والعطايا الروحية الحرة لكي تُبنى الكنيسة وتُشيَّد روحيًا؛ فتكون عبادتنا لا لتاريخ قديم لكنيسة قديمة؛ بل هو تأسيس وعنصرة وبناء للكنيسة وتشييد لكيانها؛ الذي يجعلها قادرة أن تكون وأن تُوجَد وأن تدوم؛ حيث تنسجم حياة الكنيسة كمؤسسة مع عطايا الروح القدس، بحيث يصبح كيان الكنيسة ليس كيانًا تاريخيًا فقط؛ بل حضورًا حيًا ومستمرًا بالروح القدس عبر الأسرار والليتورجيات والتسبحة والمناسبات الخلاصية.
فخبرة الروح القدس لا تُكتسب إلا داخل الكنيسة؛ لأن الكنيسة والروح يشكلان وحدة واحدة لا تنفصل؛ وهي كمستودع للروح القدس تستمر بنفس الروح الرسولية الذي تسلمته في الكتب المقدسة أنفاس الله؛ وفي صلواتها وقوانينها وعقيدتها وتدابيرها، والتي تصير لنا نحن العابدين الساجدين قوة وثباتًا فينا ومعنا، مانحة للحياة؛ كما حل الروح على التلاميذ يحل علينا الآن وهنا… متوسلين أن لا يُنزع منا؛ بل يتجدد في أحشائنا روحًا مستقيمًا محييًا؛ كائنًا في كل زمان ومالئًا الكل؛ كنز الصالحات ومعطي الحياة… يحل فينا ويطهرنا من الدنس ويخلص نفوسنا ويحسبنا كالقيام في السماء؛ وينبسط على كل واحد ويملأ الموضع.
وتضع الكنيسة أثناء عبادة السجدة الأوعية الفخارية (المناقد) المملوءة بجمر النار؛ ويُرفع البخور بكثافة من أجل نفوس الراقدين؛ طالبين لهم نياحًا وبرودة مع جميع الذين رقدوا في الأمانة الأرثوذكسية منذ البدء وإلى الآن… مصلين ليكون لنا معهم حظًا ونصيبًا في نور القديسين… نذكرهم وقد رحلوا عن الحياة لكنهم أحياء عند إله الأحياء في كورة الأحياء… نذكرهم بأسمائهم؛ إذ أنهم حاضرون في ذاكرة الكنيسة؛ وأسماؤهم لا زالت تُذكر؛ لأن ذكر الصديق يدوم إلى الأبد… نذكرهم بأسمائهم لأن مسيحنا قد دعاهم بأسمائهم… لكن الذين لا تربطهم بالله شركة؛ فلن يكون لهم ذكر عند الرب؛ ولن يكون لهم حضور عنده… إذ اكتفى بان يقول لهم اذهبوا عني لا أعرفكم… إن الكنيسة في اليوم الذي تأسست فيه تجمعهم معها في عيد ميلادها كأعضاء حية؛ وتستجمعهم ليكونوا حاضرين في شركة معنا… تذكرهم في يوم نشأتها وفي اليوم الذي تفجرت فيه ينابيع الحياة الجديدة… فهي لن تنسى أعضاءها الذين سبقوا فرقدوا وانطلقوا إلى الفردوس… ونحن أيضًا الغرباء في هذا العالم نذكرهم ونقدم عنهم تقدمة روحية؛ تأكيدًا على أنهم عطر ورائحة زكية جيدة وجديدة وخالدة؛ وفي ذكرنا لأسمائهم إنما هو انطلاق الحياة الجديدة؛ لأنهم رائحة حياة وخلود وعدم موت… نصلي من أجلهم لأن الروح القدس وحد الجميع؛ الأرضيين مع السمائيين؛ وجعل الاثنين واحدًا؛ أي السماء والأرض. لأننا مدعوون لنكون شهودًا لمَعيّة تحقيق الكنيسة؛ الأحياء مع الراقدين؛ فبهما يتم إستحضار ذاك الذي فيه كل الأشياء إنتهت وكل الأشياء تبدأ.
وعندما نذكر الراقدين بأسمائهم؛ فذلك لأن الكنيسة تؤكد على سر الشخص وحقيقة وجوده الروحي في شركة المحبة؛ لأن الاسم هو المدخل إلى الحياة الأبدية التي تحفظ هويتنا كأبناء لله (دعوتُك بإسمك… أنت لي)، أما الميت فلا اسم له لأنه سقط في حفرة الظلام؛ وأولئك الذين تُقام من أجلهم هذه التذكارات ندعوهم بأسمائهم لأنهم أحياء وهويتهم لم تسقط؛ ونحن نشترك معهم كحقيقة وجودية منذ إنشاء الكنيسة في يوم الخمسين؛ مصلين لكي يعطي الرب نياحًا لأنفس أولئك الذي رقدوا وكي يتحنن على الأحياء والأموات وعلى الذي جازوا من هنا إلى هناك وينعم عليهم بالنياح والراحة في المظال الأبدية مستحقين للغفران والسلامة.
وتتركز طلبات السجدات الثلاث على قاعدة لاهوت استدعاء الروح القدس كي يملأنا من النعمة التي لا تفرغ، وأن يرد سبي نفوسنا ويهب لنا رجعة… يفتقدنا بخلاصه ويثبت حياتنا بقوته الطاهرة وناموسه الكريم… ويُدخلنا ملكوته؛ ويهب لنا صفحه ويحلنا من وثاقات إبليس؛ ويمنطقنا بأسلحة البر وينقذنا من كل شدة… كذلك في السجدة الثانية نطلب كي يأتي علينا الروح القدس ويدبر أعمالنا ويقبل طلباتنا كمثل البخور المقبول أمامه؛ وكذبيحة مسائية؛ وأن يسمر حقوقه في لحمنا لنعاين أحكامه ثابتين في الأمانة؛ نامين في الأوامر الإلهية.
وتأتي صلوت السجدة كتعبير كلي عن حياة الكنيسة وإيمانها في قانون العبادة؛ عندما نردد لحن (أسومين تو كيريو) فنطرح عنا حمل خطايانا الثقيل؛ لأن بنعمة الروح القدس صار لنا كهنة ومعلمون؛ ومن هذا النبع الإلهي تفيض لنا مواهب الاستعلان والشفاء التي تزدان بها كنيسة الله وتجمع شمل العالم المتفرق؛ والألسنة التي كانت سبب الشقاق والبلبلة تجمعت وتوحدت؛ لنسبح في العلية اسم الرب؛ لأنه بالمجد تمجد؛ صعد إلى أعلى السموات وأرسل لنا البارقليط؛ وننادي جميع الشعوب لتأتي معنا وتسجد للثالوث القدوس الواحد: ثالوث في واحد وواحد في ثالوث؛ كامل مثلث وموحد. فنعيش بالروح القدس واقعية الإنجيل وشهادة الخلاص الإنجيلي؛ لأنها ليست مجموعة قناعات أو مجرد كُود أخلاقي؛ ولكنها اختبار للوجود في الحياة الأبدية عبر حياة الكنيسة التي تشكل كل واقعنا ومصيرنا.
بقلم: القمص أثناسيوس چورچ.