لا يسعني في هذه المحاولة أن أتوسع في تحليل معاني الكلام ومعاني الدين بغية التمكّن من الجواب عن الأسئلة الكثيرة والمعقدة التي قد تُطرَح في موضوع الكلام الدينيّ. أكتفي بعرض مبسَّط لما تتكوّن منه عملية الكلام، يليه عرض لأمهات الاصطلاحات التي يتكوّن منها الكلام الديني، يلي ذلك السؤال عن طبيعة هذا الكلام وعن طبيعة المعنى الذي قد يكون له.
عناصر عملية الكلام
أن أتكلم يعني أني، أنا المتكلّم، أقول شيئا، في موضوعٍ ما، للمخاطَب، وفاقا لمجموعة قواعد لغوية مشتركة، تجعل المخاطَب يفهم في أيّ موضوع كان القول وما مضمون القول في هذا الموضوع.
لدينا إذاً العناصر الآتية: المتكلّم، فعل القول، مضمون القول، موضوع القول، اللغة بمفرداتها وقواعدها، المخاطَب، فهم الكلام والتفاهم والتواصل. وقد أتوقّف عند ثلاث علاقات تربط بعض العناصر ببعض منها. العلاقة الأولى تربط ما بين المتكلّم والمخاطَب. والثانية تربط ما بين القول ومضمونه، أي الكلمات والأفكار. والثالثة تربط ما بين الكلام والموضوع.
العلاقة بين المتكلّم والمخاطَب علاقة تواصل وإفهام وفهم وتفاهم. بالكلام يبغي المتكلّم إبلاغ المخاطَب معلومةً ما، مفترضًا أنّ المخاطَب قد يتلقّاها ويفهمها، وأنهما قد يتفاهمان عليها، أي أن يفهمها المخاطَب كما يفهمها المتكلّم. وقد يتمّ ذلك باستعمال كلمات اللغة المشترَكة الواحدة، لكون هذه اللغة لغةَ الجماعة البشرية التي ينتمي إليها كلّ من المتكلّم والمخاطَب.
أما العلاقة بين القول ومضمونه، أي بين الكلمات والأفكار، فهي علاقة تجسّد واتحاد. فكما تتجسد النفس جسدا، أي تتّحد به، فيصيران كائنا واحدا مركبا، كذلك لا ينفصل الفكر عن الكلمة التي تعبّر عنه، أي التي تعبُر به من حميميّة النفس المفترَضة إلى الخارج والعلَن. ذلك أن العبارة المفيدة يمكن اعتبارها – ببعض التلاعب باللغة – عبّارةً تنقل من محلّ إلى آخر. وهي كذلك بالنسبة إلى المخاطَب، فقد تجعله يعبُر من جهل المعلومة والفكرة إلى تملّكهما وفهمهما. وقد تماثل هذه العلاقة العلاقةَ بين ما سمّي بالحرف والروح. فمنهم، كالرواقيّة، من فصل بين الحرف والروح، وقال بنطق داخلي (باليونانيّة: لوغس أندياتيتوس)، ونطق خارجيّ (باليونانيّة: لوغس بروفوريكوس)… لكن الواقع أن الفكر لا يتكوّن بالملء إلاّ متى صار حرفاً أي كلاماً. لذا كان في اللغة اليونانيّة اللوغس يعني الفكر والنطق، أي التفكّر والتكلّم على السواء. والأمر نفسه يقال في سائر اللغات.
يبقى العلاقة بين الكلام والموضوع. ويكون تفصيل هذه العلاقة على النحو الآتي. الكلمة لا تكون كلمة إلا متى كان لها معنى، كما سبق شرحه في عرض العلاقة السابقة بين القول ومضمونه، أي بين الكلمة والفكرة. والكلمة ومعناها يكوّنان معا إشارة. والإشارة تكون متى أشارت إلى موضوع. والموضوع قد يكون كائناً أو حدثاً أو حالة نفسية أو اصطلاحاً اجتماعياً أو أيّ شيء آخر. وفي هذا الشرح استند إلى التحليل الذي قدّمه مورّيس متّبعا نظرية بيرس في الإشارة والمشار إليه.
اصطلاحات الكلام الديني
لن أتعرّض لسرد جميع اصطلاحات الكلام الدينيّ مع ما يزيد عليه.. لاهوتيّو المسيحيين، فهي لا تُحصى. أكتفي بما يُظهره منها تحليل الأنظومة الدينية، … وأقوم بهذا التحليل على الوجه الذي قمتُ به في ما سبق من كتاباتي في موضوع الدين. وذلك انطلاقاً من اعتبار الدين أنظومةً ثقافية تعبّر عن طلب المطلق.
فالدين، مثَله في ذلك كمثَل أيّ مجال آخر من المجالات التي تتكوّن منها الأنظومة الثقافية الشاملة، وهي مجالات التقنية والفن والأخلاق والعلم والمجتمع. فهو يتكوّن من مجموعة معتقدات وعبادات وقيم أخلاقية ونظم اجتماعية والتزامات حياتية دنيوية. ذلك أن الدين، قبل أن تدخل على الأفراد والمجتمعات الحديثة الذهنيةُ العلمانيّة، كان له أن يلبّي حاجات الناس، وهي الحاجة إلى المعرفة، والحاجة إلى السلوك المثاليّ والسلوك الحسن، والحاجة إلى حياة مجتمعية متماسكة، والحاجة إلى ربط أنشطتهم في حياتهم الدنيوية بالقيم الروحية والمعتقدات. وهذه العناصر تتمحور حول قيمة تكون بمثابة شرط أو قطب موضوعيّ مثاليّ لها، وهي الله أو الكائن الأسمى أو المطلق. وبالنسبة إلى هذه القيمة كان من الدين موقف التسليم والطاعة أو موقف السعي إلى أصالة الكيان. وأخيرا لدينا الشروط الذاتية، أي القدرات والكفايات أو المواقف، وهي إما طلب الخلاص وإما طلب المطلق.
انطلاقاً من هذه القاعدة، يمكن استخلاص أمهات الاصطلاحات التي تعبّر عن التصور الديني للكائنات وللحياة. تجدر الإشارة بدءاً إلى وجوب عدم الخلط بين المقدّس والمدنّس، من جهة، والديني والدنيوي، من جهة أخرى. فالمقدّس ليس منفصلاً في كيانه عن المدنّس، حيث كان للإنسان أن يؤثّر، بواسطة طقوس كالذبيحة وغيرها، في سلوك الآلهة. أما القول بالديني والدنيوي، فإنه ليس قولاً بدرجات في الكيان، بل في كيانيَن مختلفَين جوهريا، أو عالمَين، هما عالم الله والإلهي، وعالم الإنسان، ليس بينهما تدرّج، بل هما يختلفان في كيانهما.
إذن لدينا أولاً الله والعالم الإلهي. ويقول الدين في الله إنه، في ذاته، كائن موجود، واحد، لامتناهٍ، ليس كمثله شيء. وإنه، بالنسبة إلى الإنسان وعالمه، خالق ومدبّر وديّان، منه كلّ شيء وإليه كلّ شيء. وإن علاقته هذه بالإنسان كانت بكلام الوحي والتنزيل، علما أن مبادرة الاتّصال بعالم الإنسان ليست من الإنسان، بل من الله نفسه.
ولمّا كانت المخلوقات، إذ صدرت عن الخالق، عليها أن تعود إليه، لكون الخالق هو الأوّل والآخر، منه الوجود وإليه المصير. ولمّا كان، في المسيحية، أن الإنسان خلقه الله على صورته ومثاله، وأن الإنسان عصى أمر الباري، صارت الحاجة إلى أن يقوم الله بمبادرة تخليص الإنسان وتحريره من عبودية الخطيئة، ومصالحته مع الله. ولما كان الله الكائن اللا متناهي، والإنسان الكائن المتناهي، لم يكن للإنسان أن يتلقى مباشرةً كلام الله. فوجب أن يكون بين الله والإنسان وسيط. والوسيط هو أولاً كلام الله – أو في المسيحية، كلمة الله – المتجسّدة ، وهو ثانيا إنسان اصطفاه الله وجعله نبيّاً يتلقّى كلام الله، وأرسله رسولاً يبلّغ الناس كلام الله. أما رسالة الرسول الوسيط، أي مضمون كلام الله، فهي الدين مدوَّنا في كتاب. والرسالة والرسول لهما علامات بها يتحقّق الناس من أنهما من عند الله. والعلامة القاطعة أن يصحبهما المعجز، أي فعلٌ يعجز البشر، لما هم عليه من طبيعة أو عادة، عن الإتيان بمثله. والوسيط، كي يقوم بالوساطة بين الله والإنسان، عليه أن يكون له وجه نحو الله يمكنه من تلقّي كلام الله، ووجه نحو البشر يمكنّه من تبليغهم هذا الكلام، أو أن يكون، كما في المسيحية، شخصاً واحداً اتحدت فيه الألوهة والبشرية. وكلام الوسيط يجب أن يكون كلام الله في شكل كلام البشر. وقد تقول المسيحية، ليس بتجلّي الله في الخلق وكلامه الموجَّه إلى النبيّ والإمام فحسب، بل أيضا بتجسّد الإله وتأنّسه، حيث اتحاد الألوهة والبشرية صار في شخص كلمة الله المتجسدة.
أما الإنسان، فهو، في التصوّر الديني، كائن مخلوق، جعله الله يعيش في الدنيا متوجهاً نحو الآخرة. فعليه، في حياته الدنيا، أن يتخذ موقفاً من الدين يكون جوابَه في مقابل كلام الله. فإما أن يكون موقفه موقف الإيمان والهدى، أي نعم لله، أو موقف الكفر والتشبيه والإلحاد والضلال، أي لا لله. ويتحقق الإيمان بالطاعة والقيام بفرائض الدين. ويكون الكفر بالعصيان. وفي الآخرة، ثواب الإيمان والطاعة الخلاص، في شكل النعيم في الجنة، أو في تأليه الإنسان، أي جعله ابنا لله بالتبنّي اكتمالاً لتجلي الله في كلمته. وعقاب الكفر والعصيان الهلاك، في شكل عذاب النار أو شقاء الندم على غياب الله حيث لا ينفع الندم.
معنى الكلام الديني وموضوعه
يمكن فهم هذه الاصطلاحات والتعابير التي تتألف منها على أن لها معنى هو الموضوع المشار إليه. فيكون مثلاً القول إن الله كائن موجود واحد لامتناهٍ يدل عليه في ذاته، والقول إنه خالق ومتكلّم يدل على أفعاله. وكذلك القول بالوسيط وبالإنسان في الدنيا والآخرة يدل على وجود موضوعي أنطولوجي للتنزيل والنبي والدين والآخرة. وقد يجد المؤمن في مثل هذا الاعتقاد طمأنينة تجعله يعيش متوافقا مع نفسه ضمن المجموعة البشرية التي ينتمي إليها. أما لو أخذ المؤمن – وغير المؤمن – يتساءل عن حقيقة الأمور، اصطدم بمفارقات أو تناقضات لا حلّ لها تنطوي عليها هذه التعابير والاصطلاحات.
أول التساؤلات كيف يكون للإنسان، الكائن المتناهي، تأكيد وجود كائن لامتناهٍ، بل كائن إلهي. في الأديان القديمة كانت الآلهة على علاقة طبيعية نوعا ما بالبشريين. فكان للإنسان أن يتصوّر تدرجاً في الكيان يكون الإلهي في القمة، ويكون له ما للبشريين من صفات. أما في الأديان التوحيدية، فالله ليس كمثله شيء. إذن أمكن السؤال: متى لفظ المؤمن كلمة “الله”، افتُرض فيه أن لهذه اللفظة معنى يدركه المتكلّم والمخاطَب. إذّاك يكون هذا الذي ليس كمثله شيء له مثيل في دنيا البشريين يمكّن من استعمال هذه اللفظة. وإذا قيل للمتلفظ بكلمة “الله” ماذا يعني بها، كان جوابه، في أحسن الأحوال، أن الله هو الكائن الأسمى المتحلي بأسمى الصفات. فيقال له: من أين لك، أنت الكائن الأدنى، أن تتخذ الكائن الأسمى موضوعا لتصوّرك ولكلامك؟ ومن أين لك أن تقول بكائن أسمى، إلا من أنك جعلت الكائنات متساوية في الكيان ومتدرجة في سلّم هذا الكيان.
أما المؤمن الذي دان بالتوحيد، فقوله “الله” يريد به ذلك الكائن المتعالي، الذي أعلن عن وجوده وعن نفسه وحياً وتنزيلاً. وبالتالي، في تصوّر هذا المؤمن أن الله موجود، واحد، خالق، متكلّم، وأنه بكلامه نزّل الدين. إذن أساس هذا القول في الله هو الوحي والتنزيل. ولما كان من الدين المنزل أن الله ليس كمثله شيء، صار لنا أن نسأل ما عسى أن يكون الوجود وأن تكون الوحدة متى نُسبا إلى الله. قد يعلم الإنسان معنى الوجود والوحدة بالاستناد إلى اختباره في عالمه. لكن على أيّ اختبار يمكنه أن يستند لينسب إلى الله الوجود والوحدة. فلدينا لفظتان ليس في وسعنا أن ندرك معناهما متى نُسبتا إلى الله. إذّاك ليس ما يسوّغ للإنسان استعمال هذين المفهومين وهاتين اللفظتين متى كان الكلام في الله. والأمر نفسه يقال في لفظتَي الخلق والكلام. قد يعلم الإنسان معنى أن يفعل ويُنتج أو يُحدث شيئًا يصنعه. لكن كيف له أن يعلم معنى أن يقوم الله بفعلٍ ما، وبفعل الخلق على وجه الخصوص. قد يقال إن الإنسان قد يُبدع في فن أو صناعة. ولكن ليس للإنسان أن يعلم كيف يخلق الله الكائنات من لا شيء، أو، كما قال بعضهم، لا من شيء.
ثمّ إذا كان من الدين أن الله مصدر كل كيان، وبالتالي أنه هو الكيان كلّه، فما عسى أن تكون الكائنات، هل هي من الله، فيكون القول بالحلول، أو هي غير الله، فلا يكون الله الكيان كلّه، بعدما خلق وكانت الكائنات. أما إذا قيل إن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، ناقض هذا القول مبدأ الدين القائل بأن الله ليس كمثله شيء، وكان السؤال عن صورة الله ومثاله كيف يكونان، وهل يكون الله بالتالي على صورة الإنسان ومثاله، بموجب التماثل بينهما. فصار على المؤمن أن يختار لنفسه التصوّر الذي يرتضيه، إما أن الله ليس كمثله شيء، وإما أن الله والإنسان يتماثلان في الصورة والمثال. وفي كلتا الحالتين، يبقى أن الإنسان لا يسعه أن يعرف ذات الله ولا صورته الأصليّة، وكيف يكون له صورة.
منهم من قال إن وجود الله يمكن أن يُثبته الإنسان بالبرهان العقلي انطلاقًا من المخلوقات. فمثلاً لمّا كانت المخلوقات ليست هي نفسها علة وجودها، إذ إنها تبدأ في الوجود وتنتهي، وجب أن يكون من يوجدها، وهو من يُطلَق عليه اسم الله. في هذا القول، صار الله كائنا يشبه وجوده وجود الإنسان، وصار كائنا يتناوله العقل البشري ويستنتجه كأيّ موضوع آخر من عالم الإنسان. ومنهم من قال إن فكرة الكائن اللامتناهي، أي الله، ماثلة في عقل الإنسان، وإنه لمّا لم يكن للإنسان، الكائن المتناهي، أن يكوّن هو نفسه هذه الفكرة، وجب أن يكون الكائن اللامتناهي هو من وضعها في عقل الإنسان، فإذن هو موجود. على الرغم من ظاهر المنطق في هذا البرهان، فقد يؤخَذ عليه أن فكرة اللامتناهي قد لا تكون فكرة، بل مجرّد لفظة صيغت بزيادة لا النفي على المتناهي الواقع في اختبار الإنسان. ثم منهم من أخذ على البرهان أنه يستنتج الوجود من مجرد فكرة. وقد يتوهم الإنسان أفكاراً عن كائنات لا وجود لها إطلاقا، من مثل ما يُحكى في قصص الأطفال. هذا، وقد يقال في صدد هذه البراهين أنها تفترض مسبقا وجود الشيء الذي تحاول أن تدلّل على وجوده. مما يدل على أن البرهان الضمني عن وجود الله إنما يستند إلى مقولة الوحي، بمعنى أن الإنسان يعلم وجود الله لأن الله أعلن عن نفسه تنزيلاً.
إذّاك كان السؤال في الكلام الذي به أعلن الله عن نفسه. يعلم الإنسان، استنادا إلى اختباره، ما هو الكلام وكيف يكون . فكلام الإنسان، في أقوال المتكلّمين، أصوات وحروف، ويقتضي أداةً جسدية تُخرج الأصوات وتخطّ الحروف . فما عسى يكون كلام الله؟ يقول المؤمن إن الأنبياء المرسلين سمعوا كلام الله وتلقّوه ونقلوه. مثل هذا القول يزيد الأمور غموضاً. فلا نعلم كيف يكون كلام الله، وكيف يكون الله متكلماً، وعلاوةً على ذلك، لا نعلم كيف صار كلام الله كلاماً بشرياً. إذا قيل إن الوسيط، بما له من وجه نحو الله ووجه نحو البشريين، هو من تلقّى كلام الله في قلبه كما تظهر صورة الشيء في المرآة، كان السؤال هو نفسه: كيف لمرآة بشرية أن تظهر فيها صورة كلام إلهي. ثم كيف التحقّق من تطابق الصورة في المرآة والكلام الأصليّ. ثم يقال إن علامة الرسول والرسالة إنما هي تلازم دعوى الرسول وإتيانه بمعجز يجترحه الله على يده. والسؤال: كيف التحقق من أن حادثًا ما أو فعلاً ما تعجز عنه الطبيعة البشرية، في حين أن الإنسان لا يعلم جميع ما يكون في مستطاع الطبيعة. هذا عدا ما يقوله البعض من خلق الله الطبيعة بقوانينها. فصار المعجز لا يكون سوى ما خالف العادة، أي ما تعوّده بعض الناس. وفي الأساس ما الدليل على إمكان أن يكون لإنسان وجه إلهيّ زائد على وجهه البشري، أو أن يكون شخص واحد إنساناً وإلهاً في آن واحد.
يبدو أن مثل هذه التصورات يبتدعها الاعتقاد بعالم إلهي وعالم بشري، والحاجة إلى ربط العالم البشري بالعالم الإلهي. وقد نعكس القول، فتسبق الحاجة إلى تجاوز حدود العالم البشري الاعتقادَ بوجود عالم إلهي. قد نعود إلى التفكّر في هذه الحاجة، فنقصر الكلام هنا على الاعتقاد. ذلك لأن عمارة الاصطلاحات الدينية تنبني على الاعتقاد. فالاعتقاد هو أساس القول بالله كائناً واحداً خالقاً متكلماً، كلّم الأنبياء وجعلهم وسطاء بينه وبين الناس. والاعتقاد هو أساس القول بالحياة الدنيا وبالآخرة والحساب والخلاص والهلاك. وفي الوقت عينه، من الدين أن الاعتقاد إنما هو عطية من الله، حيث لا يسع الإنسان الاعتقاد بما يفوق عالمه إلا إذا دفع الله في نفسه هذا الاعتقاد. فوقع الدور. وكانت العمارة الدينية مجرد تصورات تشير كل منها إلى الأنظومة الفكرية واللفظية، لا إلى كائنات.
وأخيراً فإن التأويل الأنطولوجي للكلام الديني يؤدي إلى .. وصف لله بصفات بشرية، وهذا ما يحتّمه الكلام البشري في الله، ولو قيل إن هذا الكلام البشري إنما هو كلام الله في شكل بشري. وعندها أيضاً صار من الدين عبادة كلام الله هذا في شكله البشري. فكيف يتلازم التوحيد، من جهة، والتشبيه والشرك في هيئة صنمية الكلام، من جهة أخرى؟…
انطلاقاً من هذه الملاحظات، قد يتجه التفكير نحو وصف الكلام الديني بأنه في جوهره مجموعة رموز، يكون علينا فكها والتعرف إلى ما ترمز أو تشير إليه في الواقع. وبدءاً فالرمز هو نوع من الكلام، يكون مدلوله الظاهر غير مدلوله الحقيقي. فمثلاً ليس العلَم في حقيقته قطعةً من النسيج لها هذه الألوان أو تلك، بل هو في حقيقته يرمز إلى الوطن ويشير إليه. وكذلك الميزان يرمز إلى العدل في هيئة المساواة. فما هي الحقيقة التي يرمز إليها الكلام الديني ويشير إليها؟
ثمة في الدين فرائض وعبادات ونظم اجتماعية قد تشير إلى ما يتوجب على المؤمن القيام به، حفاظا على كيانه الإنساني السوي وعلى اندماجه في مجتمع إنساني سوي. فالصلاة والصوم والصدقة والقيَم الأخلاقية تلبّي حاجة الإنسان إلى ما هو غير نزعاته ودوافعه الطبيعية الغريزية. وهذا الغير هو ما يرى الإنسان أنه حقيقته وخصوصية إنسانيته. أما ربط هذه الفرائض والقيم بقيمة متعالية مطلقة يتصوّرها كائناً متعالياً مطلقاً، فهو ينمّ عن حاجة الإنسان إلى شيء ثابت مطلق يحس بفعله في داخله وفي بنيته الإنسانية ويتأسس عليه سعيه إلى تحقيق حقيقته المثالية في واقعه اليومي. … . أما إذا كان شيءٌ ما من عند الله، فإنما هو تكوين الإنسان بحيث وُضع في بنيته اقتضاء التجاوز وطاقة على التجاوز. فصار من تكوين الإنسان أن يطلب المطلق إذ يطلب اكتمال إنسانيته. وفي هذا المعنى كانت وظيفة الأنظومة الدينية التي عليها تقوم قيمتها أن تعبّر عن طلب المطلق هذا، وعن أن طلب المطلق هو طلب الخلاص، وأن تكون سبيلاً وصراطًا يتمكن الإنسان المهتدي إليه أن يتوجّه صوب تلبية أسمى ما فيه من دوافع، هو طلب المطلق، أي طلب اكتمال الإنسانية فيه، فردًا كان أو جماعة.
بقلم: بولس الخوري