العالم الحاضر، هذا السديم من الأهواء والمنازع يحتاج إلى من يثبت قلبه في الطمأنينة، ويركز أقدامه في طريق الخلاص ويفتح بصيرته بنور الإيمان الواعي على عالم لا وجود فيه لظلمات ويغمر أعماقه بفيض النعمة الإلهية ، ويعيد إليه الثقة بقدرته على إعادة ترميم ذاتـه ، وتحريره من هوج الأهواء ، وصفاقـة الكبرياء ، وولادتـه من جديد بالإيمان بالله ، وبمحبته لمن جبله على صورته ومثالـه ، لتكوين خليقة ملوكية ، تحقق خلودها بحريتها وإرادتها .
ومَـن كـبـولس، هذه القوة الروحية الخارقة التي اختارها ابن الله المتجسد ،لتكون صوتـه الدافئ، ولسانه المشتعل بالنعمة ، وقلبه النابض بالمحبة ، وإرادته المشحوذة على فولاذة العدل ، وفكره الغائص في عالم الالوهة.
مَـن كـبـولس لمثل هذه الرسالة في عالمِ خسر خلوده بالكبرياء، وضل طريقه بالمعصية ، وغرق في ديجور عبادة أصنام خطاياه وشروده، فضجت الأصنام بإثمها، وضج الإنسان بما خلقه كبرياؤه ، واحترق في سعير الجحيم الذي أوقدته المعصية ! مـَن كـبـولس هذه القوة الروحية لمثل هذه الرسالة المضنية ، رسالة مسح الجراح الثخينة ، ومحو الندوب التي تركتها الخطايا في هيكل الله المقدس ، وبتر زوائد الأهواء واستئصالها من الخيال المعطى إلهياً للنفس للتحليق ، ورؤية ما لا يراه الجسد في مسيره ، في عالم الأرض ، نحو عالم الكشوفات السماوية ، مـَن كـبـولس يقلب مفاهيم الحياة ، ويركز كيانها في الطريق المعدة للأبرار القديسين !
سهلٌ أن تقلب وجه العالم الترابي ، وأن تغير كل معالمه ، سهلٌ أن تنقل الجبال وأن تجفف مياه المحيطات . أما أن تقلب عالم الإنسان الداخلي ، أن تحول ظلمته إلى نور وخطيئته إلى صلاح ،وموته إلى حياة ، أن تجعله يولد من جديد فدون ذلك أخطار ومتاعب وعرق وعذاب . الإنسان إله على الأرض خلقه إله يملأ الكون ويخلق الخلود ، الإنسان يفكر كإلهٍ ويعمل كدودة تدب على الأرض ، المطلوب هو ربط عالميه الفكري الإلهي والإنساني ، المطلوب إعادة الخلود إلى الكون الذي يمثل الجسد البشري قمته الفنية ، المطلوب زرع الحرية الحقيقية في اندفاعات الجسد وبذر الأزلية محل مجاري الفناء الحاصلة بالخطيئة ،المطلوب تحريره من رطانة الأرض وتجهيزه للنشيد الذي انطلق بعد الغلبة على الموت بالصليب ، ولادة الإنسان في الروح تفرض نكران الذات ، تفرض العيش بالمحبة ، تقرض استيعاب مضمونه الإلهي فكرياً وإرادياً بالإيمان والمحبة لاستيعاب كمال الالوهة بالحرية والإرادة ، تفرض الارتداد من الشكل إلى المعنى لتنفتح الصورة بالنعمة لتفاعل خير ثماره الحرية ومردوده نحو النقاوة لينتهي بنور ويتم التفاعل في نطاق الحركة الإلهية العاملة في صورتنا من أجل الخلود بخلودها الكامل .
بولس ، هذا التراب الذي كان يمور بالفناء العاتي والأهواء المتصلفة ، يحوله الله في لحظة إلى إنسان آخر ، إنسان يعي مصيره ويدرك حقيقته ، في حوار يحمل كل طابع المأساة ، في حوار بينه وبين المخلص الذي جاء يضطهده ، في حوار لا يتعدى اللحظات الخاطفة يتصفى عالمه القديم بأوهامه وخيالاته وينحصر في قشرة سوداء حجبت عينيه عن رؤية العالم لتنفتح بصيرته على عالم كان يفهمه ناموساً متحجراً خالياً من كل خفقة سماوية . في هذه اللحظة الخاطفة أدرك مقدار ابتعاده عن الحقيقة التي ظهرن له نوراً يخطف الأبصار ، وفي غمرة من الصمت ، في غمرة من الانزواء المنسحق الذي يمثل الموت الاختياري انزلقت أفكار للموت وولدت أفكار للحياة فكان هذا المرسل ، هذه الشخصية العجيبة التي اختطفت إلى السماوات ونقلت كلمات سرية ، رسالة فيها عمق معنى التجسد الإلهي وغاياته وأبعاده واتساع أزليته وقداسة مراميه ، وأهدافه رسالة الخلاص والإنعتاق ، رسالة القدرة على تحويل الإنسان من مخلوق إلى مولود بالنعمة ، إلى كلمة مولودة مساوية له في الفعل والأزلية .
وهكذا في حوار مزدوج دائم ، حوار الرسول مع مرسله يبعث الرجاء والاطمئنان والثقة ويزيد في طاقات العمل الروحية وحوار مع أبناء الله الضالين ، حوار يستهدف عملية خلاصية تتحطم فيها الأصنام الفكرية ، وتتركز في أعماق القلب الإنساني الرحمة والغفران والمحبة والعدالة الإنسانية والإيمان الراسخ بدعوة الإنسان الإلهية ، كقواعد ثابتة لعلاقات البشر المتبادلة ولمنطلق للدخول بالأسرار الإلهية بالآب والابن والروح القدس ، إلى مدينة الله للاشتراك بكل مضمون الألوهة التي خسرها بالخطيئة والمعصية .
عالم المسيح يلخصه التواضع ، التواضع هو الباب الأول إلى المسيحية ، البطن للولادة الروحية هو المعمودية ، أما الباب فهو التواضع ، في المعمودية تواضع حتى الموت ، وفي التواضع انسحاق لبقاء عطايا المعمودية في حالة نموها ، في الحياة المسيحية تواضع لأنها تستهدف السمو بالإنسان ، الكبرياء هي سبب السقطة والبقاء في التواضع هو البقاء في سماحة الروح وبساطتها وسموها ، وكانت أول عملية في ارتداد بولس عملية معرفة نفسه ، عملية التنكر لكبريائه ، عملية العودة إلى تواضع الروح ، من أنت يـا مـــن تضطهدنـي؟ إن تراباً يحركه الغرور لا يمكن أن يقاوم الحقيقة ، وعيناً تطفيها ذرة تراب لا يمكن أن تقاوم منافس . مـــن أنت ! أكبرياء أنت ؟ أنت شريد تافه . ويدور شـــاول في أعماق نفسه ليرى أن من جاء ليضطهده قد استولى على كيانه وصار حلباً من حياتـــه ، أخذ يكتسح وجوده ، لقد تحول الإناء الترابي إلى إناء يفيض بالطيب ولاحـــت الشمس لم يكن يألف نورها ودفأها ، كل شيء قد انهار في داخل المضطهد . لم يبق في تلك الأعماق إلا تلك الصورة النيرة ، ذلك المشهد الذي قاده إلى الباب الملوكي ليدخل إلى العلية المقدسة آمناً مطمئناً برضا المخلص الذي حفظه وسط الضيقات ونجاه مراراً من الموت خدمة للرسالة التي وضعها واثقاً على عاتقه . يا لقدرة الإنسان إذا استمر متشحاً ثوب النعمة، إنه يحول الصورة الإلهية إلى ألوهـــة حقيقية ، إنه يصبح إلهـــاً متجسداً يترجم إرادة أبيه السماوي .
يحتاج العالم الحاضر إلى أصوات مقدسة تنسكب في أذنيه وتحرك أعماقه بالنشائد فيتحول بالقداسة إلى عامل يبني صرح ملكوته بلبنات روحية يقطعها من مقالع بهاء الصورة المشرقة بالخير والمحبة ، ومن كصوت بولس ، من كـأتعابه وجهاداتـه وعرقه واضطهاداته ومحبته وإيمانه ، هذه الأصوات التي بقيت في التاريخ وتبقى أصواتاً مقدسة تخاطب أجمل ما في أعماق الإنسان ليسمو ويصعد درجات الملكوت ؟ ومن كبولس قدوة للإنسان المثخن بالجراح المتروك على قـارعة الطريق محطماً ؟ من كرسول الكلمة يحمل الكلمة المعزية المبدعة الخلاقة للإنسان الظامئ للمحبة لتخلصه وللرحمة لتعزيه ولضمادات الشفقة لتضمد جراحاته، من كهذا الإنسان الذي حمل صليب المسيح ناكراً ذاته فرأى من وراء الصلب كل ملكوت الإله المتجسد . من كهذا السمير في ليالي الأرق والضنى وهذه اليد المخملية تمسح عن جبين الفكر القلق ، قلقه واضطرابه ! من كرجائه ينساب في دياميس اليأس : يأسه ويأس البشر فيحولها إلى خضرة رجاء يغمره الجمال ! بولس هذه القدرة الإلهية الهائلة من الفكر الخالد ، فـكـك كل الأفكار القديمة ، وجردها من كل فنائها ، وولدها من جديد بالنعمة ، وألقاها بذاراً للعــالم الجديد الذي يعيش تحت تأثيره حتى اليوم . إن بولس يقوم في أساس الحضارة الأوربية فهو خالقها وصانعها وبانيها وحبذا لو تحررت من زوائدها وعادت إلى مبادئ بولس الروحية والفكرية لعاش الحمل مع الذئب والأسد مع النعجة . الإنسان يحتاج دائماً إلى قوة العجيبة ، يحتاج إلى شخصية بولس الساحرة ، إلى هذا النهر الدفاق يجري في مجاري الحياة البشرية لينزع الجفاف من نفسها واليباس من قلبها والبرودة من عقلها والشلل من إرادتها، العالم لا يعيش بدون المخلص وبولس هو المثال الحي لما يمكن أن يكونه العالم مع المسيح .
إن الكاتب الألماني هولزنز وقد أسرته حياة الرسول وجهاداته وعذاباته من أجل الإنسانية ، قضى طوال حياته منقباً دارساً متنقلاً في الأماكن التي وطئتها أقدامه ليخرج للعالم الأوربي حياته بالصورة التي تليق في هذه الشخصية البانية لحضارة الغرب الفكرية ، وقد توقف الكاتب في إعطاء الصورة اللائقة بطريقة أخاذة ، وقد خلع الأنوار على الحقائق التي جعلها الإيجاز في الكتاب المقدس غامضة . وقد رأيت توخياً للفائدة أن أنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية على اعتبار أن الرسول بولس يهم أبناء الكرسي الأنطاكي لأنـه مؤسس كنيستهم وابن الكرسي الأنطاكي الحبيب، وعلى اعتبار حياته حياة لكل من أراد أن يدخل في صراع مع نفسه من أجل المسيح بحملـه لصليب المسيح ، وإني إذ أطرح بين يدي القارئ هذا الكتاب ، أكتفي بالقول أن الكتاب جامع شامل لا يحتاج إلى من يقدمه لأنه مقدمة من الحقيقة بصورة تستهوي وتأخذ بمجامع القلوب وتترك الإنسان في حالة من الإنخطاف والذهول أمام المعجزات التي يجترحها الإنسان المؤمن برسالة الحق المحرّر .
مقدمة كتاب بولس الرسول
ترجمة البطريرك الياس الرابع معوض
بقلم: اليان جرجي خباز